* د. رزان إبراهيم - أستاذ الأدب الحديث في جامعة البترا
إن كانت المؤسسات الثقافية تستخدم أفكارها ومطامعها لعرض وجهة نظرها في إطار من ثقافة إمبريالية خالصة، فإن كثيراً من الدراسات تدعو إلى التعامل بحذر مع منظومة القيم التي طورتها هذه المؤسسات، وهو أمر ينطبق على أدب الأطفال كما ينطبق على غيره، بما يستوجب عملاً دؤوباً يسعى إلى توجيه القارئ الطفل للتصدي لكل أشكال الظلم البشري، وعلى الأخص ذلك الجانب الذي يعاني منه الطفل الفلسطيني، وهو ما يمكن تحقيقه عبر إعادة قراءة المنتج الثقافي الموجه للطفل بطريقة منصفة بعيداً عن أنواع التسلط البشري، وضمن رؤية تعترف بقوة السرد على حمل تجربة ثقافية مضادة، غرضها نزع الطابع الاستعماري عن كل ما يقدم بصفته أدباً.
قد يقول قائل: ما للأطفال وثقافة المقاومة والعنف؟ دعوهم يعيشون بعيداً عن جو الهموم والحروب، يهنأون بطفولتهم البريئة. وهو تيار نجد له أصداءه الواضحة في عالمنا العربي، بدليل أن المتابع يجد عجزاً في السنوات القليلة الماضية في هذا المجال، ولعله أمر لا ينفصل عن توجه سياسي عام يعمل على محو ذلك الجانب المتعلق بالذاكرة الوطنية الفلسطينية. علماً أن كل شيء يمكن أن يقدم للأطفال، وتبقى العبرة في أسلوب التناول والعرض؛ فعقول الأطفال وحواسهم وعواطفهم مفتوحة لتلقي كل شيء بشراهة واستمتاع. يذكر أن مكسيم غوركي كان قد توجه برسالة مفتوحة، يسأل فيها الأطفال عما يرغبون في قراءته، فكان الرد: “نريد أن نقرأ كتباً عن الماضي، لكي نفهم الحاضر بشكل أفضل. نريد كتباً للمؤلفين الكلاسيكيين، وكتباً عن تاريخ الحركة الثورية عندنا، وفي الغرب، وعن الحرب الأهلية، والجيش الأحمر والاشتراكية...”.
في المقابل ما الذي يفعله اليهود في أدب أطفالهم؟ تقول لنا سناء عبد اللطيف في دراسة لها بعنوان”هكذا يربي اليهود أولادهم”: إن أدب الطفل لدى الإسرائيليين مفعم بالقيم اليهودية القومية، وعليه يتكئون بشكل كبير في تنشئة سياسية تهدف إلى خلق جيل ذي توجه تاريخي صهيوني، يرسخ الإحساس بالشعب اليهودي المضطهد -حسب الرؤية الصهيونية- في نفس الأطفال، وكان شعارهم الأساسي” لا ننسى، ولن نغفر”. ولعل قصة “المحارب القديم” ليوري إيفانز توضح هذا الشعار.
تتحدث القصة عن محارب انشقت عنه الأرض، فخرج منها توكيداً لمقولة إن فلسطين هي أرض إسرائيل.
“قالت لي الصغيرة: من الذي سرق القمر؟
قلت: العرب.
قالت: ما الذي يفعلون به؟
قلت: يعلقونه على جدران بيوتهم.
قالت: ونحن؟
قلت: نحوله إلى مصابيح صغيرة تضيء أرض إسرائيل كلها.
منذ ذلك الوقت، والصغيرة تحلم بالقمر، وتكره العرب، لأنهم سرقوا حلمها، وحلم أبائها.
وتكتمل القصة بخروج المحارب القديم الذي يقاتل العرب، وينتصر عليهم، ويعيد القمر. لكنه يقتل على يد واحد منهم. ولكن الأميرة لم تبك؛ فقد تحقق حلمها، وأشرق القمر من جديد على أرض إسرائيل.
