يعاني المجتمع الفلسطيني كأي من المجتمعات مشاكل اجتماعية من شأنها أن تكون خطيرة وهدامة. وتزداد خطورة هذه المشاكل بشكل خاص كون المجتمع الفلسطيني لا يتمتع بدولة ذات سيادة ويواجه ضعفا في سلطاته القضائية والامنية نتيجة الاحتلال والتقسيمات الجغرافية الناتجة عن اتفاقية اوسلو. ومع ذلك فإن هناك اجماعا على ضرورة التدابير والإجراءات التي من شأنها تحقيق الاستقرار والأمن الاجتماعي الأسري، لما في ذلك من أهمية على استقرار المجتمع ونموه وتحقيق العدالة. من هنا تأتي أهمية إقرار قانون لحماية الأسرة من العنف كمطلب وطني وضرورة أساسية لمواجهة العنف الأسرى المتزايد في الآونة الأخيرة والذي وصل في العديد من الحالات التي تم الإعلان عنها إلى حد الضرب المبرح، والقتل، والحبس خاصة ضد النساء. إن خصوصية هذا النوع من الجرائم يتطلب تدخلات فعلية وتشريعية خاصة تؤمن الحماية لأفراد الأسر خاصة النساء، والأطفال، والأشخاص ذوي الإعاقة وكبار السن، ولكن تضمن في الوقت ذاته الحفاظ على خصوصية الأسرة كنواة المجتمع، وعلى النسيج المجتمعي الأكبر بكل مكوناته وأطيافه.
تعالت أصوات كثيرة مؤخرا تندد بهذا القانون وتجرم وتخون وتكفر من يحمل راية هذا القانون، ومن ثم علت أصوات أخرى تدعو بعدم المس بأي بند من بنود المسودة الأولى وأن حماية الأسرة من العنف ورفع الضيم عن الأسرة المعنفة لن تتم إلا بإقرار قانون حماية الاسرة من العنف المطروح حاليا أمام مجلس الوزراء. فهل هذه الحوارات على كافة الفضاءات يوميا حقيقة تضعنا أمام مطلب مجتمعي لحماية الأسرة والمرأة من العنف......أم أن هذا صراعا مجتمعيا لفرض هيمنات وقوى تعمل على بناء مراكز أو تصفية حسابات من خلال نقاش مسودة القانون!؟
ولعل مما زاد النقاش حول القانون تأجيجا أن هناك الكثير من الأصوات التي ربطت هذا القانون مع اتفاقية سيداو سواء من قبل من هم مع أو ضد سيداو أو من هم مع أو ضد القانون بنسخته الحاليه كونهم ادعوا أنه ظهر بمظهر إملاءات سيداو. وكذلك تعالت الأصوات التي اعتبرت هذا القانون يخالف الشريعة مخالفات جوهرية وأساسية، وهنا انقسم المجتمع الى ثلاث فئات: من هم مع الاتفاقية ومع القانون أولاً، ومنهم من هم ضد الاتفاقية وضد القانون ثانيا، وأخيراً الفئة الأغلب التي لم تحدد موقفها وترى الوضع أمواجاً متلاطمة وغموضاً مزعجاً وتشعر أن هذا الوضع لا يمت لها بصلة ولا يمثلها - وهو الأخطر!
لا يتطرق هذا المقال إلى تفاصيل مسودة القانون بحد ذاته، ولكنه يطرح أسسا في بلورة التشريعات ومبادئ المشاورة المجتمعية الصحية التي من شأنها خلق أرضية توافقية بالحد الادنى ولا نقول توحيد المواقف، الامر غير قابل للتحقيق من ناحية عملية لدى سن أي تشريع في أي دولة بخصوص أي موضوع! اذ لا بد من وجود مؤيد ومعارض لأي قانون وهذه حالة صحية. ولكن ومن منطلق الحرص على أهمية مبدأ الحماية من العنف من جهة ووحدة وتناغم المجتمع وضمان حرية المعتقد من جهة أخرى، ارتأينا في هذا المقال أن نلخص بعض الملاحظات المبدأية على سن هذا القانون آخذين بعين الاعتبار خصوصية المجتمع الفلسطيني والوضع السياسي القائم.
1. إن موضوع إصدار قوانين بمرسوم في غياب مجلس تشريعي منتخب وفعال هو أمر مثار جدل كبير منذ أمد طويل، وبلا شك مثار مساءلة أكبر ونحن في حالة الطوارئ! ولا يخفى على أي عاقل أن عملية إصدار قوانين بقرارات جاءت نتيجة حاجة لسد فراغ قانوني لم يكن بدا منه. لكن علينا التنبه إلى أن هذا هو الإستثناء والاستثناء لا يقاس عليه. فالأساس في إصدار القوانين هو وجود سلطة تشريعية منتخبة تعكس جميع أطياف المجتمع وفئاته وتمرر عملية إصدار القانون بكافة مراحلها وقراءاتها العلنية. بالتالي فإن إصدار قانون من قبل المجلس التشريعي يعطيه شرعية قانونية وإجماع شعبي ومرحلة مشاورات علنية كافية. وبرغم وجود معارضة للقانون فإنه سيصدر إذا كانت هذه المعارضة غير كافية لإسقاطه. الكثير من القوانين قد تجد قبولا وقد لا تجد قبولا ولكنها مع ذلك تحمل هيبة شرعية ومرجعية قانونية تحول دون حدوث جدل حول شرعيتها.
