الإثنين  25 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

متاحف تحت الأرض| بقلم: د. سامر العاصي

2020-06-14 07:31:20 PM
متاحف تحت الأرض| بقلم: د. سامر العاصي
سامر العاصي

 

إذا زرت موسكو ولم تزر محطات المترو هناك، فأنت لم تزر موسكو بعد، وإذا زرت محطاتها، ولم تزر محطة ساحة الثورة، (بلوشيد- ريفاليوتسيا)، في وسط المدينة، الواقعة على عمق  34 مترا تحت الأرض، لتفرك بأصابعك، الأنف البرونزي لتمثال الكلب "اينجوس"، الجالس إلى جوار تمثال صاحبه الجندي "نيكيتا"، من حرس الحدود، الذي استطاع تعقب آثار الكثير من المهربين، والتي كانت تحوي عند افتتاحها 80 تمثالا، (أصبح عددها اليوم 76 تمثالا فقط)، وتتمنى أمنية، فكأنك لم تزر مترو موسكو بعد!. وتقول الحكاية، إن الطلاب الموسكوفيين هم من بدأوا هذا التقليد، أثناء تقديمهم للامتحانات، اعتقادا منهم أنه سيجلب الحظ السعيد لهم. الطريف ذكره، أن الفضل في بناء هذه المحطة يعود لوزير الخارجية البريطاني "آنذاك" (ورئيس الوزراء البريطاني في الخمسينات)، السيد انتوني ايدن، الذي كان في زيارة لموسكو، أعجب خلالها بمحطة مترو "كرا-بوتين-سكايا"، طالبا مقابلة مهندسها المعماري!، ولما كان المهندس "الكسي" في السجن السوفيتي، فقد أمر ستالين بالإفراج عنه فورا. وشاءت الأقدار أن يُكلف الرجل ببناء محطة مترو "ساحة الثورة"، شريطة أن تليق بالذكرى ال 20 للثورة السوفيتية.

ومع أن مترو موسكو تم بناؤه بعد مترو لندن وباريس وبرلين بسنوات، إلا أنه اكتسب شهرة عالمية، حتى ظهرت محطاته وكأنها قصور أو متاحف، فالكثير من الجدران وأعمدة المحطات بنيت من الرخام والجرانيت والعقيق الجميل، كما ظهرت منحوتات ولوحات ونقوشات من الفسيفساء، تصور أهم الأحداث التاريخية التي رافقت ظهور الحقبة السوفيتية، حتى أنك تجد لوحات فنية، غاية في الروعة والجمال، تنسيك "صوت وضجيج عربات" المترو، لتجعلك تظن بأنك في متحف تحت الأرض. كما أن 90% من محطاته تقع تحت الأرض، مما جعله دافئا في الشتاء وباردا في الصيف. وتقع إحدى محطاته الحديثة، "محطة حديقة النصر"، على عمق 84 مترا، مما جعله يحوي أطول درج متحرك في العالم بطول 126 مترا، الذي يحملك من الأعلى، لأكثر من 3 دقائق، كي يصل بك إلى قاعة المحطة.

وتعود قصة بناء المترو، إلى يوم 6 كانون ثاني| يناير من العام 1931، عندما توقفت المواصلات في شوارع موسكو بسبب تراكم الثلوج، مما أصاب المدينة بشلل تام. وبعد 6 أشهر، أوكل "جوزيف ستالين" لمساعده الرفيق "كاجانوفيتش" البدء بإنشاء مترو العاصمة. وخلال أقل من 4 سنوات، تم افتتاح أول خط مترو، الذي ربط شمال المدينة بجنوبها من خلال 13 محطة، بنيت جميعها تحت الأرض. الغريب أن "ستالين" رفض أن يسمى المترو باسمه، وإن كان الرجل قد أمر بأن توضع تماثيله في كل المحطات، لذلك سُميَ مترو موسكو في البداية، باسم "مترو كاجا-نوفيتش"!. 

وفي بداية الحرب العالمية الثانية، ومع غارات هتلر الجوية على موسكو، كانت محطات المترو تشكل الملجأ الأكثر أمنا لسكان العاصمة. ومع نهاية الحرب في العام 1945 تمت إعادة تسميته إلى "مترو لينين"، تيمنا باسم مؤسس الدولة الشيوعية، فلاديمير لينين، وذلك بعد أن تم تغيير اسم محطة كاجا-نوفيتش، القريبة من الساحة الحمراء، إلى محطة "كارل ماركس". وفي عهد الرفيق "نيكيتا خروتشوف"، تم خلع تماثيل ستالين، وما يمت للستالينية من إشارات فنية بعد أن حذفت صوره من جميع لوحات الفسيفساء التي كانت منتشرة على جدران وأسقف كل المحطات، إلا أن صورة واحدة ليد طفل صغير، في محطة مترو "كوزنتسك"، ظلت وحتى الآن ممدودة إلى السماء، التي كتب عليها، "المجد للأبطال المدافعين عن ستالينجراد"، وهي الجملة الوحيدة التي ظلت تُذكر الناس بمجد وعظمة ستالين، وإن اختلفت الآراء حوله.

