لا شكَّ أنَّ مادةَ الرياضيات من المواد المهمة في حياة الفرد، لا أدري لماذا بالضبط؟ فانا وُلِدتُ أكرهها وأكره أباها وأُمها، ولكنها مع ذلك مهمةٌ جدًّا لمن يبحثون عن شهادةٍ جامعيةٍ في تخصصات علمية كثيرة، أما الأهمية الأُخرى في مادة الرياضيات فهي الأهمية اللغوية، فالرياضيات من العلوم الرياضية، مشتقةٌ من ثلاثيٍّ باعتلالٍ واويٍّ أو يائيٍّ؛ فَراضَهُ روْضًا ورياضةً، وليس هذا ما يهمُّنا، فالرياضةُ جسميةٌ وعقليةٌ ونفسية، وقد حثَّ الكلامُ العتيق على الرياضة، وَقَرَنَ سلامةَ الجسدِ بسلامةِ العقل، فقال:" العقل السليم في الجسم السليم" وما علاقةُ الرياضة بالرياضيات؟ قد يسألُ سائلٌ. فالرياضةُ أخذت زُخْرُفَها وازَّيَنت وأنبتت من كلِّ خوارزميةٍ ما يُعقِّدُ الطالبَ الطالبَ علاماتٍ تضمن له مقعدًا جامعيًّا لا يقعُدُهُ إلا طالبٌ تعقَّدَ وهو يفكُّ عُقَدَ اختبارٍ فلَكِيٍّ، ولكنَّ التزاوج اللغويَّ، واختراق المعاجم العربية واختلاط موادها، قد جعل الأمرَ يختلطُ علينا جميعًا، فخلطْنا الرياضةَ بالرياضيات، وأفْقَدنا الرِّياضيات تفاضلَها وروح تكاملها، ولم يعد الطرح والجمع والقسمة والضرب عملياتٍ حسابيةً بسيطةً، لأنها مع الممارسة تحولت إلى عمليات معقدةٍ، يصنعها أناسٌ ليسوا أقلَّ تعقيدًا من أساطين اللغة الذين سهَّلوها على الطلبةِ نحتًا وتقعيدًا.
لا أظنُّ أنَّ الأصواتَ الفَتِيَّةَ الشابةَ التي صاحت وناحت، والعيون التي بدموعها باحت، كانت عبثيةَ النبرِ والهمز واللمز، والشَّتمِ البريء في بعض الأحيان. إنَّ خروج عشرات آلاف الطلبة من أبناء الثانوية العامة من قاعاتهم، باكين متذمرين نادبين حظوظهم، ساخطين على الامتحان ومن وضعه، ومن فكَّر به، يساندهم في ذلك بعض أولياء الأمور الذين استشهدوا بالرُّواةِ الثقاتِ المجموعين جمعًا سالمًا لا شيَةَ فيه ولا تكسير، من مُدرِّسي مادة الرياضيات في المدارس الثانوية، لا يمكن أن يكون تذمُّرُهم عبثيًّا أو اعتباطيًّا، بل لا بدَّ أن يكون نابعًا من حُرقةٍ ضمائريةٍ لم يشعر بها واضعو الأسئلة، الذين على ما يبدو كانوا من خارج دائرة (معلم صف)، وأغلب الظنِّ أنهم ينتمون إلى دائرة(مُحاضر)، وهذا يعني أنهم ليسوا من صميم الهمِّ التعليميِّ، وليسوا في نطاق دائرةِ التصنيع المستهدفة، أعني أنهم ربما يكونون من حَمَلةِ الشهادات العليا، المحاضرين في بعض الجامعات، وقد يكون قد غاب عن أذهانهم، أنَّهم يستهدفون عقولًا طريَّةً، لم تقوَ على تصميم الجسور المعلقة وتفكيكها بعد. أو أنهم من بعض المدرِّسين الذين ارتاضوا حديثًا، فلم يروِّضوا عقولهم، بل دربوا عضلاتهم جيدًا، وحان الوقت لاستعراضها.
