الإثنين  25 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

عَظَمَه على عَظَمَه/ بقلم: د. سامر العاصي

2020-07-13 09:37:14 AM
عَظَمَه على عَظَمَه/ بقلم: د. سامر العاصي
د. سامر العاصي


 

في ستينات القرن الماضي، كتبت مجلة لايف الأمريكية: "عند مساء أول يوم خميس من كل شهر، تجري تغييرات في حياة الناس في الشرق الأوسط على اختلاف طبقاتهم وأعمارهم وعقائدهم، فما إن تصل الساعة العاشرة مساء بتوقيت القاهرة، حتى تكاد حركة المرور من بغداد إلى الدار البيضاء تتوقف ماما!. وحتى في أوروبا، فإن مسرح الأولمبيا الباريسي والأشهر عالميا، لم يشهد اكتظاظا، أو دخلا ماليا عاليا لصاحبه، كما حدث في الحفل الذي احتضنه المسرح مساء يوم 13 نوفمبر من العام 1967، علما أن نجمة الحفل كانت قد سألت مدير وصاحب المسرح قبل توقيع العقد، عن أعلى أجر تلقاه أي فنان غربي قبلها؟. وجاء الرد بأن مطربة الأوبرا العالمية والممثلة اليونانية الشهيرة "ماريا كالاس"، زوجة الملياردير الشهير "ارسطو أوناسيس" (الذي تزوج فيما بعد السيدة جاكلين، أرملة الرئيس الأمريكي جون كيندي)، هي من استحق ذلك!، وكان رد سيدة الغناء العربي:

  • أريد أن يكون أجري ضعف أجرها! 

ولم يكن أمام صاحب المسرح اليهودي "كوكا تريكس"، سوى الرضوخ لصاحبة العصمة، أو للست، أو لكوكب الشرق، أو لقيثارة الشرق، أو لفنانة الشعب، أو لتوما، أو لسيدة الغناء العربي، أو لشمس الأصيل، أو "أم كلثوم"، التي كانت آنذاك، تجوب العالم العربي والعالم كله وتغني دعما للمجهود الحربي للجيش المصري.

وامتلأ مسرح "الأولمبيا" وسط باريس عن بكرة أبيه، وبيعت جميع تذاكر أيام الحفل كلها قبل أن يبدأ الحفل الأول بأيام، بل وفاق سعر التذاكر، أربعة أضعاف سعر أعلى تذكرة لحفل أشهر المطربين الأوروبيين الذين غنوا على خشبة هذا المسرح العريق. وجلس كبار الفنانين الفرنسيين والأوروبيين في الصف الأول، وهم مذهلون في مقدرة "قيثارة الشرق" على التنقل ببراعة تامة بين نبرات صوتها وإبرازها للمقامات الموسيقية، لتنفجر القاعة مرات ومرات بتصفيق لم تعهده من قبل. ومع انتهاء الوصلة الأولى، ذهبت "سيدة الغناء العربي" لتستريح، عندما حضر المسيو "كوكا تريكس"، وهو يقول بعد أن قَبل يدها:

  •  "مدام أم"! (كان يعتقد أن اسم عائلتها كلثوم)، لقد كان حديث مقدم الحفل حديثا سياسيا، وهذا ليس من حقه! كان جلال معوض المذيع المصري المعروف هو الذي قال في تقديمه:

  • اليوم تشدو كوكب الشرق في باريس، وغدا بإذن الله ستشدو في القدس. 

وجاء رد "كوكب الشرق":-

  • لا بل نحن في مناسبة وطنية، وأنا ما جئت إلى فرنسا إلا لدعم المجهود الحربي لجيش بلادي، ثم التفتت إلى الفرقة وقالت:-

  • لموا الآلات يا ولاد!

وكاد "كوكا كاتريس" أن يُغشى عليه، وبدأ يتوسل وسط اعتذاراته وهو يقبل أيادي الست، مكررا أنه يقبل بكل شروط سيدة الغناء العربي. وصعدت "شمس الأصيل" إلى المسرح، وغنت كما لم تغن من قبل بعد أن افتتح جلال معوض وصلة الحفل الثانية بحماس أكثر. وطال الحفل حتى الثانية من صباح اليوم التالي، وكانت هذه أول مرة تتأخر فيها حفلة إلى هذا الموعد في باريس، وجاء تعليق ماريا كالاس، "إن صوت أم كلثوم لا يُضاهى".

غنت أم كلثوم "أحيانا" أمام جمهور هائل من دون ميكروفون، وتميز صوتها بأنه صوت رنان، من أندر الأصوات النسائية، يتمتع بقوة مذهلة. كان الجمهور يهتف لتعيد غناء المقاطع، ومن البراعة أنها لم تكن تغني مقطعاً واحداً مرتين بالطريقة ذاتها. كانت ترتجل الغناء ببراعة تامة وذكاء، حتى أن نجيب محفوظ قال عنها:- "إنها تغني مثل الواعظ المُلهم".

