يوم أمس كتب "رفيق" من ماركسيي فلسطين الذين يتبنون "الاشتراكية العلمية" منهجاً: "اللهم إن لنا أحبة في التوجيهي، فنجحهم، ووفقهم، واجعلهم من المتفوقين."
أليس من حقنا أن نطلب من "الرفيق" أن يكتب على صفحته دعاء يتضرع فيه إلى الله أن ينصر طبقة البروليتاريا ويهزم البرجوازية وأن يخسف الأرض بالامبريالية الأمريكية وأن يعيد لنا فلسطين ببياراتها القديمة ومبانيها الفخمة "الإسرائيلية" الجديدة خالية من اليهود قتلة الأنبياء...الخ؟! ترى ما هو دور العقل والثورة و"الخطة الماركسية" في تفكير رفيقنا؟
عندما رأى الرفيق ألكسي كوسيغن رئيس وزراء الاتحاد السوفييتي جموع المصريين الباكية في جنازة جمال عبد الناصر حذر محمد حسنين هيكل بأن ذلك البحر الهائل من الحزن قد يجرف مصر إلى الهاوية بينما هي في أمس الحاجة إلى التماسك العقلاني من أجل مواجهة العدو الإسرائيلي.
لم يستطع كوسغن بالطبع أن يدرك أن ذلك الوجوم العام والطام لم يكن أكثر من زوبعة عابرة، وأن الحياة الطبيعية ستستعاد بعد أسابيع أو أيام وصولاً إلى التخلي التام عن إرث ناصر لمصلحة الحكم الجديد بقيادة السادات. الاندفاع "الأهوج" في المناسبات الذي يأتي سريعاً ويذهب سريعاً لم يكن سهل الإدراك بالنسبة لرجل أوروبي مثل كوسيغن وإن كان ينتمي إلى شرق أوروبا وإلى المعسكر الاشتراكي بالذات. خصائص العرب "العجيبة" لم تكن مألوفة للرجل على نحو كاف.
صباح اليوم انطلقت الحرب العالمية الثالثة في مناطق السلطة الفلسطينية بمشاركة القوى السياسية والتوجهات الأيدولوجية المختلفة. كأننا نعيش حياة هانئة لا ينغصها منغص. كأننا لا نعيش تحت سيف مشرع يقطر من دمائنا ويتهددنا بالويل والثبور والضم والترحيل وغيرها من عظائم الأمور. كأننا لا نعيش رعب الكورونا وقلق الرواتب وغياب مقومات الاقتصاد على نحو مريع. وهكذا انطلقت الألعاب النارية التي لا تشهدها الولايات المتحدة على سبيل المثال إلا في يوم "الاستقلال" لتوقظ النائمين من سباتهم تمام الساعة الثامنة. سيل من انفجارات "الطقيع" في كل مكان. قدر بعضهم أن متوسط إنفاق الأسرة على "طقيع" التوجيهي بلغ 1000 شيكل. يعني تم "تفجير" خمسين مليون شيكل في ساعة من الزمن احتفاء بصدور النتائج. أليس من حقنا أن نسأل: ألسنا في أمس الحاجة إلى هذه النقود لألف غاية وغاية؟ ثم أليس من حقنا أن نندهش: لماذا لا تقوم الأجهزة المختصة بمنع استيراد هذه المادة الخطيرة والمزعجة والمهلكة للمال فيما لا نفع فيه؟!
أعرف أن أخواتي وإخوتي في هذا الوطن الجريح سيجدون ما أقوله سمجاً وقاسياً ومتعالياً على أفراحهم العظيمة بعد قهر التوجيهي وتحقيق النصر المؤز في معركة تعوض عن الإخفاقات في معارك الحياة الأخرى.
ألف مبروك لشعبنا هذا النجاح العظيم في امتحان نهاية المرحلة المدرسية. لكني أقول مثلما قالت الصديقة سمر غطاس منذ سنتين: هذا ليس امتحان توجيهي وإنما حرب متصلة منذ إعلان النتائج. مفرقعات وألعاب نارية وسيارات متبهجة تجوب الشوارع ...الخ.
