يفانكا ترامب، مهما بدا هذا القول عجيباً، وضعت حجر الأساس لثورة كبيرة في التعليم. لأول مرة في العصر الحديث يقترح أحد صراحة أن يكون معيار الحصول على الوظيفة في القطاع الحكومي والخاص على السواء، هو قدرات الشخص ومهاراته المتصلة بتفاصيل الأنشطة التي يتوقع منه أن يقوم بها. بهذا المعنى يتضمن اقتراح ترامب فكرة هامة فحواها أن الشهادة الجامعية لا قيمة لها إذا كان المرء قد حصل عليها دون أن يتلقى التدريب الفعال الذي تدعي الجامعة أنها تقوم به أثناء فترة الدراسة الجامعية بغض النظر عن طولها.
الرأسمالية تبرهن مرة أخرى على قدرتها الهائلة على "عصر" الإنسان حتى آخر رمق بغرض استخراج ما لديه من طاقات أو إمكانيات كامنة من أجل توظيفها في تفعيل الإنتاج بغرض تعظيم الربح إلى ما لا نهاية. لكن بغض النظر عن معرفتنا بهذه الحقيقة البسيطة عن الغايات الجشعة التي تحرك رأس المال، إلا أننا لا نستطيع أن ننكر أنها تجترح الحلول التي تستحق الثناء فيما يتصل بشحذ الفاعلية الإنسانية وتخليصها من التراخي والتثاؤب والشكليات. ومثلما لاحظ ماركس بالتفصيل الروح العملية للرأسمالية التي تجاوزت شكليات الإقطاع وبطء حركته، فإننا في لحظتنا الراهنة ما نزال نرى الروح المحمومة ذاتها نحو التجديد والابتكار واستثمار الطاقة بمنتهى الإحكام والدقة.
إذن ليس من داع لأن يتيه صاحب العمل في متاهات التعليم ومشاكله. هناك جامعات تدرب طلابها جيداً، وهناك جامعات تعد طلابها ليكونوا علماء وباحثين ومفكرين، وهناك جامعات توزع الشهادات على من يدفع القسط دون أن "تجبره" على تعلم أية مهارة تذكر.
صاحب العمل ليس مضطراً إلى الوثوق ببضاعة الجامعة. يقوم بالإعلان عن وظيفته والمؤهلات والقدرات والمهارات التي تتطلبها. بعد ذلك يقوم بنفسه بفحص المتقدمين للوظيفة دون أن يلقي بالاً إلى حصولهم أو عدم حصولهم على الدرجة الجامعية في حقل الوظيفة المطلوبة. إن كانت الجامعة قد دربت طالبها جيداً فسوف يظهر ذلك في اختبار العمل، أما إذا كان تعليمها يشبه تعليم العالم الثالث الذي نحن جزء منه، فسوف يتضح أن الخريج العتيد لا يمتلك المهارات اللازمة، بينما يمكن أن يصادف أن شخصاً لم يذهب للجامعة يحوز المهارات المطلوبة. هل هذا محال؟ بالطبع لا. أظن أننا لن نستغرب أبداً إذا وجدنا عامل بناء محترف في قرية هنا أو هناك يحوز مهارات تتفوق على نحو ساحق على معظم خريجي الهندسة المدنية والمعمارية من جامعاتنا العتيدة. لماذا لا يحق لهذا البناء أن يحصل على وظيفة المهندس في أي موقع في القطاع الخاص أو الأهلي أو الحكومي؟
من ناحية أخرى هناك في تجربتنا المحلية طرفة سخيفة مؤلمة تتصل بأسطورة العلمي والأدبي. في هذا السياق يعلم معظم من له صله بالتعليم في هذه البلاد أن خريج الطب أو هندسة الكمبيوتر أو المعمار يمتلك مهارات في اللغة العربية والإنجليزية والتاريخ أكثر من خريج اللغة العربية أو الإنجليزية أو التاريخ. وهذا يعود كما تعلمون إلى أمرين متكاملين: الأول إن طالب "العلمي" هو الطالب الأقدر على الحفظ والفهم والإنجاز الأكاديمي بعامة، وهكذا نجده أكثر إلماماً بالمواد "الأدبية" من طالب الأدبي. الأمر الثاني هو أن الجامعة لا تشغل نفسها بتدريب الطلبة كثيراً، فتكون النتيجة أن طالب الأدبي الذي يدرس في الجامعة لا ينجح في تطوير معلوماته ومهاراته لتصل إلى المستوى الذي وصله زميله "العلمي" في نهاية المرحلة الثانوية. هكذا سنجد أن خريج الهندسة يمكن بسهولة أن يتفوق على خريج اللغة الغربية وينتزع منه "بالتنافس" الحقيقي وظيفة معلم لغة عربية في حال استبعدنا شرط الحصول على شهادة اللغة العربية من قائمة شروط الوظيفة.