2. إن أساس سن أي قانون هو الحوار المجتمعي وعرضه للمشاورات ونشره وهو بكافة مراحل نقاشه بشكل علني وواضح، لسماع وتبني وجهات النظر الفنية والقانونية بخصوصه. إن قانون "حماية الاسرة من العنف" المطروح حاليا للمصادقة عليه واصداره بمرسوم يمس فئات المجتمع كافة كبيرها وصغيرها، طفلها وكهلها، الزوج والزوجة الإبن والإبنة الأعزب او الأرمل او حتى ذوي احتياجات الخاصة، والاهم من ذلك انه يتطرق الى العلاقات القائمة في لبنة المجتمع اي الأسرة. لذا فان هذا القانون يؤثر على جميع أفراد المجتمع بعكس اي قانون آخر بمرسوم قد يمس جانباً من جوانب الأعمال التجارية او المهنية، أو يتعلق بقطاع الخدمات أو بفئة اجتماعية ما. ولذا يتوجب إبداء الكثير من الحذر مما قد يؤثر به وعليه هذا القانون. هنا تأتي أهمية منح مثل هذا القانون الشرعية المجتمعية – والحد الأدنى من الإجراءات التشريعية والمشاورات التي تكفل بالنتيجة القبول به كتشريع ناظم ذي قوة رادعة، والالتزام به وعدم الخوض في شرعيته. بعكس ذلك قد يصدر القانون مشلولا وعاجزا وغير قابل للتنفيذ على أرض الواقع خاصة في ظل استمرار حالة التأجيج...وما قانون الضمان الاجتماعي عنا ببعيد.
3. إن اتفاقية سيداو والتي لن ندخل في تفاصيل بنودها، والتي ادعى العديد فرضها من خلال القانون شأنها كأي من الاتفاقيات الدولية تأخذ المجتمع الدولي بغالبيته وعلى اختلافه. فهي بالأساس تهدف إلى حماية المرأة وهو هدف تتشارك به البشرية جمعاء، ومع ذلك من الواضح أن هناك في فحوى هذه الاتفاقية وبرتوكولاتها ما يناقض بعض الأسس القانونية الراسخة في بعض المجتمعات، ولذلك تحرص معظم الحكومات والدول على إعمال بند التحفظات على هذه البنود للتوائم مع تشريعاتها الوطنية. فيتم الحفاظ على الهوية العالمية والإنسانية لطبيعة هذه الاتفاقيات، مع الخصوصية للهوية الوطنية. لذا لا يجوز بذات السياق الانجرار وراء الهجوم على أسس الشريعة الاسلامية الحنيفة في حرصها على المرأة والأسرة وتحقيق المكانة اللائقة بها وحمايتها والدعوة لهدم مرجعيات أساسية فيها. وقد قررت المحكمة الدستورية في قرار لن نخوض في غماره أيضا، بعدم سمو هذه الاتفاقيات على النظام العام الفلسطيني والهوية الفلسطينية بما لهذه القرار من مثالب وما عليه من مآخذ. ولسنا هنا بصدد تحليل أي من البنود التي كان من الاجدى التحفظ عليها ولا عملية المصادقة على الاتفاقية ودستورية الاجراءات كما هو الحال في معظم الدول التي وقعت على هذه الاتفاقية، ولا على قرار المحكمة الدستورية. فقد تناولتهم العديد من المقالات بالبحث والتحليل. ولكن لا بد من أن نرى وأن نفرق بين اتفاقية سيداو والتي جاءت لتأمين المساواة للمرأة في المجتمع ( بما لها وما عليها) ولا نحصنها من أي تأييد محق ولا أي نقد بناء، والتي تختلف بشكل واضح عن تشريع قانون لحماية الأسرة من العنف وما يحتويه من نصوص أيضا لا نحصنها من أي تأييد محق ولا أي نقد بناء. إن الحاجة لمثل هذا القانون لم تنبع من اتفاقية سيداو بل سبقتها وعاصرتها وستبقى قائمة في ظل وجود عنف ومشاكل اجتماعية واقعية تحتاج الى تشريعات وتدابير عملية واضحة ومحددة لمواجهتها وحماية الأسرة بكافة مكوناتها. ولعل عدم وجود العنف في المجتمع كظاهرة مستفحلة يدعونا إلى التفكير في اتخاذ تدابير رادعة فوريه ومستعجلة ريثما إصدار القانون بشكل أصولي.
