في منظومته الشعرية المعروفة بمنطق الطير، يُنضِّدُ فريد الدين العطار نفسيّات البشر، ويجدوِلُ اتجاهاتهم ورؤاهم، ويكشف عن مسلكياتهم ونواياهم، ويسقطها على الطيور في رحلتها البحثية عن الفضاء المعرفي، ويدخلها في مُطوَّلةٍ تبدأ بالحمد والثناء، ثم تصف وتَشرَح وتُشرِّح، والحكايةُ تطولُ في تصنيف البشر بناءً على التلبُّسِ الطيريِّ الذي اختاره، ومنحه من الطاقات والقدرات ما يتيح المجال للقارئ بأن يُفكِّرَ ويحلِّلَ ويقرأ بأكثر من عين، وأن يعيش كلُّ واحدٍ منّا مع طائرٍ من تلك الطيور التي لفَّها السَّأمُ، وأقعدَها الاعتذار، وأوْهنَها إيثارُ الجلوس عن الوصول إلى طهارة النفوس، فالاكتفاءُ بالمحسوس، لا يُغني بتاتًا عن البحث عمّا هو أعلى وأبهى وأسمى، ومن هنا، فالمعرفةُ تتطلّبُ اجتهادًا وعزمًا وإرادةً، ثمَّ لا بدَّ للسالكين مسالكَ الوصول أن يتذوَّقوا مرارةَ السَّفر، ليتلذذوا بحلاوةِ الظَّفر، ولا بدَّ لذوي الهمم من ركوب المخاطر وصولًا للقمم.
في منطق الطير، يستحلبُ القارئ ريقه وهو يحاولُ ألا يكون في البداية محلَّ طائرٍ من تلك الطيور التي أَلِفَتِ الأعذار، واشتهتِ السكونَ والرّكون إلى الراحة والدّعة، تاركةً فضاءً واسعًا سيكون الوصولُ إليه غايةَ المُتَع، ولكنَّ الشِّعابَ والوهاد والفيافي تزرعُ أشواكها في قلوب الضعفاء، أو الذين يظنون أنفسهم كذلك، وهنا ترتفعُ النبرةُ المنطقيةُ في خطابيةٍ تأخذُ من السردِ ركنًا مهمًّا، إذ يُشذِّبُ العطّارُ الزياداتِ والنتوءاتِ، ويحاول تقليم الشاردِ عن اتساق الأغصان، فعند تساقط الطيور في توهُّمِ الوَهن، كان الهدهدُ برمزيَّتِهِ الدينيَّةِ وقدرتِه المعرفيَّة، يُجيب بمنطقِ المنطق، ويكتبُ لكلِّ طيرٍ وصفةً علاجيّةً ترمِّمُ فيه جراحات الروح، أو تحاولُ جبرَ كسرِ القلوب التي هشَّمَتْها غِلظَةُ التقصير بحقِّ الذات.
وفِي واقعنا المعيش، يظلُّ البحث عن (السيمُرْغ) حاضرًا بأشكالٍ عدَّة، إذ إنَّ المعادلَ لهذا الرمز هو ما نريدُه كلُّنا، ولكن على طريقتنا، فالله بجلالِهِ وقدرته وسلطانه كائنٌ في كلٍّ مِنّا، إلا أنَّ الحضورَ الإلهيَّ في أرواحنا ومنذُ أقدم العصور هو حضورٌ نسبيٌّ، كما أنَّ حضورَنا في ذات الله نسبيٌّ كذلك، فالحبُّ بكلِّ دوالِّه وانفجاراتِ انفعالاتِه في السلوك البشريِّ، هو قيمةٌ عُليا، ولكنها نسبيةُ الحساب، والأمور بنتائجها، فهناك من يرى الحُبَّ في الحياة، والحياةُ سِرٌّ جدليٌّ لم يصل الناسُ إلى إدراكه بعد، فأيَّةُ حياةٍ نُحبّ؟ وأيَّةُ حياةٍ نعيش؟ وإذا كانت الحياةُ جميلةً، فلماذا نلوِّثُها ونُشوِّهُ وجهَها؟ وإذا كان جمالُها في التهشيم والتَّقزيمِ والتحريم والتحليل، فلماذا نُقيمُها على جِسْرٍ من المتناقضات؟
نرى في كثيرٍ من الوقائع اليومية تصرفاتٍ تصيبُ الحليمَ بالحَيْرة، فالخيرُ بكلِّ اشتقاقاته الدلالية، لا يصلُ في تصرفاتنا إلى حدِّ المُطلق، والشرُّ كذلك، وهما قطبان متنافران حسب قرارات الطبيعة وإملاءاتها، ولكننا قد نجدهما في مهدٍ واحدٍ، وعلى ثديِ مُرْضعٍ واحدة، يتغذيان ويُسقَيانِ بماءٍ واحد، ثمَّ يحبوان ويدرجان ويمشيان ويراهقان، ويرشدان، ثم يبلغان من العمرِ عِتِيّا، ولكنهما لا يموتان. لماذا؟ لأنَّهما يسكنان أرواحَنا التي تتجدَّدُ مع دولاب الزمن، وتتكرَّرُ، وتتناسخُ، وتأتلفُ وتختلف، وتستمرُّ الحياةُ بصياغاتِها المتعددة، أو بانفعالاتنا اللامحسوبة أحيانًا، فنرسمُ مؤهلاتِنا في أحلامنا، ونتجاوز واقعَنا في كثيرٍ من الحالات، لَعَلَّ النَّوْمَ يتحالفُ مع نبوءاتِنا التي لم تولد، أو على الأقل يحضر مخاضًا صعبًا، فيكون شاهدًا ذاتَ صدفةٍ على حقيقةٍ عاشَتْنا ورفضْنا أنْ نعيشها. فاللامعُ من الأشياء لا يعني مطلقًا أن يكون ذا قيمةٍ عالية، ولا كلُّ ملمسٍ خَشِنٍ يعني أنه ليس ناعمًا، ولا كلُّ افتراضٍ سيقودُ إلى ما وضعه المُفترِضُ مُسَبَّقًا، بل لا بدَّ من ملازمة التمحيص والتدقيق والتحرّي، دون أن نسرفَ في التَّجني واجترار الشكِّ الذي يكون بعضهُ إثمًا بلا شك.
لو نظرَ كلٌّ منّا إلى منطقه، ونطقَ بمنطقِ الحكمة والعدل، لتجنَّبنا كثيرًا من مشاكلنا، ولو ابتعدنا عن التَّمْظْهُرِ بأثوابٍ لا تطيقها أجسادنا، وبوجوهٍ ليست لنا، لَكانَ لنا من منطقِ الطيرِ منطقٌ ننتهجهُ سبيلًا في علاقاتنا، ولأحجمنا عن إطلاقِ الأحكامِ جزافًا، ولتركنا التقييم لِمَن هو صنيعته. وهذا يتحقَّقُ متى قُلْنا لأعشاشِ التقاعس والحسد والنميمة والبغض والكراهية آنَ أوانُ الهدم، لنبني لأرواحنا قصورًا من الراحة التي لا تُنالُ إلا على جسرٍ من التعب، عندئذ، سَيَميزُ الخبيث من الطيب، وسيتلاشى الزيف أمامَ الحقيقة، ويتضاءلُ الظلمُ أمامَ العدل، والجد أمام الهزل، وسنجدُ في دواخِلِنا ما تكَّبَّدنا من أجله مرارةَ الرحلةِ، ومشاقَّ الطريق وعقباتها.