الحدث- فكر ونقد
تقديم: في حوار صدر يوم 23 يونيو، يتحدث نعوم تشومسكي عن: " القوة والأهمية الاستثنائيين كليا'' لتلك التظاهرات ضد قتل جورج فلويد وبرونا تايلور من طرف الشرطة الأمريكية، ثم أهمية الفترة الرئاسية للرئيس لولا دي سيلفا في البرازيل، ومعتبرا دونالد ترامب: ''أسوأ مجرم في تاريخ البشرية''.
* مايكل بروكس: نرحب بكم وسعداء جدا، يغمرنا شرف كبير بالجلوس معكم البروفيسور نعوم تشومسكي، المفكر، عالم اللسانيات، والرجل المناضل من الدرجة الأولى منذ عقود. مؤلف كتب عديدة: توجه أصابع الاتهام إلى الامبريالية الأمريكية، الاستعمار الإسرائيلي، أضرار الليبرالية ثم التضليل الإعلامي. نستحضر فقط بهذه المناسبة، كتابه ''صناعة الإذعان: الدعاية الإعلامية للديمقراطية''، والذي تأثرتُ به شخصيا كثيرا. ثم أصدرتم حديثا، "الأممية أو الانقراض: من أجل مقاومة عالمية''. أشكركم كثيرا البروفيسور تشومسكي لحضوركم معنا. أود بداية معرفة طبيعة المعطيات التي استلهمتموها من الحركة المندلعة بعد وفاة جورج فلويد وبرونا تايلور بين يدي الشرطة؟
*نعوم تشومسكي: أول شيء يحضر للذهن تلك حجم ومدى المشاركة التي لامثيل لها، ثم انخراط الجماهير ودعمها. إذا تأملتم تجليات الرأي العام، يبدو ذلك مدهشا. دعم حاشد سواء لحركة'' حياة السود مهمة '' و باقي التظاهرات، تجاوز المستوى الذي حققه مارتن لوثر كينغ إبان قمة شعبيته، مع سياقات خطابه''أملكُ حلما''. أيضا يختلف الوضع الحالي بحيث فاق مستوى تفاعل الجمهور سابقا مع الأحداث الناجمة عن القتل من طرف أفراد الشرطة. ربما هذه الحركة الجماهيرية الضخمة، مماثلة أكثر لردة الفعل الناجمة عن تعنيف وضرب رودني كينغ في مدينة لوس أنجلس، غاية موته. أغلب المعتدين أطلق سراحهم دون توجيه تهمة من طرف المحاكم. هكذا اندلعت التظاهرات طيلة أسبوع؛ فقتل ستون شخصا، ثم وجه النداء إلى فرق الجيش الفيدرالي كي تتدخل وتنهي تلك التظاهرات. مع ذلك استمرت في لوس أنجلس. لكن اليوم، تمتد التظاهرات إلى كل مكان. ولا تعتبر مجرد حركة ضد مقتل مواطن أسود من طرف الشرطة: إنها حركة ضد المشاكل البنيوية. بدأ الوضع يثير مخاوف شتى، مما يدعو إلى استقصاء مختلف التجليات و الوقائع التي قادت إلى أحداث من هذا القبيل. ارتقاء الوعي بهذه الكيفية، أضحى يسيرا بفضل تشكلاته طيلة أربعمائة سنة من الاضطهاد العنيف ضد السود.
