يكاد يتفق عامتنا، بوعي أو مجرد محاباة،على ضرورة التعايش مع الضيف الجديد؛ المتمثل في واقع تملك كورونا عنوة للواقع الإنساني برمته؛منذئذ فصاعدا.لكن بالتأكيد؛تجمع فعلا تلك الجماعة الصغيرة من حكماء البشرية، الخبيرة جدا بخبايا الليبرالية المتوحشة، بأن القادم أسوأ بكثير، أردنا أم أبينا، وعلينا الاستعداد دوريا هذه المرة وليس لعقود كما جرى في السابق، لمجابهة تجليات عدة للفتك ،مادامت قوانين حياة هذه الليبرالية لاتتوطد سوى بزرع الموت؛ وتقديم قرابين عديدة لعرَّابي المعابد الذهبية.على طريقة تعطش الشياطين المستمر لأقداح الدم،ليلا؛ كي يستمروا في الحياة نهارا.
إنها حرب كونية، تبقى في بعدها العام استمرارا لتلك المعارك الأبدية بين من يملك ثم الذي لايملك.ومفهوم الاستحواذ ،كمرادف حتما للقوة والسيادة، من ثمة تشكل التاريخ، قد اختلفت مفاهيمه حسب السياقات وطبيعة كل مرحلة بناء؛على محدداتها الجوهرية.في إطار دائما السيرورة الجدلية؛حين فعاليتها طبعا،بين العلم و الايديولوجيا، التقنية والخطاب أو بالأحرى ميكانيزمات ومسوغات التبرير، وفق أهدافها السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، الإيتيقية، وهلم جرا.الرؤية متكاملة، لاتكون ذات قيمة؛ سوى نتيجة لنجاعة الجزئي ضمن الكلي.
استمر العالم قبل كورونا، يعيش على إيقاع ثنائيات ربما ظلت قابلة للفصل، يعني تجاوزا؛وإن كانت أساسا غير قابلة لهذا الأمر : ينطلق التقسيم المفصلي من ''الحتمية التاريخية''بوجود جماعات متقدمة تحظى بكل شروط الحياة،تجاورها جماعات متخلفة تستحق أساسا أن تنشغل بكيانها بالموت ورفقة الموت.
على ضوء ذلك،تتفرع مختلف الثنائيات دائما حسب قانون الأكبر فالأصغر،ومع ازدياد التفريعات اللولبية، تحدث تلك الفجوات ''المرضية''بين العلم و الايديولوجيا، ولايفترض أن تكون كذلك، بل علاقة موصولة فقط ليس بفراغات التباعد حيث يصير العلم إيديولوجيا، بالتالي موت العقل، وتتكلس الايديولوجيا في ذات الآن، بقتلها لروح العلم وتحولها بالتالي إلى نظرية جامدة تماما (دوغما)، مما يقتل العلم ويمنح الهيمنة لايديولوجيات الموت التوتاليتارية.
أود القول،الميكانيزم الوحيد الذي يحافظ لهما،على هويتهما الأصيلة،يكمن في تحاورهما الدائم؛المستند على أرضية الواحد المتعدد، المتحول :
- يصير العلم إيديولوجية،حينما يتوقف عن تطوير نظرياته.
-يحتاج العلم إلى إيديولوجية للتبرير والبث والتكريس.إيديولوجية أقرب إلى روح العلم،حتى تخدم مسعاه الحقيقي. إنها في ظني غير فلسفات العلوم وحقول الابستمولوجية ….
ربما ظنناه نقاشا كلاسيكيا،يعود إلى أدبيات سنوات العقود الماضية خلال أزمنة تصاعد المد الإيديولوجي.ثم، فجأة يطرح ثانية وبقوة مع واقعة كورونا،طبعا عبر بوابة أسئلة غير معهودة تحاول الانفتاح على الممكنات الجديدة التي أتى بها واقع العالم الراهن.
هكذا، انبثقت ثانية وبحدة تلك النقاشات الكبرى، مثل : علاقة العلم بالدين، كيف نجيب على أسئلة المصير الإنساني، بمعيارية الدين أم بتفكيكية العلم؟ ثم ماهي العلوم التي نحتاجها بالدرجة الأولى حاليا ومستقبلا : العلوم المخبرية أم النظرية ؟أم بذات المستوى والمقتضى؟ لأن الإنسان عقل وخيال، ذكاء وعاطفة،رياضيات وشعر…أيضا،سؤال فعالية العلوم بين الفوري والماهوي؟
في خضم ذلك،تسيدت الواجهة إشكالية المشاريع العلمية للمنظومات والنظم،وهل ستعيد الأجهزة الإيديولوجية لمؤسسات الدولة، المشعل للعلم والعلماء؟لاسيما المجموعات الإنسانية التي استكانت دهرا طويلا لرحمة التضليل الإيديولوجي المحنط،وتقويض تهذيب حواس الفرد؛ لأهداف محض سياسوية،فأقصت تماما العلم من بنائها المجتمعي
حتما، يقصد بالمفهوم هنا،العلم الوضعي اللائكي،الذي يضع في قلب هواجسه،أولا وأخيرا،بناء الإنسان قلبا وقالبا،بكل نوازعه الذهنية والعقلية والجسدية والنفسية والروحية.بمعنى، يستدرجنا ذلك في نهاية المطاف،نحو بوصلة الفرد القادر اليوم بيقظة وتوازن وذكاء وعقلانية وشجاعة على مواجهة تحدي حيثيات كورونا بكل رمزيتها، مادام الوباء يمثل فقط الشجرة التي ليس بمقدورها بتاتا إخفاء الغابة. لأن الأجوبة عن مايجري حاليا،يقتضي مخططات نوعية في غاية الجدة ترسم مساحات لممكنات النجاة على المدى البعيد،غير هذا فالانقراض يتربص بالمتخلفين.
في هذا السياق،تداولت مؤخرا الألسن باستفاضة مفهوم البروتوكول الصحي، باعتباره الإجراء المستند أكثر من غيره على التكتيك الأنسب،لمواجه توطد الوباء،أقصد مرتكزات اليقظة والفورية وملاحقة بناء الخطط حسب مقتضيات ودواعي التطور.
بلغة أخرى،ضرورة انتساب الفرد إلى فضاء عمومي عقلاني، حر، متمدن، لايتوقف عن زرع لبنات الحياة وتكريم هذا الفرد.
حقيقة المطلب ليس جديدا،فقط اختلفت طبيعة المصطلحات،لأننا حينما نتأمل بتؤدة سنلاحظ سريعا، بأن البروتوكول الصحي مجرد تعبير مبسط لمضمون الدولة الوطنية والمواطنة، بمختلف مشاريعها المتكاملة.
غير هذا، فالتاريخ يمكر بمكره؛على طريقته دون آبه بأحد.
http://saidboukhlet.com