الحدث - محمد بدر
ينتقل المهندس جورج عودة، الذي يعمل في مجال هندسة الطرق، والمهندس المتخصص في مجال البيئة إيميل عبدو، من وزارة إلى أخرى، ومن مكتب لآخر، لإقناع جهات الاختصاص بضرورة وقف إنشاء مصنع الأسفلت أو "مصنع الموت" كما يحلو لهم أن يطلقوا عليه، على أراضي بلدة بيرزيت بمحاذاة قرية جفنا. لكن المهندسين عودة وعبدو، ليسا وحيدين في خطواتهما، بل جزء من حراك شعبي مدعوم من مجلس قروي جفنا، ومجلس قروي دورا وعين سينيا، وعطارة، ورؤساء البلدية السابقين في بيرزيت وجامعة بيرزيت.
ويقول المهندس عبدو في تصريحه لصحيفة الحدث، إن القضية بدأت عام 2018 عندما تقدّم أحد الأشخاص بطلب لإنشاء مصنع أسفلت، في منطقة مصنفة على أنها "منطقة صناعات خفيفة وحرفية"، في حين أن مصنعا من هذا النوع، يصنف بأنه "مصنع صناعات ثقيلة" بمعنى ملوّث للبيئة، وهو ما دفع المجلس البلدي في بيرزيت لرفض الطلب، لكن الأخير عاد وأعطى موافقة مبدئية، يدعي أنها جاءت بعد مشاورات مع الحكم المحلي، مشروطة بموافقة جودة البيئة والصحة وترخيص وزارة الاقتصاد.
وأشار عبدو إلى أن وزارتي الصحة والسياحة طلبتا من صاحب المشروع إعداد دراسة بيئية حول الآثار المترتبة على إقامة المصنع، وهذا الطلب بحد ذاته دليل على أن المصنع لا يتبع لأنواع الصناعات الخفيفة أو الحرفية، مؤكدا، أن إعداد الدراسة تم من قبل مكتب غير متخصص بإعداد دراسات حول الأثر البيئي، ومع ذلك، بيّنت الدراسة وجود آثار صحية سلبية.
وأوضح المهندس المتخصص في مجال هندسة الطرقات، عودة، لـ"الحدث"، أنه "في 15 تشرين أول 2019 توجهنا باعتراض لوزير الحكم المحلي ووزارة البيئة ووزارة الصحة ووزارة السياحة والآثار، وفي 19 مارس 2020 توجهنا بكتاب اعتراض لرئاسة الوزراء، ومع ذلك حصل المصنع على التراخيص اللازمة لبدء العمل في شهر مارس من العام الجاري".
وقال عودة إن "صاحب المصنع بدأ بالعمل به في 22 مارس الماضي، رغم إعلان حالة الطوارئ من قبل الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وقد تم التواصل مع الجهات المعنية، وقمنا بالاحتجاج بشكل صحي وسلمي وحضاري أمام بلدية بيرزيت بعد أن تم توجيهنا من قبل الوزارات المختلفة لها، وقد سلمناها رسالة اعتراض، بناء على الأسباب المذكورة سابقا".
وأكد المهندسان أن رئيس البلدية أخبر المحتجين أنه وجه رسالة إلى جامعة بيرزيت لدراسة الآثار البيئية، وأنه في حال خلصت الدراسة إلى أن ذلك يسبب الضرر، فإنه سيقوم بنفسه بوقف العمل في المصنع، "لكن ورغم نتيجة الدراسة، ماطل رئيس بلدية بيرزيت، وهو ما دفعنا لتوسيع احتجاجنا في الميدان، واجتمعنا مع وكيل وزارة الحكم المحلي والدائرة القانونية في رئاسة الوزراء وفي كل مراحل الاحتجاج كان الرد الرسمي من كافة المؤسسات الرسمية بأن صاحب المصنع لديه ترخيص وهو يعمل بشكل قانوني، ولكن المعترضين يعتبرون أن المشكلة في الأساس الذي بنيت عليه هذه الإجراءات".
وأوضح الخبير البيئي عبدو، أن قرارات الجهات الرسمية في ما يتعلق بالمصنع، مبنية على دراسة قد أعدها صاحبه، لدى مكتب غير متخصص، وهناك ثغرات في الدراسة التي أعدها وتم تقديمها إلى اللجنة البيئية المكونة من 10 وزارات برئاسة سلطة جودة البيئة، خاصة وأنها خالفت الشروط المرجعية وضللت أصحاب القرار، ولم تذكر المسافة المطلوبة لإقامة مثل هذا المصنع بعيدا عن المنازل، حيث إن أقرب بيت يبعد حوالي 150 مترا، وهو ما يعني كارثة صحية لسكانه، مع الإشارة إلى أن المصنع يبعد 50 مترا عن الأراضي السكنية.