*نعوم تشومسكي: أعتقدها نتيجة سنوات عديدة من الفعالية المكثفة. مثلا، خلال السنة الماضية، أوضحت جريدة نيويورك تايمز عبر سلسلة مقالات مهمة تحت عنوان ''1619" ، ترصد تاريخ العنصرية داخل الولايات المتحدة الأمريكية. لماذا 1619؟لأنها السنة التي شرع خلالها العبيد السود يأتون بأعداد مهمة. لا يمكنكم تخيل شيء من هذا النوع قبل سنوات. إنها إحدى الإشارات المتعددة بخصوص التغيرات المهمة التي أتمناها حقا، وقد يبدو تقديرا للمنجز الذي حققه تنظيم''حياة السود مهمة''وكذا مجموعات أخرى حفزت انتباه الجمهور نحو التفكير في تلك الأسئلة. وما نعاينه حاليا يعتبر في غاية الأهمية. سياق مغاير لحقبة رونالد ريغان، الذي بدأ حملته الانتخابية في فيلادلفيا، وميسيسيبي، حيث كانت مسرحا لقتل ثلاث مدافعين عن الحقوق المدنية، هكذا بدت الرسالة واضحة جدا، غير أن ردود الفعل حينئذ اتسمت بكونها محتشمة جدا.
*مايكل بروكس: نلاحظ حاليا تفاعلات عدة، والمواقف الموازية واضحة جدا بهذا الخصوص. يصعب للغاية استيعاب الوضعية واتخاذ موقف معين، في ظل تباين معطيات التحقيقات، وسيادة التضليل الإعلامي، إلخ. مما يدعونا إلى التزام اليقظة، لكن باعتباركم شخصية مترسخة(من بعض الجوانب)ضمن التقليد الفوضوي، فماذا تعتقدون بخصوص الإعلان عن منطقة مستقلة في مدينة سياتل؟
*نعوم تشومسكي: يشكل ذلك إحدى التطورات العديدة المهمة جدا. يمثل من جهة موقفا أفرزته وضعية الوباء، ثم تأتي ثانية نتيجة مقتل جورج فلويد. إنشاء بنيات للدعم المشترك والتعاون الذي يقتلع الأفراد من التبعية للمؤسسات الحكومية، وقد بدت تماما غير مهيأة من أجل مواجهة مشاكل خاصة مثل توفير الماء للأفراد، ومقتضيات أخرى أكثر عمقا، كما الشأن بعدم استعدادنا اليائس لوضعية الأزمة. إذن، يمثل إنشاء منطقة مستقلة حالة مهمة. من المثير كذلك رؤية دعم شخصيات كما الحال مع عمدة سياتل للمتظاهرين، وحيزا كبيرا من السند الشعبي، مما أشعر ترامب وفوكس نيوز بحنق شديد. إشارة إيجابية، وحدث في غاية الأهمية. أعتقد بأنه تجل شعوري أساسي يغمرنا حينما نتمكن من توجيه مصيرنا وعدم تركه رهينة بين أيادي المسؤولين الذين أقروا لأنفسهم أربابا لنا. ينبغي أن نأخذ على عاتقنا تلك المهمة.
*مايكل بروكس: هل بوسعكم الاستفاضة في تحليل، قضية تبدو محورية المتمثلة في أن شيئا ما بوسعه الحدوث ثم ينتهي إلى" الفشل" ، لكن إن سلَّط الضوء على حقائق أساسية وجسَّد نوعا من الاندفاع وجهة العدالة، حينئذ ليس ضروريا أن نقيس ذلك تحديدا باعتباره نجاحا أو فشلا؟
