تقديم: عن طريق الكتابة والترجمة يطوي الباحث المغربي سعيد بوخليط الصورة الوهمية عن الآخر ليمد جسور المعرفة والتواصل بين الشرق والغرب، فأعماله الفكرية المنذورة لمطاردة طيف غاستون باشلار،تكشف عن مدى سعيه للبحث وممارسة فن الإصغاء لممكنات حلمية باشلار المجللة بالغموض البليغ،انطلاقا من أطروحته الجامعية الموسومة بشعرية العناصر الأربعة عند الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار : "الماء والأرض والهواء والنار"،التي تعتبر الولادة السحرية الأولى المقتفية للروح الباشلارية المفقودة، ثم تلتها ولادات أخرى تمثلت في كتاب غاستون باشلار : عقلانية حالمة )2002(، غاستون باشلار نحو أفق للحلم(2005)، غاستون باشلار: بين ذكاء العلم وجمالية القصيدة(2009)، غاستون باشلار مفاهيم النظرية الجمالية (2012) ، المتخيل والعقلانية دراسات في فلسفة غاستون باشلار (2013)، لينعطف سفره الفكري بعد ذلك نحو مشارب بحثية جديدة أخرى تعكس اهتمامات مختلفة، فجاءت أعمال من قبيل : نوابغ سير وحوارات(2012)، قضايا وحوارات بين المنظور الأيديولوجي والمعرفي (2014) ، بين الفلسفة والأدب: دراسات (2014 )،يوميات حالم مغربي (2015 )،أعلام وقضايا وأحداث على غير المألوف(2016) ، تأملات في بعض يوميات التردي العربي وتحديات التغيير(2016)،أمي الحبيبة : من بودلير إلى سانت إيكزوبيري،رسائل أدباء (2017)،آفاق إنسانية لامتناهية حوارات ومناظرات(2018)،إيحاءات قرائية وحوارات نصية (2019)،مفاهيم، رؤى، مسارات، وسير نصوص رائدة (2020)….
ج-أحيانا يصعب أن نجد تعريفا لما نفعله،لأن ذلك يقتضي أساسا خلق،مسافة تنطوي على مايكفي من الموضوعية،حتى نتمكن من تصور واضح،بخصوص المفهوم المتوخى تحديده.وأنا بقدر ماأجدني ماسكا بالقلم، أحاور باستمرار نصا،أو أقلِّب فكرة أو أتصور الانكباب على قضية… إلخ.وبما أن العلاقة بهذا التداخل الإشكالي،مثل تلك العلاقة المنصهرة أنطولوجيا بين الموت والحياة، الجسد والروح،العقل والخيال… .لذلك، يصعب تأطير الكتابة ضمن بوتقة مكتملة بذاتها،قائمة المعنى ومطلقة التشكل،في استقلال عن جغرافية الذات بكل تضاريسها المتداخلة جدا،والمعقدة للغاية.يصعب تحديد مفهوم الكتابة،والمسألة تختلف ليس فقط من كاتب إلى آخر،بل لدى الكاتب الواحد،لأنها مستمرة في التحول،تبعا للحالات والسياقات والرؤى وكذا مساحات النضج أو التقهقر،ضمن تلك الثوابت المرجعية،طبعا، الكبرى التي تحكم دائما مشروعه.دلالة الكتابة مستمرة بكيفية متواترة،دائمة التوتر،ضمن تضاعيف الذات.مع ذلك، تواجهني،ربما بكيفية مشتركة مع جميع من يعيش حرقة أسئلة الوجود،ويحاول إعادة تأملها من خلال الكتابة،مادامت الأخيرة صياغة أخرى للوجود بالكيفية التي يريدها الكاتب أصلا،بمعنى مايكتب يشكل حياته المبتغاة ضمنيا قبل كل شيء.لذلك تجد الكتاب،غير مستأنسين، سوى ضمن نطاق متون مايكتبون.باستمرار أطرح هذا السؤال،مع عناوينه الفرعية : لماذا تحولت إلى هذا؟ ولماذا اخترت سبيلا على هذا النحو دون غيره؟كم درجات وعيي الصادقة حقا بما أقوم به؟ماهي مستويات ''الدناءة''ضمن عملي؟إلى أي حد تنحو مستويات قدرتي،كي أعكس فعليا ما أنا بصدد تدبيجه؟….تعترضني صعوبات بخصوص التأرجح المتوازن بين التأليف الشخصي والترجمة – أساسا الترجمة تظل في نهاية المطاف كتابة ثانية لنص مفترض- ثم بينهما معا والقراءة،وطبيعة القراءة التي ينبغي الانحياز لها أكثر،حتى تضفي إشعاعا وتأثيرا خصبا على الكتابة والترجمة.المسألة معقدة ومتداخلة بحساسية مفرطة،وأفضل مخرج،جعلها منسابة مع انسياب ممكنات الذات اللانهائية.