لستُ مع فكرةِ أنَّ هناكَ مدرِّسًا واحدًا يرغب في فرد عضلاته على طلابه، ولستُ مع فكرةِ أنَّ الوزارة – كما يعتقد بعض الطلاب- توصي أو أوصت واضعي الأسئلة بضرورة رفع حرارتها قليلًا أو كثيرًا، ولست مؤمنًا بأنَّ معلمًا ما يرغب عن قصدٍ أو عن غير قصد في تحدي طلابه سلبيًّا، أو الضغط على قلوبهم بهذه الطريقة، أو أن يتعاضلَ أمامهم، وأن يستقوي عليهم بعلمه الذي جناه عبرَ السهر والكدِّ والمِران والمثابرة. ولكنَّني أقفُ حائرًا أمامَ هذه الضجةِ التي لم تكن عابرة، ولا محددة، بل كان الصوتُ المتذمر يمرُّ من جنين ليُصَفَّق له في الخليل، ويرحَّب به في غزة، ويُعانَق في نابلس وبيت لحم وطولكرم وسلفيت ورام الله. وهذا يعني أنَّ المشكلة ليست بسيطة، بل إنَّ هناك مصيبة حقيقية، وجائحة فكرية عمَّت وطمَّت. ومن خلال استماعي ومشاهداتي لعديدٍ من طلبة الفرع العلمي، وهم يغتسلون بدموعهم بعد خروجهم من القاعات، وكأنهم استعاروا لسانًا واحدًا ليَلْهَجَ بشكواهم.
ولأنَّ علاقتي بالرياضيات تشبه علاقةَ الحَلَوَنْجي بعالم الفلك، فلا أدَّعي أنَّني أعرفُ عنها شيئًا يستحقُّ الذكر، ولكنَّ شهاداتٍ كثيرة من ذوي الاختصاص، تؤكِّدُ صعوبةَ الاختبار، وتؤيِّدُ الهرج والمرج حول صعوبة الاختبار، وتتفهَّمُ حالةَ التذمُّرِ والقلق التي يعيشها أبناؤنا الطلبة، التي استدعت وبشكلٍ سريعٍ أن تخرج وزارة التربية والتعليم ببيانٍ توضيحيٍّ يؤكِّد أنها حريصةٌ على مصلحةِ أبنائها الطلبة، وفي رسالةٍ تطمينية يحملها البيان المقتضب، فإنَّ إقرارًا منها بصعوبة الاختبار يبدو واضحًا، حيث جاء ذلك جليًّا في بيان الوزارة الذي أرسله لي أحد الزملاء، وهو مدرِّسٌ لمادتي الفيزياء والرياضيات، ووليُّ أمرٍ لطالبٍ في الثانوية العامة، وقد أخبرني أنَّ ابنه على ذكائه قد تذمَّر بشدَّةٍ من صعوبة الاختبار. وأقتبِسُ من ذلك البيان المقتضب: "إنَّ الوزارة تطمئنُ أبناءَها الطلبةَ وأولياءَ أمورهم، وتؤكد أنَّ جهات الاختصاص ستتخذ الإجراءات اللازمة بما يخدم مصلحة الطلبة". إنَّ هذا يدلُّ من جهةٍ على المسؤولية الحقيقية والشفافية التي تتمتع بها وزارة التربية والتعليم، ولكنه من جهة ثانية يضعُ علاماتِ استفهامٍ كثيرةً حولَ دائرةِ واضعي الاختبارات. فهل أخذ واضعو الأسئلة بعين الاعتبار أو أنفه الحالة النفسية التي مرَّ بها الطلاب جراء الجائحة؟ وهل كان نصب أعينهم الضرر الذي أحدثه الغياب الطويل عن المدرسة، وهل استمعوا إلى خطاب معالي وزير التربية والتعليم د. مروان عورتاني الصريح حول التعليم الوجاهي والتعليم عن بعد؟ أو على الأقل هل فهموا منه ضمنيًّا أنه لا بدَّ من أخذ كل هذه القضايا بعين الاعتبار؟ هل كان بين واضعي الاختبار مختصٌّ نفسيٌّ؟ وهنا قد يسأل السائلون عن جدوى المختص النفسي. فأقول: إنَّ دائرة الإرشاد النفسي والتربوي هي دائرةٌ فاعلةٌ ذات قيمة عالية، وفعلُها يجب أن يتجاوز حدود التعامل الفردي مع حالات خاصة، بل إنَّ اختبارًا كهذا، يجب أن تشترك في صياغة بنوده هذه الدائرة. مع يقيني أنَّ طلاب الثانوية العامة هذه السنة بلا استثناء باتوا محتاجين لهذه الدائرة بعد هذا الاختبار العضلَنْجي المتين.