*نعوم تشومسكي: يعكس النجاح والفشل معطيين معقدين. ستعرف كل مقاومة جدية لحظات ارتداد. قد لاتمضي الأمور وفق المتوقع، إذن يلزم إعادة الكرَّة، ثم مواصلة السعي انطلاقا من النقطة التي تم التوقف عندها، إلخ. جميع المعارك التي بوسعكم التفكير فيها، سواء النضالات المتعلقة بالحقوق المدنية، حقوق المرأة، إلغاء العبودية، امتثلت لمسار طويل وشاق، على ضوء نجاحات أو تراجعات. لنتحدث مثلا، عن حملة بيرني ساندرز. تصلني بهذا الخصوص طيلة الوقت، رسائل، أو أطلع على مقالات تضمر المعنى التالي: " لقد حاولنا، وانهزمنا ثم انتهى الأمر، واستسلمنا. غير أن ماحدث واقعيا يشكل العكس، ويقدم تجليات نجاح هائل، لامثيل له، بحيث لم يعرف التاريخ السياسي الأمريكي، وضعا كهذا، منذ نهاية القرن التاسع عشر تقريبا، عندما سُحقت بقوة الحركة الشعبية، أو حركة المزارعين الجذريين. انساب كثيرا خيال النقاشات. قضايا لم تكن تحظى باهتمام يومي، صارت منذ عهد قريب في المقام الأول: العلاجات الطبية العالمية الضرورية، وقد ازدادت حدتها جراء الصدمة المفجعة لوباء كورونا المفجعة، ثم الميثاق الأخضر، كحصيلة نضالية مهمة لجماعة صغيرة من الشباب استطاع أفراده الارتقاء نحو مكاتب الكونغرس؛ وتمثلت خلفية جل ذلك في نجاح ساندرز وشباب أعضاء الكونغرس الذين استولوا على السلطة من أجل دعمه. هكذا اتخذ ساندريز خطة منهجية، انتقدها البعض لكني اعتبرها شخصيا صحيحة، بانضمامه إلى حملة جو بايدن واستدراجه نحو اليسار. هكذا شرعا يشتغلان وفق لجان للتخطيط، وبالفعل إذا تابعتم برنامجهما الذي رأى النور حاليا، ستلاحظون بأنه أكثر يسارية قياسا لكل ماعرفناه منذ فترة روزفلت ويمنح فرصا عديدة. أفق، لم يتبلور نتاجا لعملية سحرية. بل جاء إلى حد ما على منوال خطوات الميثاق الأخضر، يعني نتيجة فعالية وعمل دائمين. إن مجرد الضغط على زرَ يرجح كفة هذا المرشح على حساب منافس آخر ليست مشكلة. مايهم ويخلق الفارق، تلك الفعالية المستمرة التي تعيد تشكيل جدول الاختيارات، القضايا والسياسات. لاتقف حدود النجاح عند حركات الأصبع تلك. بل ستحقق أشياء، وتخفق أخرى، ويلزم الاستدراك والانطلاق من نقطة التوقف.
*نعوم تشومسكي: أولا وقبل كل شيء، يلزمنا استحضار التاريخ قليلا. لماذا نطرح هذه القضية حاليا؟ هل تعتبر جديدة؟ لا؟ لقد شكلت حرية التعبير معيارا منذ عقود، واستهدفت اليسار دائما، ولم يسترع ذلك انتباه أحد. تتجاوز حقيقة صيرورة الأشياء مايجري حاليا: تم إيقاف أنشطة لقاءات وإرباكها بعنف؛ أُلغيت خطابات؛ و أُتلفت كتب. أذكر مثلا بأن الكتاب الأول الذي أشرتم إليه: صناعة الإذعان. العمل الذي أنجزته بمعية إدوارد هيرمان، وصدر بداية سنوات 1970، من طرف ناشر مرموق جدا؛ وقد طبع عشرين ألف نسخة. ينتمي الرجل إلى شركة كبرى، وحينما تبين لأحد المشرفين عليها، بأن الكتاب أثار الفزع، طرح على الناشر قضية وقف تداوله، لكنه رفض. حينئذ بادر شخص ثان إلى تحطيم دار النشر برمتها، وإتلاف كل مخزون الكتاب، قصد الحيلولة دون توزيعه. فهل اتجه اهتمام شخص ما إلى القضية؟ بدافع الفضول، تحولتُ بالقضية إلى أنظار أهم المدافعين عن الحريات المدنية، مثل نات هينتوف (جمعية الدفاع عن الحريات المدنية)، لكنهم لم يجدوا في ذلك أيّ نوع من أنواع الإساءة. ففي نظرهم عندما تتخذ مقاولة قرارها بالقضاء على ناشر من خلال إتلاف محتويات المخزون قصد الحيلولة دون استمرار توزيع الكتاب لايمثل رقابة للدولة ولا يستحق ذلك الإدانة. بالتالي، كان صعبا العثور على دعم جهة ما قصد التنديد بهذا الفعل، لكنها ليست الحالة الوحيدة. يمكنني الإدلاء بوقائع أخرى توثق لسحب بعض مؤلفاتي من النشر، أو حينما طُلب منذ البداية المبادرة إلى تسديد التكلفة، لأنها تضمنت محتوى سياسيا لايستسيغه الناشر. أيضا، جرِّدت شخصيات أخرى من مهامها وألغيت وظائف للتدريس، إلخ. . لم يدرجوها ضمن منطق الرقابة، لأنها كانت موجهة ضد اليسار، وتجاوزت حقا مختلف مايجري حاليا. أقول حاليا، وأرفض تلك الرقابة المسلطة على الأقوال التي تعتبر يمينية جدا. فالأمر لا يتعلق فقط بخطاب اليسار، حينما منعت نيويورك تايمز، مقالة افتتاحية، موقف لايمكنني الاتفاق معه، يصعب جدا وسم ذلك بصفة اليسار. لقد نشرت الجريدة رسالة رأي لصاحبها توم كوتون، السيناتور الجمهوري عن ولاية أركنساس، بث من خلالها نداء يدعو إلى انتشار الجيش لمواجهة التظاهرات على امتداد البلاد، ونتيجة ماأحدثته وجهة نظره من خلافات، سحب المقال كما أعلن كاتب افتتاحيات نيويورك تايمز ورئيس التحرير عن استقالته. ضمن السياق نفسه، عندما يقرر العديد من الشباب حذف مداخلة محاضر من جدول برنامجهم، يرتكبون بالتأكيد خطأ جراء سلوكهم ذلك، وإن بررته وجهة نظر تكتيكية. توجد حقا أساليب أخرى أفضل من أجل الاعتراض: يمكن تنظيم ندوة موازية، يسلط موضوعها الضوء على طبيعة مايجري وتحويل الندوة البديلة إلى فرصة بيداغوجية. لأن أسلوبا من هذا القبيل يمثل هدية لليمين المتطرف، الذي يعشق هذا النوع من الرقابة.
ج-ينحدر الرئيس لولا دي سيلفا من الطبقة العمالية، عرف بنضاله: خلال عهد الديكتاتورية، استطاع تنظيم معارضة قوية ثم ترشح للانتخابات الرئاسية. سُرق منه الانتصار مرات عديدة، ثم فاز أخيرا بمنصب الرئاسة ودشن عصرا جديدا في تاريخ البرازيل. لايمكننا بهذا الخصوص البقاء عند حدود الكلام ؛ بل نعود إلى تقرير البنك الدولي، مؤسسة لاتنزع نحو مرجعية راديكالية. فقد أصدر سنة 2016، دراسة مستفيضة عن تاريخ الاقتصاد البرازيلي المعاصر، واصفا فترة لولا دي سيلفا ب''العهد الذهبي" ، بحيث عرفت مستويات الفقر في البرازيل تراجعا كبيرا، ونموا معتبرا فيما يتعلق بالإدماج: بحيث احتوت سياسة لولا جانبا كبيرا من الساكنة السود وكذا شخصيات مهمشة تماما ومضطهدة طيلة العهود السابقة، وتوخى سعيه تمكين الأفراد من سيادة مؤكدة على حياتهم، فحقق لولا بذلك نجاحا هائلا. أصبحت البرازيل من بين البلدان الأكثر احتراما في العالم، بل عند خط المقدمة. مقابل هذا الوضع لنتابع مايجري حاليا، وقد