ج-غاستون باشلار،معلم إنساني كبير،ومعلمة كونية أبدية،فتح بفكره الموسوعي الرصين الضخم والمنفتح والمختلف،مشارب عدة سواء لتخصصات الفكر العلمي أو الشعري. وبالتأكيد فأغلب التيارات الحداثية ومابعدها، استلهمت المرتكزات الباشلارية،لعل أهمها،ذلك الانتقال النوعي الذي أحدثه باشلار،المتمثل في التحول صوب النص ذاته والسعي إلى التماهي مع القراءة الحالمة اليقظة والمنتبهة،المدركة لأبعاد النص،وملاحقة شتى التجليات المصاحبة،لمختلف ارتدادات رنينها.يفتقد النص،لأي هوية ممتدة في الماضي أو مستقرة عند حاضر.بل، هويته التجاوز والاختلاف والتباين بحيوات متعددة،هكذا سقطت تلك الوظيفة التقليدية المستندة على شرعية توزيع الأدوار بين الكاتب والقارئ.صار النص ميثاقا مشتركا بينهما،قد يعيش ولادة قيصرية ضمن سياق كاتب معين،بيد أنه يغادر أبوته تلك،منذ لقائه بأول قارئ،كي يرحل في اللازمان واللامكان.طبعا باشلار،مهَّد لمختلف ذلك بشعرية، كتبت شعرا،على طريقة النثر،انطلاقا من كون باشلار،رفض لنفسه منذ البداية التأسيس لمشروع نقدي بالمعنى المؤسساتي والأكاديمي للكلمة،فجاءت أطروحاته في شكل تداعيات حميمة وعاشقة،يحاور من خلاله هواجسه الذاتية بصوت مرتفع.بينما عند رموز التفكيك،فصلابة البناء واضحة لاغبار عليها.
ج-تقصدين هنا مساهمتي ضمن الكتاب الجماعي : ''جاك ديريدا فيلسوف الهوامش تأملات في التفكيك والكتابة والسياسة'' الصادر عن منشوارت ضفاف والاختلاف. لقد قرأت بداية سنوات التسعينات،كتاب ديريدا''الكتابة والاختلاف''،ترجمة كاظم جهاد،المترجم المتخصص في متن ديريدا.رغم صعوبة الاستيعاب بل مجرد الإحاطة،فقد غيَّر ذاك اللقاء بنية ذهني،تبعا للأفكار التي التقطتها للمرة الأولى،مختلفة تماما عن طبيعة الدرس الفلسفي والأدبي كما عرفته،غاية ذلك الوقت،في المدرسة ثم مدرجات الجامعة.تصورات، مثل : ميتافيزيقا الحضور،التفكيك، الاختلاف، المغايرة،المركز، الهامش، التمركز العقلي، العلامة، الأثر…. أحدثت رجة نوعية،ضمن كومة معارف جاهزة،مسكونة بالاطمئنان والثبات واليقين،تهتدي بك فورا ضمن أفق الاعتباط أو الابتذال أو الاستهلاك الغبي،بين حدود الجمود والعقائدية المريضة.إذن، في تلك الفترة من عمري، وكذا بداية تطلعي الفكري،كانت المسألة تربوية جدا بالنسبة إلي،من أجل تطوير عقلي وتحريض خيالي.
