أود أن أبدأ بما يشبه التوضيح: لست ضد المثليات والمثليين أبداً. وذلك ينبع من قناعة وموقف لا يعتورهما الدبلوماسية أو النفاق. من حق الناس جميعاً أن يختاروا لأنفسهم ما يحبون وما ينسجم مع جبلتهم ونوازعهم وميولهم وطرائقهم في التفكير. ولست أرى –مخلصاً- أن هناك سلوكاً طبيعياً بإطلاق أو سلوكاً غير طبيعي دون قيد أو شرط، والعبرة بما يترتب على السلوك: إن القتل سلوك يجب أن يقاوم سواء أكان "طبيعياً" أو غير "طبيعي" لأنه ينتزع حياة كائن إنساني آخر، أما المثلية فهي موقف وفعل لا يسيء لأحد. وما دام صاحبه (أو صاحبته) قد اختاره فليس لأحد من "العالمين" أن يتدخل في الأمر، ذلك أن أحداً منا لا يتمتع بأية صفة تسمح له بادعاء تملكه العلم الكلي والأساس الأخلاقي المطلق. ونحن نعلم يقيناً أن هناك مثليات ومثليين في كل مكان من هذا العالم بما في ذلك بلادنا العربية. وليس سراً أن هذا ينتشر أحياناً للدواعي ذاتها التي تؤسس له في باقي العالم، وينتشر أحياناً أخرى في بلادنا بالذات لأسباب تتصل بالتعويض عن صعوبة العلاقات الجنسية والعاطفية بين الرجال والنساء في السياق الاجتماعي والموروث الثقافي العربي. من هنا فإننا يمكن أن نتوقع –دون أن يكون لدينا أي أرقام مهما تكن دقتها- أن تكون درجة انتشار المثلية في الوطن العربي أعلى من المتوسط العالمي. وهذه نقطة هامشية في سياق هذا النص ويمكن أن ُتترك للبحث إن كان بحثها ممكناً.
لعل ما حرك دوافعنا باتجاه كتابة هذه الورقة هو أمر شخصي ونظري على السواء. فمن الناحية الشخصية يتصل الأمر بصديقة أمريكية والدها من أصل لبناني فوجئت بزواجها منذ بعض الوقت من فتاة أخرى. وأما في المستوى البحثي النظري فقد فتح زواج هذه الفتاة الباب على السؤال التالي: هل هناك علاقة بين موقف الفرد العاطفي والجنسي وبين الاقتصاد/الاقتصاد السياسي لهذا المجتمع أو ذاك؟ وسوف أحاول في هذه العجالة معالجة المحورين معاً مبتدئاً بالقصة الشخصية لصديقتي التي سأسميها هنا ريتشل.لم تكن ريتشل أيام صداقتنا في الولايات المتحدة والممتدة بين 2006 و 2009 تبدي أي ميول مثلية. على العكس تماماً، كانت فتاة تميل بوضوح إلى تكوين علاقات عاطفية مع شبان يساريين (فوضويين على وجه التحديد)، وكانت تسعى بوضوح للارتباط وتكوين أسرة وإنجاب أطفال (بنتين وولد مثلما كانت تقول). في العام 2007 حضر من فلسطين المحتلة شاب فلسطيني في رفقة "إسرائيليين" في سياق يتصل بحسب قوله بتوعية الرأي العام الأمريكي تجاه القضية الفلسطينية. كان الشاب يتمتع بثقافة محدودة، وكان قد قضى فترة طويلة في سجون الاحتلال. ولم يكن من الصعب أن نلاحظ تلهفه لإقامة أية علاقة ممكنة مع أية امرأة أمريكية. التقى الشاب ريتشل الناشطة في مجال حقوق المرأة في ذلك السياق، وكان الشهر شهر رمضان فأقنعها بأن تصوم معه الشهر. ولكنه بعد أيام قليلة تراجع عن فكرة الصوم لأجده في منتصف الشهر الفضيل وهو يلهو معها في أحد الملاهي الليلية. بعد قليل نشأ بينهما علاقة حميمة. وبدأت ريتشل بسرعة تتحدث عن الانتقال إلى فلسطين مع حبيبها وزوج المستقبل. ولكن أمجد –وذلك اسم الشاب- كان قد "أنجز" ارتباطات "عاطفية" في سبع مدن أخرى مع سبع فتيات مختلفات. وكلما كان يذهب إلى مكان –مثلما أخبرني- كان يحظى بالحب والرعاية والحنان الأنثوي الذي افتقر له في فلسطين طوال الوقت.