انتهت البرازيل إلى يدي بولسورانو، فأضحت تمثل اليوم إحدى البلدان المحتقرة والأكثر إثارة للسخرية والإدانة دوليا. طبعا تواجدت مشاكل كثيرة خلال فترة لولا دي سيلفا، على سبيل الذكر تساهله مع الفساد ولم يمنحه الاهتمام الكافي. في هذا الإطار، ضم حزب العمال العديد من الفاسدين، لأن الفساد يستوطن البرازيل وكذا جل محيطها. إذن يتمثل الجانب الذي أخفقت إدارته في تفعيله، توجيهها الشعب نحو الإيمان بأنه المقصود أولا وأخيرا بمشروع التنمية و ستجني الجماهير الثمار. لذلك يبدو حاليا غريبا جدا، عندما نستفسر البرازيليين الذين استفادوا كثيرا من مخططات لولا، بسؤال فحواه: " كيف تحققت لكم تلك الحقبة الرائعة؟''. الجواب جاهز: '' إنها هدية من الله''، كما لو يعتبرون تلك المرحلة مجرد سياق عابر، ولايدركون بأنها مخططات اقتصادية واجتماعية بلورت جانبا من مشاريع حزب العمال. استمرار اعتقاد من هذا النوع يجسد فشلا حقيقيا للحكومة: يظن البرازيليون بأن ماجرى يبقى في نهاية المطاف هدية بكيفية أو بأخرى، ولاينتمون إلى تطورات المشروع، مما يكشف عن إخفاق كبير. إضافة إلى معطيات أخرى يمكنكم انتقادها. إذن، أتفق تماما مع تصنيف التقييم الايجابي ل''الحقبة الذهبية''، لأن البرازيل ارتقت مع لولا دي سيلفا إلى مستوى بلد يحظى باحترام كبير دوليا باعتباره صوتا للجنوب قاطبة، بحيث يعتبر ذلك دالا للغاية، ويفسر جزئيا سبب سقوط الرئيس. فالأنظمة السياسية لاتحب الناجحين، وترفض سعيهم نحو هذه المسار. النخب في البرازيل عنصرية جدا وتضمر وعيا طبقيا كبيرا. ثم يظهر لولا المنبعث من قلب الطبقة العاملة، بل لايتكلم حتى البرتغالية بشكل سليم؛ ولم يلج أسلاك المدارس''الراقية''. النتيجة الحتمية بحسبهم، تفترض أن يكون لولا دي سيلفا خاضعا، شاكرا للمالكين معروفهم نحوه، وليس وصوله إلى السلطة ثم شروعه في تفعيل سياسات. يمكنكم أن تستشفوا مشاعر المرارة والغضب، حينما تلتقطون طبيعة الأحاديث المتداولة بين مكونات تلك الطبقة الميسورة، فقط بناء على مبررات عنصرية واجتماعية أكثر منها براهين سياسية. سنوات بعد رحيل لولا، حدث انقلاب هادئ ضد وريثته ديلما روسيف. ثم وصلنا إلى محطة انتخابات أكتوبر. 2018أُودع لولا السجن؛ لأنه المرشح الأكثر شعبية، المؤهل بامتياز للفوز. سُجن تحت طائلة تهم غير ثابتة، وإجباره على الصمت، عكس ماينبغي أن يحصل مع متهم بجريمة قتل عمومية يقتاد صوب رواق الإعدام، بحيث لم يسمح له كي يدلي بأقل تصريح. وضعية حساسة جدا، فقد ظل صامتا طيلة الحملة الانتخابية. حاليا، يحظى بحرية جزئية مع صدور قرار محكمة الاستئناف. إذن، تم إبعاد لولا قبل الانتخابات. في الوقت الراهن، يشرف على شؤون البرازيل، رجل متعصب يسمى جايير بولسونارو ينتسب إلى اليمين المتطرف، يباشر مشروعا فوريا لتحطيم البلد، لذلك تقف البرازيل راهنا على شفا انقلاب