ويرى عبدو أنه لا يمكن التذرع بأنه لا يوجد عندنا شروط مرجعية لإقامة مصانع الأسفلت، لأن هناك دولا مجاورة يمكن الاعتماد على قوانينها في هذا الإطار، أو من خلال المصانع الشبيهة كمصانع الباطون. موضحا أن الدراسة الدراسة، التي أعدها صاحب المشروع، لم تجر تحليلا لاتجاه الرياح وسرعتها ومدى الانبعاثات، بالحد العام أو الأقصى، في المقابل توصلت الدراسة، التي أعدتها جامعة بيرزيت إلى أن مدى الانبعاثات يصل إلى 2.5 كم بالوضع الطبيعي.
ولفت عبدو إلى أن "دراسة صاحب المشروع" أغفلت وجود مصنع للدجاج على مسافة أقل من 100 متر عن مصنع الأسفلت، وكل المنطقة تتغذى من هذا المصنع، وهو ما يشكل خطرا على حياة المواطنين. كما وأغفلت عدد الشاحنات الثقيلة، التي تدخل في المصنع في حال عمل المصنع بكامل طاقته الإنتاجية، وتحركها في الشوارع، وتأثير ذلك على حركة السيارات والسياحة والتلوث، وأيضا لم تشر الدراسة إلى طبيعة المنطقة، خاصة وأن جفنا مصنفة منطقة سياحية وأثرية بحسب تصنيف وزارة السياحة، والتقديرات تشير إلى إمكانية تأثرها.
ويتفق المهندسان على أن من يقوم بعمل دراسة في هكذا مواضيع يجب أن يضع عددا من البدائل لإقامة المشروع، ودراسة "صاحب المشروع" لم تقدم بدائل، رغم أن ذلك من أبجديات البحث والدراسة في هذه المجالات. مؤكدين على أن دراسة بيرزيت محل ثقة من قبل الحملة الشعبية، لكن الحكومة ما زالت تصرّ على أنها دراسة غير قانونية، مطالبين، بوقف الإنشاء مؤقتا وتشكيل لجنة فنية محايدة تقيّم الأساس الذي بنيت عليه الإجراءات، المتمثل بالدراسة، التي قدّمها صاحب المشروع.
وردا على كون المصنع صديق للبيئة، بمعنى يعمل على فلترة الانبعاثات، قال المهندس عبدو إن مفهوم صداقة البيئة يبدأ من عناصر الإنتاج حتى آلية العمل والانبعاثات وموقع المصنع، والانبعاثات لن تكون مرئية، هذا إن عمل بالفلاتر، متسائلا: "كيف يمكن لسلطة البيئة قياس مستوى التلوث والانبعاثات الضارة؟ هل هناك أجهزة قياس لرصد التلوث في طبقات الجو العليا؟ بالتأكيد غير موجودة". مضيفا: "الدراسة، التي قدّمها صاحب المشروع، تعرضت بطرح هزيل في ما يخص للمياه العادمة الصادرة عن غسيل الماكينات بعد كل يوم عمل، خاصة وأن لها تأثيرات صحية خطيرة، والمقترح كان إنشاء حفرة صماء.
وتابع عبدو أن "الدراسة يجب أن تغطي مسألة الحوادث، خاصة وأن المصنع يعمل بالغاز، ويجب أن تغطي كذلك كيفية التعامل مع الحوادث والآثار والنتائج الممكنة عن أية حوادث، وهذا أيضا لم يذكر.. للأسف فإن الجهات الرسمية اعتمدت على دراسة مليئة بالثغرات وبالتالي فإننا بحاجة لمناقشة الأساس، الذي اتخذت على أساسه القرارات الرسمية ببدء العمل في إنشاء المصنع".
هناك ثغرات في تسجيل المصنع في وزارة الاقتصاد، يوضح مدقق الحسابات القانوني شعيب أبو حاكمة، الذي أكد لـ"الحدث" أن الشركة مسجلة برأس مال بقيمة 100 ألف دينار، رغم أن الأرض لوحدها تم شراؤها بمبلغ نصف مليون دولار، وإذا ما أُضيف لذلك المعدات فإن المبلغ سيكون أكبر من ذلك بكثير.