كانت حفلات "الست" تستمر 5 ساعات تقريباً، تضم أغنيتان أو ثلاثة. وقد سجلت أم كلثوم حوالي 320 أغنية، ووصُنفت أغنية "الأطلال"، التي لحنها رياض السنباطي، ضمن أفضل مائة أغنية في القرن العشرين، والتي كانت والدتي رحمها الله تحفظها عن ظهر قلب وتغنيها دائما. ومن الطريف ذكره أن شاعر الأطلال هو الدكتور إبراهيم ناجي الذي عاد إلى مدينته بعد أن أنهى كلية الطب، ليجد أن حبيبته قد تزوجت. وفي إحدى الليالي جاءه رجل يطلب المساعدة في ولادة زوجته التي كانت في حالة ولادة متعسرة، ووصل الدكتور ناجي إلى منزل الولادة، ليجد أنها حبيبته. وبعد أن اطمأن الطبيب على الطفل وأمه، كتب العاشق المتيم قصيدته التي غنتها أم كلثوم بعد 13 عاما من وفاته، بعد تغيير بضع من كلماتها. يذكر أن الشائعات ترددت عن أن الممثلة الشهيرة "زوزو حمدي الحكيم" التي مثلت دور "ريا" في فيلم "ريا وسكينة"، هي التي كانت في حالة الولادة تلك الليلة.  

 

 

ومن المحزن ذكره، أنه ومع بداية ثورة يوليو 1952، أصدر الضابط المسؤول عن الإذاعة المصرية قرارا بمنع إذاعة جميع أغاني أم كلثوم، بحجة أنها من مطربي "العهد الملكي البائد"، وهي الحاصلة من يد الملك فاروق، على لقب "صاحبة العصمة"، الذي كان يُهدى لأميرات السلالة الحاكمة فقط. كما أصدر الضابط المسؤول قرارا بعزل " سيدة الغناء العربي" من منصب "نقيب الموسيقيين المصريين"، وتعيين محمد عبد الوهاب بدلا منها. ولم تمض أسابيع قليلة حتى علم قائد الثورة جمال عبد الناصر بذلك، ليذهب الرجل بنفسه إلى منزل "أم كلثوم" ومعه بعض أعضاء مجلس قيادة الثورة، ولتنشأ بعدها علاقة مع الثورة الفتية، ومع زعيم الأمة العربية، علاقة جعلتها الأقرب صداقة له ولعائلته. 

وجاءت أغنيتها الوطنية الخالدة (مصر التي في خاطري وفي دمي..) في أكتوبر من نفس العام، باكورة لأغانيها الثورية التي حملت إعجابا جارفا بمواقف عبد النـاصر الوطنية، وتجلى ذلك في أغنية "بعد الصبر ما طال نهض الشرق وقال". وشَدَت "قيثارة الشرق" بالعشرات من الأغاني الوطنية الخالدة مثل:- حققنا الآمال برياستك يا جمال، يا جمال يا مثال الوطنية، على باب مصر، انا لفدائيون، الفجر الجديد، أصبح عندى الآن بندقية، صوت السلام، يا حبنا الكبير، بعد الصبر ما طال، الزعيم والثورة، حولنا مجرى النيل، حبيب الشعب، منصورة يا ثورة أحرار.

يذكر أنه وفي ليلة العدوان الثلاثي على مصر يوم 29 أكتوبر 1956، وما إن انتهى صلاح جاهين من كتابة أغنية (والله زمان يا سلاحي.. اشتقت لك فى كفاحي)، حتى قام الملحن كمال الطويل، خلال دقائق بتلحين القصيدة. ورغم التهديد الإسرائيلي بقصف مبنى الإذاعة، إلا أن كوكب الشرق التي حفظت كلمات الأغنية تحت نور الشمع، أصرت بالذهاب معهم إلى مبنى الإذاعة لتسجيل الأغنية التي ألهبت مشاعر المقاومة المصرية. الجدير ذكره، أن لحن وكلمات الأغنية هذه، صار نشيدا وطنيا لمصر وللجمهورية العربية المتحدة من عام 1960 وحتى العام 1979، كما أن العراق استخدمه نشيدا وطنيا من العام 1963- 1981.

يذكر أن ساعات الراحة للزعيم جمال عبد الناصر، الذي لم يكن يعرف معنى الراحة أو الإجازة، كانت تلك الساعات القليلة التي كان يستطيع فيها الرجل الحضور شخصيا إلى حفلة الست. أما الشخص الذي ظل حاضرا في جميع حفلات "أم كلثوم"، أينما ذهبت وأينما سافرت طيلة عشرات السنين، فهو التاجر المصري الشهير، الحاج "سعيد الطحان"، الذي كان يجلس في الصف الأول، مرددا دائما بصوته المميز جملته الشهيرة (عظمة على عظمة، يا ست)!، تلك الجملة التي طالما سمعها ملايين المستمعين، أثناء كل حفلات "الست". وفي إحدى الحفلات، نظرت كوكب الشرق فلم تجد "الحاج سعيد" في الصف الأول، ولما لم تسمع صوته أيضا، فقد أرسلت للاستفسار عنه. وجاء الرد بأن الرجل أصيب بوعكة صحية بعد أن صرف كل ما يملك وهو يلاحق حفلات "ثوما"، طيلة عشرات السنين من مكان إلى آخر. وما كان من "صاحبة العصمة" إلا وذهبت إلى منزل الطحان لزيارته والاطمئنان على صحته، وإهدائه تذكرة مفتوحة لجميع حفلاتها القادمة. وكان لهذه الزيارة، الأثر الأكبر في عودة تجارة الرجل إلى ما كانت عليه، وأحسن.

ترى، ما هي الأسباب التي أدت إلى اختفاء جماهيرنا العربية عن مسرح القضية الفلسطينية بعد أن ظلوا لعشرات السنيين يصرخون وهم يقولون:- "عَظَمَه على عَظَمَه يا ثوار فلسطين"!