الحدث- الدار البيضاء
يتحرر السجين الفلسطيني من قيده حين يكتب، ويصنعُ لنفسه تاريخا شاهدا على فضاعات سجانه، ويقام السجين الغياب حين يواصل الحياة كتابة وسردا، منتصرا على ظلمات زنزانته، ومنخرطا من خلف القضبان في مشروع وطنه نحو الانعتاق والتحرر.
تلك بعض ملامح شخصية الأسير الفلسطيني "العنيد" في المعتقلات الاسرائيلية، كما يرويها عدد من الأدباء الفلسطينين المشاركين في ندوة بعنوان "أدب المعتقلات" أقيمت على هامش فعاليات الدورة الـ21 للمعرض الدولي للكتاب في المغرب، حيث تحل فلسطين ضيف شرف عليها.
استغرق الروائي الفلسلطيني " أسامة العيسة" عشرين عاما بعد الإفراج عنه من المعتقلات الإسرائيلية، قبل أن يُحول المشاهد التي اكتنزتها ذاكرته زمن الاعتقال إلى نُصُوص روائية، تستعيدُ تفاصيل الزنازين المُعتمة والغرف المُوصدة، ويستحضر خلالها الأسير كذات إنسانية تعْبُرها مشاعرُ متضاربة بعيدا عن الصورة النمطية التي تصنعُ منه "أسطورة" منزها عن كل وهن أو خوف.
"أنْسَنةُ" المُعتقل ونزع صفات "الأسطورية" عنه والعودة به إلى مجاله الواقعي حيث يكابد المُعاناة، وينهزمُ أمام ضرواة التعذيب حينا، ويتجلد حينا آخر، لكنه في النهاية حسب شهادة الروائي الفلسطيني "أسامة العيسة" ليس "بطلا خارقا" بل حالة نضالية تُقارع المُحتل وتنتصر عليه بالإرادة رغما عن القيد.
واصل "العيسة" مُقاومته للاحتلال بعد فك أسره، عبر الكتابة مُؤلِفا عدد من الأعمال الروائية، كحال الأسرى الذين يفتحون مغاليق مُعتقلاتهم بأقلامهم، ويعيدون صياغة تعاريف لذواتهم، التي يعمدُ الاحتلال على نفيها، مُستعملا مُختلف تلاوين التعذيب والتنكيل، فالكتابة استعادة مؤقتة للحرية، ومقاومة صلدة لكل أشكال التغييب، وإصرار مستميت على مُواصلة الإبداع الذي تعد تجربة الاعتقال محفزا ملهما له.
لا يوافقُ هذا الأديب الفلسطيني (السجين السابق) على تبويب ما أبدعه المُعتقلون الفلسطينيون في صنف خاص، يُنسب لسرديات السجون، يكتُبهُ الاسرى الذين عاشوا تلك التجربة واكتووا بمراراتها، بل يرى أن الإنتاجات الأدبية والفنية لهؤلاء تنتمي لمجموع الإبداع الفلسطيني بمختلف صنوفه، وتصبُ في خدمة القضية الوطنية الفلسطينية.
لكن فعل الكتابة، حسب الروائي الفلسطيني "سامي الكيلاني"، داخل المُعتقل لم يحترفه فقط نخبة من الشعراء والأدباء الذين خاضوا تجربة المُعتقل خلال مختلف مراحل نضالات الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال، وإنما كانت مِراسا يوميا دأب الأسرى الفسلطينيون على اختلاف مشاربهم الثقافية ومستواياتهم، على الحفاظ عليه توثيقا ليومياتهم، في مواجهة السجان وغطرسته، وإن باللغة العامية ودون انضباط لمعايير الكتابة وأساليبها.
غياهب السجون الصامتة إلا من أنين من دخلوها ظلما وقهرا، والقضبان الباردة إلا من رذاذ أنفاسهم المنهكة في المُعتقل، تدفع الأسرى الفلسطينين إلى الكتابة بحثا منفذ لتصريف ما يعتمل دواخلهم من أشواق وحنين وغضب ، لتشكل التجربة الإبداعية بالنسبة لهم أداة من أجل شحذ "طاقة إيجابية" يستطيعون من خلالها مُواصلة المُواجهة الضارية مع الاحتلال.
كل مخطوط تسرب من خارج المعتقل يعد -حسب الكيلاني- وثيقة تاريخية مهمة في سجل الأدب الفلسطيني المُقاوم الذي يُؤرخ لفصول قضية شعبه ومعاركه من أجل التحرر، ويصون خصوصية الهوية الفلسطينية التي يعمل الاحتلال الإسرائيلي على طمسها وتشويهها.
لكن تلك الإبداعات تصطدم بقابة قوية من قبل سلطات الاحتلال التي تصادر كل مخطوط تضبطه، خلال محاولة بعض السجناء تسليمه لزوار بغرض نقله خارج السجن، وذاك ما أهدر وفقا للكيلاني رصيدا مهما من الوثائق والنصوص التي حيل دونها والخروج من السجون ليطلع عليها العالم، وتكشف انتهاكات لمُحتل وهمجيته.
لا يُستثنى الأسير من الحراك الثقافي التي يدبُ خارج أوصال السجن، بل ينخرطُ فيه بحيوية لافتة، وقد ينجح الأهالي وزوار السجن في نقل نسخ الأعمال الأدبية التي يُبدعها القابعون بين جدرانه، لتنشر على صفحات الجرائد والدوريات الأدبية، بل إن المُعتقلات نفسها شكلت مساحات مفتوحة للقراءة وبناء المعرفة وصناعة جيل من واسع من النخبة الفلسطينية، حيث يتمكنُ الأسرى من إدخال الكتب بمساعدة زوارهم من الأهالي، يزجون أواقتهم المديدة في السجون بقرائتها ومناقشتها وتداول أفكارها.
وتنظمُ على هامش المعرض الدولي للكتاب في المغرب الذي انطلقت في الـ12 من الشهر الجاري وتتواصل إلى غاية 23 منه، عددا من الندوات الفكرية والأدبية التي تناقش واقع الثقافة الفلسطينية وتحديات التي تُواجهها في ظل الحصار القاهر ومشاريع التهويد المُحدقة بأجزاء واسعة من الأراضي الفلسطينية، وذلك ضمن برنامج خاص يحتفي بدولة فلسطين كضيف شرف الدورة الحالية.