عسكري. لاأعلم إن شاهدتم صورا قبل أيام، حيث هاجمت عصابات بولسونارو مؤسستي البرلمان والمحكمة العليا مرددين بأعلى صوتهم: " لنتخلص من جلّ ذلك". لقد طرد بولسونارو، رؤساء الأقسام التنفيذية الذين ينجزون تحريات حول أفراد عائلته، عبر تبنيه شعارا يحدد الولوج إلى الوظيفة، يتمثل في: ''لاشخص يتلفظ بحماقات حول أسرتي''، سياق يعكس تماما مايعرفه مشهد الواقع الامريكي، لأن بولسونارو يعتبر نفسه مجرد نسخة عن دونالد ترامب. تراجيديا وكوميديا. فالأخير، شبيهه القوي جدا. طرد بدوره كل المفتشين العامين الذين شرعوا في تحقيقات تنصب على مراقبة الفساد وكذا الاختلاسات في المكاتب التنفيذية. انطلقوا نحو واشنطن لمعاينة طبيعة المستنقع المتعفن الذي شكَّله ترامب، بالتالي لم يتردد في طردهم جميعا. لقد فعل كل مابوسعه، وفق أسلوب أيّ ديكتاتور رديء، سعيا نحو إهانة تشاك غراسلي، السيناتور الجمهوري، الذي أمضى مساره السياسي في سبيل تفعيل هذه المنظومة على أرض الواقع. رغم هذا، لم ينبس الحزب الجمهوري ببنت شفة، بحيث اختفى كيانه باعتباره حزبا سياسيا. أسوأ كثيرا، من الحزب الشيوعي سابقا. يصدر الرئيس أمرا، ثم يجثون على ركبهم للتنفيذ.
*نعوم تشومسكي: يبدو هذا الإقرار قويا، لكنه صحيح: بالتأكيد ترامب أكبر مجرم في التاريخ. لم يعرف التاريخ السياسي رمزا آخر بذل قصارى جهوده من أجل تقويض آفاق نظام الحياة الإنسانية فوق الأرض خلال موعد قريب. ليس مبالغة. يتركز كل الانتباه راهنا على التظاهرات؛ إلى جانب الوضعية الوبائية الخطيرة جدا بحيث لن نتخطى هذه المرحلة دون تكلفة مرعبة. تضخمت التكلفة كثيرا نتيجة مافعله بنا الوغد القابع داخل البيت الأبيض، فكان وراء مقتل عشرات آلاف الأمريكيين نتيجة عدم كفاءته ولامبالاته أمام وباء كورونا. سنتجاوز مرحلة الوباء، لكننا لن نتخلص قط من آثار جريمة أخرى اقترفها ترامب، تتمثل في مسألة ارتفاع حرارة المحيط الجوي. إذن، يكمن الأسوأ في القادم، ولن ننجو من هذا المصير أبدا. الصفائح الثلجية للمناطق القطبية بصدد الذوبان؛ ولن تتشكل ثانية. يقود هذا نحو ارتفاع مطرد لحرارة الأرض. بهذا الخصوص، يمكن مثلا لثلوج القطب الشمالي، إغراق العالم. لقد أوضحت دراسات حديثة بأنه جراء الوضعية الحالية، وفي غضون خمسين سنة، سيغدو حيز مهم من أمكنة العالم التي تصلح للاستقرار غير قابلة للحياة. يستحيل التفكير في العيش ببعض المناطق المنتمية إلى آسيا الجنوبية، أو الشرق الأوسط وكذا الولايات المتحدة الأمريكية. تقترب مياه البحر من النقطة التي بلغتها قبل 125 ألف سنة، أي 7. 