ففي أدب الأطفال الصهيوني، تشيع قصص البطولة اليهودية، في قراءة معكوسة تجعل قوة اليهودي في نفس قوية مجردة من السلاح، خلافاً للعربي حامل السلاح والمهزوم من الداخل. كذلك يلاحظ متابعو الأدب الموجه إلى الأطفال خارج إسرائيل، ومنهم هادي الهيتي مؤسسات صهيونية تقف وراء مؤلفات عديدة أشهرها كتاب ملون برز في أوروبا اسمه “ داود الصغير”، يقدم فيه للأطفال مورد الوجه، مبتسم الأسارير، وقد مرت عليه محن عمرها عشرون قرناً، دون أن يفقد ابتسامته، أو يفقد أمله في أرض الميعاد. ويظهر العرب في هذا الكتاب معتدين، مع مراعاة ربطهم بهتلر. والكتاب عموماً يزرع في خبث شديد بذور الشفقة في نفوس الأطفال تجاه داود الصغير، الذي وجد نفسه في مستهل تأسيس دولته يواجه اضطهاد العرب والإنكليز معاً. وهو الاضطهاد الذي عبرت عنه أيضاً قصة “ كتكوت صغير” الذي يقف وحيداً وسط أعداد من الديكة المتوحشة الملتفة حوله بغرض الفتك به. بينما ينادي الكتكوت الصغير بأنه لا يريد سوى العيش في سلام وسط هذه الديكة المعتدية.
قد يبدو نص ما لنا وحيداً أو منفرداً، إلا أن الحال يقضي كما يقول فيصل دراج في مقدمة له في كتاب(غابة المرآة) أن: “ كل كتاب يفضي إلى كتاب، وكل كتاب جديد يفضي إلى كتب، والكتب الكثيرة توسع المعارف، وتقصي اليقين”. من هنا يأتي حقنا بالاحتفاء بقصص موجهة للأطفال قادرة على هدم مكونات سياسية أحادية الجانب مغرضة، ترد في إطار ثقافة أصلية تتحدى وتحاول أن تفند أقوالاً كثيرة كتلك التي يصدرها الفكر الصهيوني، في مسار يقترب من قراءة مضادة مؤثرة وفاعلة، تمتلك قدرة على تعرية التناقضات المحبوكة في الوجود الشكلي لنص ما.
لابد من الاعتناء بنصوص قادرة على هدم مكونات الحادثة الثقافية الصهيونية، وإعادة تركيبها، فمما لاشك فيه أن قصص الأطفال واحدة من الوسائل الناجحة الخادمة لفئة سياسية واجتماعية معينة؛ فكل فريق يرى نفسه في النص، ويسقط عليه أمنياته، ويرى فيه دفاعاً عن مصالحه، وهجوماً على خصومه. فالطفل العربي معني بمعرفة الحقيقة، وهو ما يمكن تحقيقه عبر إطار فاعل في الكتابة يتبنى حالات كتابية تنحو إلى تفكيك الخطاب الاستعماري، فتكشف للطفل في كل مكان عما حدث لفلسطين من وجهة نظر من وقع عليهم الظلم، مما يعد جزءاً من ذاكرة فلسطينية لا بد من أن يحتفظ بها العقل والقلب معاً.
إن كنا بالضرورة ننحاز لرؤية تقيم اعتباراً كبيراً لضرورة توفير أسباب الغبطة للأطفال، فهذا لا يعني حصر اهتمام الأطفال باللعب وحده، فطفل اليوم تابَع بعيون خائفة مشاهد حية مؤلمة، والأطفال لا ينسون، وهم بأشد الحاجة إلى أدب يعيد صياغة ما يرون ويسمعون، ليكون ركيزة أساسية تساعدهم على التعامل معه في المستقبل العاجل. وإن كنت قد اخترت هنا الحديث عن الصراع العربي الإسرائيلي في أدب الطفل العربي، فلأننا نعتقد أن أطفال فلسطين كان لهم النصيب الأكبر في معاناة طويلة استمرت عقوداً طويلة.