للأسف لا نستطيع أن نقول للناس ما قاله كوسيغن لهيكل. لا نستطيع أن نقول لهم: "يا جماعة البلاد يداهمها خطر سياسي مرعب، ويحيق بها فيروس لعين اقتحم القرى والمدن والمخيمات عن بكرة أبيها. وفروا بعضاً من المال والوقت والجهد لمواجهة هذه الأخطار." لذلك نكتفي هنا بتذكيرهم ببعض الأبعاد الاجتماعية المتصلة بواقعنا في سياق امتحان التوجيهي ذاته مع ملاحظة خصوصية شرطنا السياسي والاقتصادي والصحي:
أولا: أليس من الواجب أن نتذكر بأن هناك نسبة من الطلبة لم "يحالفها الحظ" في النجاح، وأن المبالغة في الاحتفال يمكن أن يؤزمها نفسياً وصولاً إلى التفكير في الانتحار؟ "مش احنا" أمة التكافل والإحساس بالجار وآلامه؟ أليس بديهياً أن كل "طقيعة" تنفجر تهز قلب من لم "يحالفه" الحظ في اجتياز امتحان التوجيهي العجيب؟ وهل يجوز أخلاقياً وإسلامياً ومسيحياً وإنسانياً أن "نلعلع" بالفرح وجارنا يبكي ويتألم؟
ثانيا: لماذا لا "تحتفل" الشعوب الأخرى بنتائج التعليم بهذا الشكل "المفجوع"؟ أليس الانتهاء من المدرسة خطوة "طبيعية" في مسيرة التلاميذ؟ ما هي المعجزة التي نحتفي بها على وجه الدقة؟ على فكرة عشت في الولايات المتحدة بعض الوقت وشاهدت الناس في عدد من الدول الأوروبية في سياق مشابه؛ لم أر شيئاً يشبه ما نفعله أبداً أبداً.
ثالثا: أليس وضعنا السياسي في الضفة وغزة الذي ينذر بأسوأ ما يمكن توقعه، كافياً لردعنا عن الإفراط في الاحتفال بأمور طبيعية وعادية مثل إنهاء الدراسة الثانوية؟
رابعا: هل هناك في نظامنا التعليمي من خوارق إبداعية علمية تستحق كل هذا الضجيج؟
خامساً: أليس خطر كورونا سبباً كافياً، إن تجاهلنا الخطر المحدق بفلسطين، لكي نخفف قليلاًمن المغالاة في الاحتفال الصاخب الذي قد يؤدي إلى تفاقم الإصابات مثلما فعلت بنا حفلات الأعراس العزيزة على القلوب إلى حد تجاهل اللجان الشعبية في القرى والمخيمات لتعليمات الحظر وإعطائها استثناءات للناس لكي يتموا أعراسهم في الصالات على أفضل ما يكون؟
فيما يتصل بالنقطة الرابعة أذكر طالباً جاءني ليحتج على عدم نجاحه في امتحان المنطق. أحضر معه شهادته الثانوية ليثبت لي أنه من طلاب النخبة. كان معدله 98. قلت له إنني مستعد أن أعيد له الامتحان لأن الامتحانات ليست مقدسة. فقط عليه أن يتمثل بعمق قوانين الفكر وقواعد الاستدلال والتفكير والقياس مع فهم الأغاليط وتطبيقاتها، فرد علي بأنه حاول مرارا، ولكنه لا يستطيع الفهم لأنه طالب أدبي.
ضحكت بتلقائية من أعماق قلبي لأن طالبة من كلية الهندسة كانت قد احتجت في اليوم نفسه بأنها لا تستطيع فهم المنطق لأنها علمي والمنطق أدبي.
باختصار طالب العلمي وطالب الأدبي وطالب ما شئتم يقوم بمهام لا تنمي أية مهارات عقلية إبداعية، وكل ما هنالك هو حفظ واستظهار ينتهي بشهادة ثانوية يتلوه حفظ واستظهار ينتهي بشهادة جامعية. وذلك كله لا يسهم في بناء الوطن علمياً أو صناعياً أو اقتصادياً، وإنما يقود إلى مراكمة الشهادات والبطالة وتأزيم الواقع الاجتماعي.
عموماً مبارك للناجحات والناجحين جميعاً، ونتمنى النجاح في الدور التكميلي لبقية الطلبة ليحصلوا على الشهادات وينضموا لطابور البطالة الطويل.