في إحدى المرات كان هناك نشاط مشترك، كان عليه أن يتحدث عن جانب، وكان دوري أن أتحدث عن جانب آخر فيما يخص القضية الفلسطينية. كنت قد آليت على نفسي أن لا أتعرض له إكراماً للقلة من أنصار القضية الفلسطينية في الولايات المتحدة الذين يحبذون نوع النشاط "التطبيعي" الذي يقوم به في مقابل إصراري على أن المقاومة هي السبيل الوحيد لتغيير الواقع على الأرض، وإقناع إسرائيل بإعطاء العرب والفلسطينيين أي شيء مهما صغر. لكن الشاب انتقدني بقوة مما اضطرني إلى توضيح أبعاد الزيارات التي يقوم بها هو –وكثير من أبناء جلدتي- إلى الغرب في رفقة "الطرف الآخر". ولكن ريتشل صاحبة الحضور القوي في سياق "مناصرة" القضية الفلسطينية من بين قضايا أخرى، انتفضت في وجهي بقوة مدافعة عنه في المستوى الشخصي، وفي مستوى الفكرة والممارسة على السواء. ولا بد أن كثيراً من الحضور قد تعاطفوا معه وانتصروا له مني.
بعد ذلك النشاط جلسنا في محاولة لتلطيف الجو بين أناس يجمعهم الضعف في مواجهة النشاط الصهيوني واليميني الكاسح، واضطررت أن أكون واضحاً معها بخصوص أشياء كثيرة بما في ذلك المستوى الشخصي للعلاقة التي تجمعها بأمجد. ولكنها بالطبع رفضت الإصغاء، واعتقدت أنني أحاول تشويه حبيبها الذي قطعت معه شوطاً باتجاه تصوره شريكاً للحياة. عندما اكتشفت ريتشل – إذ لا بد من حدوث ذلك مهما حاول أي رجل أن يتذاكى- حقيقة أمره، أصيبت بصدمة. وبدا عليها أنها بدأت تهاجم الرجال بشكل متطرف على طريقة جماعة النساء "كارهات الرجال" لا طريقة جماعات حقوق المرأة. عند هذه اللحظة كنت أحزم حقائبي لأغادر الولايات المتحدة وأعود إلى بلادي.
ليس من السهل على المرء "أن يكون وحيداً" مثلما تخبرنا أغنية رائجة للمطربة الأمريكية الشهيرة افريل لافين، ولكن التلفزيون المحلي في كل مدينة أمريكية يضيف إلى ذلك طوال الوقت أن العزلة والإحباط والكآبة هي شأن عادي يتعرض له واحد/ة من كل سبعة أشخاص في الولايات المتحدة. ويضيف ذلك الإعلان أن علينا أن لا نفكر في الانتحار بل نتصل بخدمة كذا وكذا التي تساعدنا في مقابل مالي بسيط، أو على الأقل هذا ما يقوله الإعلان، على التعايش مع القهر والمعاناة.