ج-تنبغي الإشارة هنا،كذلك إلى المقالة التي شاركت بها ضمن دفتي كتاب جماعي صدر في البحرين، تأبينا للراحلة الكبيرة فاطمة المرنيسي : شهرزاد المغربية.بالطبع،تعتبر المرنيسي من الرموز العتيدة والرائدة التي انتقلت بالفكر المغربي،إلى سياق الحداثة، وولجت به نحو الكونية.هكذا،خلدت اسمها بجدارة بجانب مؤسسي وملهمي أطروحات الفكر المغربي المعاصر،بحيث وضعت صحبة الجابري و العروي ومحمد سبيلا والمهدي المنجرة ومحمد بنيس وعبد اللطيف اللعبي ومحمد جسوس…،اللبنات النوعية والمرتكزات الصلبة لفكر مغربي عبر امتداداته العربية طبعا،من أجل استيعاب وتملك ثم ترسيخ بنيات الحداثة، في مواجهة،المنظومات التوتاليتارية المتخلفة،سواء اتخذت صبغة سياسية أو دينية أو أخلاقية.بالتالي،انخرطت عالمة الاجتماع،وإحدى المناضلات النسائيات الأكثر تأثيرا في العالم حسب لائحة نشرتها مجلة الغارديان،ضمن مشروع مغرب التطلع إلى التحديث الجوهري،وبناء الإنسان داخليا،من زاوية النضال الثقافي الأكاديمي الصرف،باعتباره مقدمة لاغنى عنها،بخصوص مختلف النضالات،كي تجابه المرنيسي،أسئلة مجتمعية مؤرقة ومعقدة يتداخل فيها السياسي بالمقدس بالتراثي بالمجتمعي بالأنثروبولوجي،أظهرها إلى السطح،عسر مخاض المغرب المستقل،مع اللحظة المفارقة،المتمثلة في المجابهة الضمنية بين حماة القديم مع المتطلعين بشغف إلى التحرر والتحديث،ثم محوري ذلك :الاستبداد أو التعدد والاختلاف.ومايترتب عنهما تخلفا أو تقدما. في الحقيقة يحتاج مشروع المرنيسي إلى أوراش بحثية عدة، وتوظيف ذلك واقعيا،ضمن المشاريع المجتمعية إذا توخينا تجنب الانقراض والاندثار.منذ رحيلها،وضعت ضمن زاوية من خزانتي مختلف عناوين كتبها في انتظار إنجاز دراسة توثق بشكل من الأشكال لذكراها الخالدة. غير أن أقصى مافعلته غاية الآن يظل ضئيلا ومحتشما جدا بحيث لم تتجاوز الحصيلة : قراءة في كتابها :"هل أنتم محصنون ضد الحريم"؟،ثم ترجمة لمقالاتها :''الذكاء أم الجمال؟"،"توظيف الفكر كسلاح شهواني"،"حريمي هارون،الرشيد الخليفة الفاتن''،"الخصر رقم 38حريم النساء الغربيات"،وكذا حوار مهم وعميق للغاية أجراه معها ادريس كسيكس وفاطمة أيت موس،تحت عنوان :''أحلام إسلام كوني".
س- ككاتب ومترجم في آن واحدة فإنك أدرى بمهمة الترجمة وما تتكبده من مسؤولية، فهل يمكن من وجهة نظرك أن تتحرر الترجمة من القيود التي تحصرها فقط في التأويل من اللغة الأم للهدف، وتحاول أن تنشد استقلالا كالكتابة وطابعها الوحشي البريء؟
ج-لاأحد يمكنه الادعاء بأن الترجمة عملية سهلة، سوى من كان بعيدا عن المجال ومراقبا عن بعد،مختزلا الترجمة بتهكم واستخفاف إلى مجرد عملية لوجيستيكية صورية، لاغير،تقتضي فقط التسلح بقاموس سميك يحوي تقابلات لغوية بين الكلمات،ثم الشروع في تحويل تلك الكلمات آليا من لغة إلى أخرى،ولحم علاقاتها الخطية بروابط أسلوبية.بالعكس الترجمة،تظل فنا،أولا وأخيرا،بكل ماتطويه الكلمة من دلالة جمالية وإبداعية.إنها حوار يهيم،بكل الجوارح نحو دواخل النص المتوخى ترجمته.هكذا،وبغض النظر عن تقييمات أحسن أو أساء،فالأكثر إذهالا،سماعك لحكم أن الترجمة أجمل من النص الأصلي،أو على العكس،أعظم الانتقادات قسوة،حينما يلتقط المترجم إشارة تتمنى لو لم يقترب أصلا من النص،وتركه في شأنه.
ج- قبل شهر تقريبا صدرت لي عن دار خطوط وظلال الأردنية،دراسة عن غاستون باشلار تحت عنوان :"جمالية باشلار''،ثم ترجمة لرحلة جوزيف كيسيل إلى سوريا سنوات العشرينات،تحت عنوان''في سوريا''.في انتظار ظهور أعمال أخرى خلال أمد قريب،سواء لدى نفس الدار،أو كذلك ضمن منشورات عالم الكتب الحديث.
ج-كما عبرت عن تصوري في مقالات شخصية،أو من خلال ترجمات لمقالات معينة حول كورونا،فاللحظة تتجاوز كثيرا بعدها الطبي، أو مجرد الوقوف عند حدود تلك الانتصارات الصغيرة والوهمية،المتمثلة في مغادرتنا أخيرا بيوتنا،وقد تخلصنا من الحجر الصحي،والعودة إلى "طبيعية'' العالم مثلما كان الشأن قبل شهر مارس 2020 . لم يكن العالم طبيعيا،ولن يصير أيضا كذلك،إذا لم تتخلص البشرية أساسا من المنظومات السياسية والاقتصادية والاجتماعية القائمة،المعروفة باسم الليبرالية المتوحشة،التي لاتنتعش ولاتقبل الحياة،سوى وسط بِركة آسنة ومتعفنة تغمرها شتى الفيروسات القاتلة.