4. إن وجود مذكرة ايضاحية تفسر وتأصل كل بند من بنود القانون هو مطلب أساسي وشرعي وضروري وهي أساس الحوار العقلاني المفتوح والشفافية في نقاش مسودة هذا القانون وغيره من المسودات. كما أن قياس الأثر التشريعي هو ضرورة أساسية لتحديد التدخلات من ناحية تشريعية وتنفيذية وترجمتها من ناحية تكلفتها الفعلية على أرض الواقع. فلو أنه تم إعداد مذكرة أيضاحية تدرس وتقرأ مع مراجعة مسودات القانون، وأوضحت على سبيل المثال لا الحصر أن التبني جاء لتغطية حالات فعلية قائمة وهو للطوائف التي تنص قوانينها الخاصة على ذلك حصرا، لتفادينا العديد من الملاحظات التي قوضت أسس هذا القانون. ولو أن المذكرة بينت أن أعمال البيت العادية التي يتشارك بها أفراد الأسرة لا تعد أعمال سخرة، وأن تأديب الوالدين ضمن معايير محددة وواضحة هو ليس عنفا أسريا.......قد نخرج بقانون عصري ملائم ومفهوم لكافة شرائح المجتمع لأنه يمسهم مباشرة.
5. وكذلك، فإن تحقيق حماية الأسرة من العنف لا يتأتى فقط من خلال تشريع قد لا تنعكس آثاره عمليا على أرض الواقع فورا. بل قد يكون اتخاذ التدابير العملية على أرض الواقع لتأمين الحماية لكافة الفئات المعنفة إلى حين إصدار القانون وفق الأصول هو أحد الحلول الفورية. يشمل هذا وضع سياسات وطنية واضحة بهذا الخصوص، تترجم بإنشاء وتطوير مؤسسات الايواء لاحتضان الفئات المعنفة وحمايتها وتوفير الطواقم المؤهلة في هذه المؤسسات، من مؤسسات الخدمة الاجتماعية، وفي النيابات المتخصصة وفي القضاء الشرعي و النظامي، في الشرطة وفي المؤسسات الصحية والنفسية وغيرها. مع التأكيد على ضرورة معالجة الحالات الموجودة معالجة فعالة وجذرية، فان هذه المعالجة يجب ان لا تكون على حساب استقرار الاسرة او حتى فتح باب لمواجهة مجتمعية.
6. إن اجواء انعدام الثقة التي تعم فئات المجتمع بشكل عام، سواء من الأحزاب سياسية أو حتى تجاه المؤسسة الرسمية او من قطاع العدالة بكافة مكوناته أو حتى نحو مؤسسات المجتمع الاهلي، تجعل من عملية إصدار هذا القانون تحديدا في خضم هذه الازمات باباً الى مواجهة مجتمعية كبيرة من شأنها إحداث انقسامات جديدة وزعزعة الأمن الأهلي وشرخ المجتمع.
7. ان تجربة الفلسطينيين في القدس الشرقية على سبيل المثال قد تكون خير دليل على أنه عندما لا توائم التشريعات أسس ومكونات المجتمع، ولكنها قد تحقق العديد من المطالب والحقوق الأساسية، فإنها تجلب منفعة لكنها لا تدرء مفسدة. والقاعدة القانونية تنص على أن درء المفاسد أولى من جلب المنافع. والمقصود بهذا لجوء فئات من المجتمع الفلسطيني الى سلطات الاحتلال من الشرطة الاسرائيلية والقوانين الاسرائيلية بحثا عن الحماية التي قد تكون حقيقية أحيانا وقد تكون كيدية أحينا أخرى! ولكن بغض النظر فانها تلتجئ إلى قوانين لا تنتمي الى المجتمع الفلسطيني بل إلى المحتل كونها تحقق الحماية المطلوبة ولكنها توقع أضرارا مقصودة أيضا. هنا من الواضح أن هذا اللجوء سبب في السنوات الأخيرة تشرذمأ أسرياً كبيراً وعنفاً اجتماعيا كان من المفروض أن تحول دونه هذه القوانين لا أن تسهم في تأجيجه.
8. أخيرا وليس آخرا فإن تنفيذ العقوبات ولو البسيطة منها قد تكون رادعة أكثر من النصوص القانونية، اذ من الواضح أن هناك مشكلة في سيادة القانون في هذا المجال وليس فقط في فحوى القانون كما هو الحال القائم في الوضع الحالي.
9. وختاماً فان هذا المقال يؤكد على اهمية ما يلي:
• الاتفاق على تقنين التشريعات بقرار بقانون وسيما في حالة قوانين تمس المجتمع بكافة أطيافه.
• في حال تشريع يحمل ضرورة لا تحمل التأخير القيام بالمشاورات اللازمة وفق الأصول والنشر لهذا القانون بكل مسوداته وقراءاته.
• توحيد الصفوف والعمل على ترسيخ الثقة وتعزيز الأمن الاهلي وتجنب أي امور قد تخلق تصدعات إضافية في المجتمع وخاصة في ظل الوضع السياسي القائم.
• إجراء دراسة قانونية معمقة لوضع الاتفاقيات التي تم التوقيع عليها ومن ضمنها اتفاقية سيداو ودراسة إمكانية عمل ما يلزم من تحفظات عليها وما يتطلبه ذلك من اجراءات قانونية من أجل تجنب حالة من الفوضى القانونية نحن في غنى عنها.