ومع بداية تسعينات القرن الماضي، وبعد انهيار الدولة السوفيتية، قام الرئيس بوريس يلتسين، بتغيير أسماء الكثير من المحطات التي كانت ترمز إلى تلك الحقبة، بادئا بمحطة "أبو الشيوعية"، محطة "كارل ماركس"، التي صار اسمها، محطة "أخوتني رياد"، وهي الاسم القديم للشارع التجاري الذي يقع فوق المحطة. ومن الجدير ذكره، أن امتداد هذا الشارع، هو شارع "مكسيم جوركي" (أديب الثورة الشيوعية)، وهو الشارع الأجمل في موسكو، الذي تمت إعادة اسمه القديم إليه، ليصبح اسمه شارع  "تفير-سكايا"، الذي يحتضن في منتصفه، محطة المترو التي يعتبرها سكان العاصمة المحطة الأعز والأكثر قربا ودفئا لقلوب الموسكوفيين، والمسماه منذ العام 1935 وحتى اليوم باسم الشاعر الروسي الشاب "فلاديمير مايا كوفسكي"، الذي مات منتحرا قبل أن ينصفه النظام الشيوعي. وتعود شهرة المحطة للأشهر الأولى من الحرب العالمية الثانية، عندما كانت جيوش هتلر تبعد عن الكرملين أقل من 15 كيلومتر. ففي يوم 6 تشرين 2|نوفمبر من العام 1941، وصل "ستالين" إلى قاعة محطة المترو هذه، عن طريق ممرات وأنفاق المترو السري الذي كان يربط منزل الزعيم بجميع أرجاء موسكو، وذلك للاحتفال بالذكرى ال 24 للثورة البلشفية. وألقى الرجل خطابا تاريخيا تعهد فيه بدحر المعتدين ودك عاصمتهم برلين. ومن الجدير ذكره أن "ستالين" أمر ببناء 6 أنفاق تربط بين الكرملين وملجأ ستالين العسكري السري، والمؤسسات الهامة في المدينة، مثل رئاسة الأركان وحتى المطار. 

الطريف ذكره، أن العشاق الموسكوفيين، يضعون آذانهم على الأعمدة المتقابلة، في المحطة، ثم يقومون بالهمس أو الكلام، لينتقل الصوت بوضوح تام من خلال تواصل الأعمدة، إلى الجهة المقابلة، دون أن يسمع الشخص الواقف بينهما الحديث مطلقا. كما أن الصغار يقومون بدفع عملة معدنية، من طرف إلى طرف آخر، لتتدحرج عبر السقف الواصل بين العمودين، دون أن تسقط أرضا!. يذكر أن "حبيبة مياكوفسكي"، هي من كتبت في العام 1935، رسالة إلى "ستالين"، أي بعد انتحار حبيبها ب 5 سنوات، تطالبه بإحياء اسم "شاعر الشعب"، وعليه قرر الزعيم تسمية أجمل الساحات في المدينة باسم "مايا-كوفسكي"، وجعل اسم محطة المترو هناك، تحمل اسم الشاعر أيضا، حتى أن المحطة حصلت على الجائزة الكبرى في المعرض العالمي للتصاميم الهندسية في نيويورك عام 1939.

ومن الطريف ذكره أيضا، أن الإعلان عن ضرورة الابتعاد عن أبواب العربات، أو تنبيه الركاب بأسماء المحطات القادمة، عبر السماعات المنتشرة في العربات، يتم عبر صوتين، الأول صوت رجولي، يبدأ من المحطات المتجهة من أطراف المدينة إلى وسطها، في إشارة إلى "الدعوة إلى العمل". أما الصوت الأنثوي، فيبدأ من المحطات المتجهة من وسط المدينة إلى أطرافها، وهو ما يعني أن سيدة البيت بانتظار رب الأسرة وأفرادها إلى الغداء أو العشاء.

ويعتقد عشرات الآلاف من السواح الذين يلتقطون يوميا، مئات الآلاف من الصور للتماثيل البرونزية والرخامية وللوحات الزخارف والفسيفساء وللوحات الفنية، المعلقة على مختلف جدران محطات مترو موسكو، البالغ عددها اليوم 233 محطة، المنتشرة بطول 408 كيلو متر، والموزعة على 14 خطا، يحملون كل يوم ما يقارب من 7 مليون شخص، حوالي 2.5 مليار إنسان سنويا، إن مترو موسكو هو أفخم وأجمل" مترو في العالم، لحسن ترتيب وتوزيع محطاته، وسهولة استعماله، (بالمناسبة:- أنت لن تجد أية مجموعة من السياح يزورون أي محطة من محطات المترو في العالم كله). وقد يكون العامل المشترك بين كل هذه الصور، هو استحالة ظهور بقايا لسيجارة، أو لقطعة ورق صغيرة، أو أية "قاذورات" مهما بلغ حجمها على أرض كل محطات مترو موسكو النظيف "جدا"، حتى أن بعض دور الأزياء العالمية، قامت بتنظيم حفلات عروض أزياء عام 2019 داخل محطات مترو موسكو.

ترى، متى ستصبح شوارعنا، ولو حتى عند أبواب مدارسنا وجامعاتنا وحدائقنا وبيوتنا، نظيفة كنظافة مئات محطات مترو موسكو تحت الأرض؟ أم أن الشخص منا، لن يصبح غاية في النظافة، إلا بعد أن ينزل هو بنفسه إلى ما تحت الأرض؟