جدير بالذكر هنا أن كُتّاب الأطفال ممن تناول الصراع العربي الفلسطيني مؤخراً عزفوا عن التعبير المباشر عن المعاناة الفلسطينية، وآثروا على نحو لافت أن يقدموا حكاياتهم المختلفة على لسان الحيوانات. وبدا لي واضحاً تنوع الحيوانات في عديد من القصص التي تابعتها؛ فظهر الأرنب، وهو ما اعتدنا عليه في القص الشعبي صالحاً للاستخدام في دور الأشخاص عديمي التجربة، وظهرت العصافير بما عرف عنها من أنها تعبر عن الإنسان المسالم، بينما تعبر أعشاشها عن الأرض والوطن، ويأتي دفاعها عن بيوتها لتأكيد فكرة دفاع الإنسان عن أرضه ووطنه. أما الثعلب، فقد رأيناه ذكياً خبيثاً، قادراً على استخدام الحيلة. ويتراءى لي في هذا السياق أن تركيزاً على الحيوانات يحرك تفكيراً يلاحظه سهيل عناية الله من أن عنصر الخيال في الرؤية يتزايد عندما تتحول صور المستقبل الممكنة إلى شبه مستحيلة، وهو ما لا ينفي بالضرورة أهمية هذا النوع من القصص.
ومن باب العرفان، يغدو من الضروري تذكر الكاتبة الفلسطينية روضة الفرخ الهدهد التي كتبت مجموعة من القصص المقاومة للوقوف في وجه الغطرسة الصهيونية منها: عز الدين القسام، سر القنابل الموقوتة، قافلة الفداء، الزمن الحديث، رحلة النضال، منقذ القرية، صائم في سجن عكا، أسد فوق حيفا، كفر قاسم، وهو ما نهجت فيه شخصيات إنسانية تاريخية حقيقية، خلافاً لما شهدناه في كثير من نماذج أدب الطفل الفلسطيني التي اطلعت عليها.
يبقى أن تفكيراً بضعف أدب الأطفال الخاص في فلسطين يبقى قائماً. علماً أن هذا الموضوع الهام حرك بعض الأوروبيين للكتابة عنه، فالقاص ستارك أولف كان قد زار الضفة الغربية وقطاع غزة، واطلع على حياة الناس هناك، فكانت قصته “ الصبي والصبية والجدار” التي استوحاها من كلمات الشاعر الفلسطيني محمود درويش عن مجموعته “ لماذا تركت الحصان وحيداً”، ليصوغ منها حكاية فلسطينية تتحدث عن معاناة أطفال فلسطين من جدار الفصل العنصري. وفيها يتحدث عن فتاة فلسطينية تدعى سلافة، تعيش هي وأخوها مع والديهما في ظل جدار الفصل، الذي يقف حائلاً بينها وبين الحديقة والمدرسة. حين تقرأ سلافة الشعر أمام معلمتها تقول: “ لا أريد من الشمس أكثر من حبة برتقال”. يقف بعدها كل شيء تبجيلاً لذلك الصدق المنهمر في تلك اللحظة الفارقة.
وأخيراً نعود إلى التذكير بخطورة ما يفعله أدب الطفل الصهيوني، الذي يطالب باحترام الحكاية الإسرائيلية مهملاً الحكاية الفلسطينية، حريصاً على قلب الحقائق أمام الرأي العام بحيل لا تنفذ تحرص قبل كل شيء على جعل الجلاد هو الضحية، بينما تقف الضحية موقف الجلاد العاجز على الرد بما يقتضي الموقف. بما يستدعي مزيداً من الاهتمام بكل ما يدعم وجهة النظر العربية الفلسطينية أمام العالم بأسره