5 ميترا بمعنى أكثر ارتفاعا من مستواها الحالي. والأكثر فظاعة من هذا، فقد أصدر معهد سكريبس لعلوم المحيطات، منذ عهد قريب، دراسة تعتبر أننا نقترب بكيفية مخيفة من مستوى مماثل لما كان عليه الوضع قبل ثلاثة ملايين سنة، عندما بلغ مستوى البحر آنذاك مابين خمسة عشر إلى أربعة وعشرين ميترا. بناء عليه تحاول مختلف بلدان العالم، القيام بعمل ما. بينما نعيش هنا داخل بلد يديره رئيس، يريد تعميق الأزمة، الإسراع نحو الهاوية، من خلال الدفع بالأمور نحو أقصى ممكناتها بتوظيف الوقود الأحفوري، بل الأكثر خطورة مثل الغاز الصخري، ثم تخريبه للجهاز التنظيمي الذي يحد من تأثيره الحاسم. لم يعرف قط التاريخ الإنساني جريمة فاقت صنيعا من هذا القبيل. ولايمارس ترامب ذلك عن جهل، بل يعرف حتما طبيعة غاياته، لكنه لايأبه. المهم ضخ مزيد من الأرباح في جيبيه وكذا جيوب ناخبيه الأثرياء غدا، فمن ينشغل إذن بهاجس احتمال اختفاء العالم خلال أجيال معينة؟فيما يتعلق بالحكومة، نلاحظ مسألة مهمة جدا. ظهرت الديمقراطية البرلمانية منذ ثلاثمائة وخمسين سنة. انطلقت من انجلترا سنة 1689 مع الثورة المسماة مجيدة، حينما انتقلت السيادة من الملكية إلى البرلمان بعد مرور قرن تقريبا انطلقت الديمقراطية البرلمانية نحو الولايات المتحدة الأمريكية. لاتستند فقط الديمقراطية البرلمانية على قواعد ومؤسسات. وبالفعل يتبنى الدستور البريطاني ربما عشرات الكلمات، تنهل من رافد الثقة وكذا حسن النية، المسلمة التي يوظفونها الأشخاص باعتبارهم كائنات بشرية. لنأخذ ريتشارد نيكسون، كنموذج في غاية الانحطاط، لكن حينما دقت لحظة مغادرته مكتبه، فقد بادر إلى ذلك بهدوء، في المقابل لاشخص ينتظر نفس الموقف من ترامب، لأن الأخير لايتصرف مثل كائن بشري، بل كأنه أتى من مكان آخر. لم يتجه اهتمامه حتى لمجرد طرح تعيينات يناقش مجلس الشيوخ تأكيدها من عدمه. فلماذا الانزعاج؟حينما لاأحب شخصا معينا، ألقي به خارجا. لقد تجرأت ليزا ماركوفسكي، من الحزب الجمهوري، حينما أعلنت عن موقفها الرافض لمساندته خلال انتخابات 2020، ثم أقسمت بشرفها. بالكاد صرحت، ستقع فوق رأسها حمولة تقارب طنا من القرميد، حينما خاطبها بكلمة: " سأحطمُكِ". ثم جاء مضمون تغريدة له: " قليل الأفراد الذي يعلمون نوعية مصيرهم خلال سنتين، بينما أنا أعرف: في دولة ألاسكا الكبرى(التي أحبها)في حملة ضد ليزا ماركوفسكي عضوة مجلس الشيوخ. لقد صوتَتْ ضد برنامج العناية الصحية وكذا ضد ترشيح القاضي بريت كافانو وأفعال أخرى. مع أني فعلتُ الكثير لمنطقة ألاسكا: المحمية القومية للحياة البرية، طرق سيَّارة مهمة، إلخ. إذن فليرشحوا أي شخص، جيدا أو سيئا، لايهمني. سأدعم ترشيحه''. إنها ليست فاشية مثلما عبرت سابقا، بل يعكس ذلك نموذج ديكتاتور تافه يحكم بلدا صغيرا يعرف انقلابا كل سنتين. هكذا تشتغل منظومة عقلية من هذا القبيل. يوجد الكونغرس ومجلس الشيوخ بين يدي، ميتش ماكونيل، رفيقه الروحي من خلال نواحي عدة، من ثمة الموجة الخفية لهذه الإدارة، التي كرست مشروعها لتحطيم الديمقراطية قبل مجيء ترامب. أذكر تصريحا علنيا، لماكونيل، غداة انتخاب