كان حلم طفولته في خمسينيات القرن الماضي أن يحكم ويكون رئيسا لبلاده. وفي العام 1983 قرر برلمان جمهورية كولومبيا الأمريكية اللاتينية (المجلس التشريعي)، طرده من قاعاته وسحب اسمه من سجلات أعضاء برلمانه، رغم نجاحه الساحق في انتخابات بلاده البرلمانية التي جرت عام 1982، عندما فاز بأغلبية الأصوات في دائرته الانتخابية في مدينة مدلين الواقعة شمال البلاد، عندها قرر الرجل أن ينتقم ويحكم البلاد بطريقته الخاصة. كيف لا؟ وهو رئيس كل عصابات "كارتيلات" صناعات وتصدير كل أنواع المخدرات والهيروين والكوكايين في العالم كله، وهو الملك الذي نصب نفسه امبراطورا على أقذر مملكة عرفها التاريخ، والتي لا تريد الغالبية الساحقة من شعب كولومبيا تذكر تلك السنوات الرهيبة التي خيم الموت فيها ليل نهار على شوارع وأحياء تلك الدولة التي اشتهرت بأنها الأولى في صناعة وتصدير كل أنواع السم الأبيض.
إنه الرجل الذي أنجبته أفقر أحياء كولومبيا، ليحول أحيائها الفقيرة من مزابل موبوءة إلى مناطق سكنية فيها المدارس والحدائق والمستشفيات، وملاعب لكرة القدم، مستبدلا لسكانها، الكهوف والنوم في الشوارع، إلى منازل شبه نموذجية بعد أن أهدى كل عائلة منزلا صغيرا بكل محتوياته الأساسية، مما جعل مئات الآلاف من الجماهير الفقيرة هناك تطلق عليه اسم "روبن هود". كما أن الرجل استطاع خلق أعمال وتشغيل كل الرجال والشباب وربات البيوت أيضا بعد أن وجد لجميع أبنائهم عملا في مصانعه التي كانت منتشرة في كل غابات كولومبيا، التي كانت تنتج أشنع ما توصل إليه الإنسان في صناعة الكوكايين والمخدرات، حتى أنك تجد صوره اليوم على الأيقونات الدينية، في تلك المناطق، جنبا إلى جنب وصور السيدة العذراء، أو بجانب صور السيد المسيح، تماما كالقديسين الأتقياء، المؤمنين.
إنه "بابلو اسكوبار"، الذي جعلته قسوته وجبروته وذكائه، ملكا على كل كارتيلات تجارة المخدرات، حتى أن جميع رؤساء كارتيلات المخدرات في العالم كله، ظلت تدفع له طيلة سنوات طوال 40% من أرباحها مدينة للرجل الذي لا يرحم، بالطاعة العمياء.
إنه صاحب أكبر "إمبراطورية مخدرات" عرفها التاريخ، بعد أن وصل وزن شحناته اليومية المرسلة إلى الولايات المتحدة وأوروبا، إلى 15 طنا يوميا، (بقيمة نصف مليار دولار)، علما أن عصابته (كارتيل مادلين)، كانت تحتاج إلى صرف 1000$ دولار يوميا لشراء أربطة مطاطية لتغليف الدولارات!. ومن الطريف ذكره، أن 10% من الأوراق النقدية كانت تتلف وهي جاثمة في مخازنها بسبب قضم الفئران لها.
إنه الرجل الذي لم يتوقف يوما عن إصدار أوامره بقتل كل من وقف في طريقه حتى وإن كان مرشحا لرئاسة جمهورية كولومبيا، مثل السيد "لويس جالان" الذي وضع على رأس برنامجه الانتخابي، تسليم "بابلو اسكوبار" إلى السلطات الأمريكية، ليلقى الرجل مصرعه أمام مئات الصحفيين وعشرات الكاميرات، أثناء حشد جماهيري في شهر آب 1989. ولم يتوانى "الملك" عن خطف العشرات من المدنيين الأبرياء لتهديد خصومه بقتل أقاربهم أو أحبائهم من أجل تنفيذ مطالبه. كما أنه قام بقتل النائب العام ووزير العدل، إضافة إلى إعطاء الأوامر بقتل 200 قاضي وأكثر من 1000 ضابط، ويقال إن مكافأة قتل الضابط كانت تصل إلى 5 آلاف دولار، كما أنه مسؤول عن قتل العشرات من الصحفيين وتفجير مباني الصحف التي كانت تشير أو تهمز إليه بالقتل أو بالإتجار في المخدرات. ولم يتردد الرجل للحظة واحدة، عن تفجير طائرة الركاب المدنية في شهر نوفمبر من نفس العام، التي كان من المفروض أن تحمل على متنها، مرشح الرئاسة السيد "سيزار هافيرا"، خليفة المرشح المقتول. وبعد أقل من أسبوعين، أصدر "اسكوبار" أوامره بتفجير سيارة مفخخة أمام مبنى الأمن العام، ليصل عدد ضحايا "كارتيلاته" المجرمة، خلال أسبوع واحد فقط، إلى 600 قتيل.
يذكر أن بابلو إسكوبار كان هو الممول لعملية، محاولة اقتحام قصر العدل في العاصمة الكولومبية "بوغوتا" عام 1985، التي قامت بها حركة 19 أبريل اليسارية، المناوئة للحكومة الكولومبية آنذاك، وعليه فإن الرجل ظل يردد دائما بأنه "سياسي يساري".
وفي عام 1992 بلغ عدد قتلى أعمال العنف التي كان "بابليتو" (اسم التحبب) مسؤولا عنها، بشكل مباشر أو غير مباشر، أكثر من 27 ألف قتيل، وذلك قبل عام واحد من مقتله على أيدي وحدات الجيش الكولومبي الخاصة، التي استعانت بالمخابرات المركزية الأميركية C.I.A، التي ظلت تلاحقه 3 سنوات في أدغال كولومبيا.
ومن الطريف ذكره، أن بابلو إسكوبار، الذي قُدِر رصيد أمواله آنذاك ب 35 مليار دولار، كان يردد دائما ويقول:- "إن عمليات جمع وتبييض الأموال بسيطة للغاية، فما عليك سوى أن ترشي شخصا هنا، وشخصا هناك، وتدفع لصاحب مصرف، ليساعدك في جلب المال".
يذكر أن إسكوبار في بداية التسعينيات أثناء اختبائه في الجبال خلال مطاردة الشرطة له، قام بإحراق مليوني دولار من أجل أن يدفئ ابنته من البرد، كما استخدم الرجل مرات عديدة نيران ملايين الدولارات لإشعال النار تحضيرا لوجبة غداء أو عشاء لأطفاله.
الفارق بيننا وبين كولومبيا، أن هدف الكارتيلات الكولومبية كان دائما هو جمع المال من خلال الإتجار بالمخدرات، أما نحن فلدينا التنظيمات والفصائل والفسائل والأحزاب التي هي ليست بحاجة بتاتا للإتجار "والحمد لله" بالمخدرات، فمنها من امتلك المال والأموال، بعد أن عرف أن التجارة بالشعارات الدينية والوطنية، تغني عن الاختباء في الأدغال، تماما كما اختبأ بابلو إسكوبار قبل ذلك ب 30 عاما.