ويقول أبو حاكمة إن أهمية التأكيد على هذه الإشكالية تكمن في أن رأس مال الشركة أو المصنع هو أحد العوامل المهمة في تصنيف وزارة الاقتصاد للمنطقة التي يجب أن يتواجد فيها، مثلا إذا كان رأس مال الشركة أقل من 100 ألف دولار فهذا يعني أنه من الممكن أن تقام في منطقة صناعات حرفية أو خفيفة، أما إذا كان رأس المال المسجل 500 ألف دولار فيجب أن تقام في منطقة صناعية مفتوحة.
ويعتقد مدقق الحسابات القانوني، أبو حاكمة، أن تسجيل المصنع المذكور بـ 100 ألف دينار، جاء من أجل ملائمة الشروط مع وزارة الاقتصاد بما ينطبق على تصنيفات المصانع والأراضي.
وقالت مصادر خاصة لصحيفة الحدث، إنه خلال اجتماع في العام الجاري مع وزارة السياحة والآثار بخصوص المصنع، أكد أحد مسؤولي الوزارة لوزيرة السياحة رولا معايعة أن المخططات والأوراق اللي قدمت للوزارة لا تتعلق بمصنع بل تتعلق ببناء سكني. وأضافت ذات المصادر أن وزارتي السياحة والصحة أرسلتا في 20 آيار الماضي كتبا لبلدية بيرزيت لوقف العمل بالمصنع إلى حين إعادة تقييم الآثار، ومع ذلك ظل العمل مستمرا.
من جهته أكد رئيس مجلس بلدي جفنا، أمجد عواد، في مقابلة مع "الحدث"، أنه اجتمع مع وزير الحكم المحلي مجدي الصالح بتاريخ 21 حزيران الجاري، ووعد الأخير بدراسة مسألة إنشاء المصنع من جديد، على أن تكون القضية من ضمن أولويات الوزارة. مؤكدا أن المجلس احتج أمام الوزير على موقع المصنع بسبب قربه من الأراضي السكنية وما يشكل ذلك من ضرر صحي على السكان.
وكشف رئيس بلدية بيرزيت إبراهيم السعد، في مقابلة مع "الحدث"، أن وزارة الثقافة بعثت برسالة إلى البلدية لوقف العمل في المنطقة الصناعية بما في ذلك مصنع الأسفلت، وذلك لدراسة المشهد الثقافي للمنطقة، كما أن وزارة السياحة أرسلت رسالة مماثلة للبلدية، أشارت فيها إلى ضرورة وقف العمل إلى حين تهيئة البنية التحتية. وأكد أن البلدية رفعت الرسالتين إلى وزارة الحكم المحلي، بصفتها المسؤولة عن عمل البلديات، التي ردّت بأن صلاحياتها تتمثل بسحب الرخصة، التي منحت للمشروع، لكنه من غير الممكن وقف العمل بالرخصة.
وقال سعد إنه على الرغم من أن وزارتي السياحة والثقافة قد طلبتا وقف العمل وتشكيل لجنة، لكنه لم يتم إرسال أي تعليمات أخرى لمعالجة الأمر، مع الإشارة إلى أن الإجراءات البديلة مثل نقل المصنع أو حتى المنطقة الصناعية كما تطالب الحملة الشعبية، تحتاج إلى الكثير من المعالجة والخطوات، وبالتالي فإن هناك فرقا بين الفعل الإعلامي والفعل على الأرض. أما ممثلو الحملة الشعبية لنقل مصنع الأسفلت فقد أكدوا لـ"الحدث" أن العمل لا زال قائما.
وأشار رئيس بلدية بيرزيت إلى أنه طلب من عدة جهات التوجه للقضاء، لكن لا أحد ذهب باتجاه هذه الخطوة، لأن الإجراءات من ناحية التراخيص سليمة وصادرة عن جهات الاختصاص، مؤكدا، أن الإشكالية الأساس هي أن بلدة جفنا مصنفة منطقة (أ) (منطقة سكنية) بحسب المخططات الهيكلية، وهذا خطأ لدى وزارة الحكم المحلي، لأنه ليس من المعقول أن تكون هناك موافقة على منطقة صناعية بالقرب من منطقة سكنية.
وأضاف سعد أن "البلدية ليست الجهة، التي تحدد مستوى الضرر، وقد أرسلنا لسلطة جودة البيئة رسالة وقلنا لهم إن هناك من يدّعي أن الدراسة، التي أعدت من خلال السلطة قد أجريت من تحت الطاولة، وتوجهنا لجامعة بيرزيت من أجل إعداد دراسة أخرى بالخصوص للتأكد من إمكانية وقوع ضرر على المواطنين، وأفادت الدراسة أنه بالفعل يشكل المصنع ضررا على المواطنين، ولكن الجهات الرسمية اعتبرت أنها تعبّر عن وجهة نظر معدّيها".