طبعاً سيعترض معترض بأن استبعاد الشهادة من شروط الحصول على الوظيفة سيفتح الباب على مصراعيه للتعيين بالواسطة. لكن الصحيح أن هذا كلام غير دقيق، لأن التعيين بدون شهادة أو بشهادة مزورة أو مشتراة بطريقة أو بأخرى هو نهج شائع في بلاد العالم الثالث كلها بما فيها بلادنا. بل إن الجامعات ذاتها التي يجب أن تعد قلاع العلم وحصونه كثيراً ما تعين محاضرين فيها دون أن يكون لديهم الكفاءة أو حتى الشهادة المتصلة بالتخصص بسبب تمتع المحاضر بموهبة الواسطة الضرورية والكافية للحوصل على الوظيفة.
لهذا نتوهم أن استبعاد الشهادة من شروط التوظيف مع التركيز على تمتع المرشح للوظيفة بمهارات وقدرات معينة سوف يزود قطاعات الإنتاج في المجتمع بالكوادر الذكية الماهرة، كما أنه سيجبر الجامعات على البدء في تطوير أدائها خوفاً من الانقراض. فكما تعلمون لا بد أن يقود إدراك الناس أن التعليم الجامعي لم يعد شرطاً بذاته إلى اتجاههم نحو تطوير مهاراتهم بطرق أخرى إن اتضح لهم أن الجامعة عاجزة عن مد يد المساعدة.
ونميل في هذا العجالة إلى الاستنتاج بأن التوقف عن إعطاء الشهادة التبجيل التلقائي سيغير كثيراً في واقع التعليم في بلادنا من المحيط إلى الخليج. بل إنني أتوهم أننا في حاجة إلى ذلك أكثر من حاجة الولايات المتحدة بكثير. على الأقل، يوجد هناك ما يربو على عشرين جامعة تعد أكبر "المعامل" التي تنتج المعرفة في العالم. ولعل حربهم هناك موجهة ضد بضعة آلاف من الجامعات الصغيرة التي "تبيع" الشهادات مثلما تفعل جامعاتنا لمن لديه القدرة على تسديد ثمنها. في حالتنا للأسف لا يوجد أية جامعات "تصر" على التدريب العميق والفاعل للطلبة، وهو ما يؤدي حتى إلى إضعاف فرصة الطلبة "الموهوبين" في أن يكونوا خريجين مفيدين لمجتمعهم بالنظر إلى أنهم يجدون التعليم تافهاً ولا يستحق منهم أن يبذلوا أي جهد يذكر.
التوقف عن ربط المكانة والوظيفة بالشهادة سوف يقنع غالبية الطلبة الذين ينهون الثانوية بأنه لا حاجة بهم إلى الدراسة الجامعية ما دامت الشهادة لا تضمن لهم الوظيفة. ويعود ذلك كما نعلم جميعاً إلى أن معظم الطلبة يعلمون بأنهم لم يتلقوا أي تدريب في المدرسة وأنهم لن يكتسبوا الكثير في الجامعة. يضاف إلى ذلك أن ارتفاع مستوى التعليم في الجامعة سيقود تلقائياً إلى علمية انتخاب لا تغضب أحداً بعد أن يكون "سوق" العمل قد قال كلمته فيما يخص قيمة الشهادات الجامعية التي لا يصدقها أداء الخريج ومعرفته ومهاراته.
من ناحية أخرى تنسف فكرة الوظيفة المستندة للكفاءة والمهارة القيمة الشكلانية للشهادة الجامعية تماماً. لن يعود هناك من قيمة للشهادة ونحن نرى أن شخصاً لم يذهب للجامعة يأخذ الوظيفة متفوقاً على من ذهب إليها. بالعكس سيبدأ الناس في تقدير القيمة الحقيقية للمعرفة الأصيلة والمهارة الفعلية عوضاً عن التعلق بالشكليات الزائفة التي لا تضمن أن صاحبها يحوز التفكير أو المعرفة أو المهارة.
سنصل بهذه الطريقة إلى لحظة شجاعة يقال فيها: تريدون الشهادات الجامعية؟ خذوها، ولكنها لا تساوي قيمة الحبر الذي كتبت به، لأنها لا تقنع أحداً بأنها تضيف لحاملها أية قيمة بعد أن "اتضح" أن جزءاً ممن لا يحملونها يتمتع بالموهبة والقدرات التي تغنيه عنها. لا بد أن الناس ستبدأ في تقدير من يحوز المهارات بدون الشهادة أعلى من تقديرها لمن يحوز المهارة والشهادة. هكذا ستحصل ثورة في "أخلاق" العلم والتعليم وقواعده واتجاهات المجتمع فيما يتصل بالقيمة الحقيقية للمعرفة عوضاً عن القيم الزائفة التي اعتدناها طوال القرن الأخير. وهكذا ستبدأ الجامعات طوعاً أوكرهاً في التحول إلى "ورشات" للتدريب على التفكير والبحث والمهارات المتصلة بإنتاج المعرفة وتوظيفها في خدمة المجتمع واقتصاده بأبعاده المختلفة.