ماذا يفعل الفرد المعزول الذي لا يمتلك نواة نفسية وفكرية صلبة؟ تذكرت أن ريتشل كانت مستعدة –وهي الفوضوية الملحدة- لأن تصوم شهر رمضان الفضيل إما من باب القناعة السريعة بوجهة نظر الشاب القادم من فلسطين المحتلة، أو من باب مجاملته لعلها تكسبه بهذا الشكل أو ذاك. ومن الواضح هنا أننا في مواجهة ارتخاء شديد في "أنا" الإنسان التي تصبح طيعة وحساسة للمؤثرات الخارجية. وذلك ينسجم مع ما ذهب إليه إريك فروم عالم النفس الأمريكي في تصويره لشخصية السوق التي يبدو شعارها شيئاً من قبيل: "أنا جاهز لأن أكون كما تريدني، فقط لا تتركني وحيداً في هذا المنفى." وهذه الضعف والهلامية في شخصية الفرد ليست حدثاً عابراً يخص ريتشل أو ستيفان أو أدولف أو سوزان. إنه على العكس يشمل الجميع تقريباً، لأنه نتاج لاقتصاد يعزل الأفراد ويضع كل واحد منهم وحيداً أمام "الماكينة" العملاقة للإنتاج. ولا بد أن ذلك قد تحقق بدهاء وحنكة ساهمت في تحقيق أمرين لا يتوافران بسهولة خارج العالم الأنجلو ساكسوني –وخصوصاً الأمريكي منه-: إضعاف العمل النقابي، وإضعاف العمل السياسي المعارض. لقد أصبح الفرد ذرة وحيدة لا حول لها ولا قوة، ولا يوجد على برنامج حياتها أحلام كبيرة ولا طموحات. ولا بد أن ذلك ينسجم مع ظاهرة "سياسات الهوية" identity politics وأفكار الما بعديات. ليس للفرد من مأوى أو ملجأ يهرع إليه من برد الشتاء القارس وبرد الوحدة الأشد رعباً إلا أن يتعلق بفرد ما في سياق الارتباط البيولوجي الذي لا تستطيع حيل التاريخ أن تهزه بشدة حتى اللحظة. ومن هنا يغدو وجود حبيب أو حبيبة، بوي فرند أو غيرل فرند، هو ما "تبقى لكم". ولكن إذا كان ذلك هو الإمكان الوحيد لكي يجد الفرد أحداً في آخر اليوم يسأل عنه أو عن أخباره أو يضمه أو يتحدث إليه، فلا مناص إذن من وجود ذلك البوي أو الغيرل. لكن ما حدث في حالة ريتشل هو أنها فقدت الإيمان بجدوى العلاقة مع الرجال جميعاً، وفي الوقت نفسه كان هناك فتاة تهتم بها وتبدي الإعجاب بها، وتقدم لها الحنان كله منذ بعض الوقت. وقد ملأت تلك الفتاة الفراغ الكبير الذي كان يجب أن يملأه الأم والأب والأقارب والأصدقاء، ناهيك عن الحزب والفكر والمعنى الذي للحياة، وهكذا لم يكن أمام ريتشل من خيار حقيقي إلا أن تتقبل الحب الذي أسبغته عليها "زوجها" على حد تعبيرها. فكان ذلك الزواج. لست ميالاً إلى الاقتناع بأن رتيشل التي كانت "تذوب حناناً تحت القبلات" قد أصبحت بالفعل مثلية. وذلك لا يمنع بالطبع من وجود مثليات ومثليين "أصيلين" إن جاز القول. ولكن يبدو لي أن هناك مثليات ومثليين، "اختاروا" هذه "الهوية" لاعتبارات تتصل بقدرة الرأسمالية الأمريكية الكاسحة على عزل الفرد وإشعاره بالخواء التام. هنا قد يكون الالتصاق بصديق جنسي من الجنس ذاته خياراً أهون بلا شك من الاندفاع نحو الانتحار. وهذا مجرد تصور أولي يشير إلى أن علاقة الاقتصاد/الاقتصاد السياسي بموضوعة المثلية قد تكون في حاجة إلى بحث عميق يمكن أن يكشف بعداً جديداً من أبعاد وحشية الرأسمالية ومقدار الأذى الذي تلحقه بالجنس البشري.