باراك أوباما: " يكمن هدفي الجوهري في العمل بحيث لايستطيع أوباما القيام بأيّ إنجاز''. طيب، هذا يعني ببساطة مايلي: " أريد تحطيم الديمقراطية البرلمانية" ، المستندة مثلما قلت على الإخلاص وكذا الثقة في التناوب على السلطة. هكذا اختُزل مجلس الشيوخ، أو أكبر جهاز تشاوري في العالم، مثلما يزعمون إلى القيام بوظيفة واحدة: تبني منظومة تشريعية تعمل على إثراء الأكثر ثراء، ومنح امتيازات للمقاولات الكبرى ثم مباشرة تعيينات لتكليف قضاة شباب من اليمين المتطرف، من أجل التهام السلطة القضائية، مادام أغلبهم غير أكفاء، لكن بوسعهم أساسا طيلة جيل عرقلة مطالب الشعب، كيفما تجلت. إنها كراهية عميقة للديمقراطية وخوف منها. يعتبر ذلك وضعا معتادا لدى النخب، التي تكره الديمقراطية لدواعي بديهية. لكنه يبقى خاصا. إضافة إلى مشكلتي الوباء، والاحتباس الحراري، تنبغي أيضا الإشارة إلى أزمة لاتقل فظاعة تتمثل في الأسلحة النووية. لقد قوض ترامب تكامل نظام مراقبة التسلح، مما يضاعف كثيرا خطر التدمير. يتبنى هذا الشخص أسوأ مظاهر الرأسمالية، لاسيما جانبها المتوحش، ويسعى نحو تكريسه. لنأخذ ببساطة الوباء. لماذا يوجد وباء؟سنة 2003، بعد فيروس سارس، باعتباره إحدى تجليات كورونا، وقد استوعب العلماء ظهوره جيدا، فانتهوا إلى الخلاصة التالية: " من المحتمل جدا، ظهور فيروس كورونا آخر، أكثر شراسة من الفظاعة الحالية. بالتالي، يلزمنا اتخاذ عدة تدابير من أجل التحضير لتلك اللحظة''. ويلزم تفعيل تلك التدابير من طرف شخص على أرض الواقع. توجد بالفعل صناعة دوائية، لكن المختبرات الضخمة والفاحشة الثراء تتحاشى القيام بذلك. لايمكنها إنفاق المال من أجل شيء قد يحظى بالأهمية بعد عشر سنوات، فالعمل على وقف كارثة بالنسبة لتلك المختبرات ليس مثمرا. بنية تشي بأزمة الرأسمالية. تمتلك الحكومة موارد؛ وتتوفر على مختبرات كبيرة. لكن لدينا في نفس الوقت معطى اسمه رونالد ريغان، يعود إلى بداية اكتساح الليبرالية ضد الشعب، محاولا تكريس تأويل مفاده بأن الحكومة تجسد مشكلة وليس حلا، مما يعني أنه يلزمنا إعادة القرارات إلى أيادي المؤسسات الخاصة غير المضطرة أساسا بتدبيج وصياغة تقارير وعدم الخضوع لتأثير أي جهة. جورج بوش، أسس مجلسا رئاسيا لتقديم الاستشارة العلمية، وقد بادر أوباما بذكاء نحو استدعائه خلال اليوم الأول لإدارته وألتمس منه تهيئ نظام لمواجهة وضعية وبائية. بعد انقضاء أسابيع، عاد الفريق بمخطط تبلور على أرض الواقع. لكن شهر يناير 2017، صارت شؤوننا بيد المدمِّر. خلال أولى أيام تدبيره، خرَّب ترامب كل النظام المخصص لمقاومة الوباء؛ ثم سنة بعد سنة، أوقف الدعم عن مركز التحكم وكذا الوقاية من الأمراض وكذا مختلف السلطات الحكومية المرتبطة بالشأن الصحي. أيضا، ألغى البرامج العلمية الأمريكية في الصين التي تهتم بالتعاون مع علماء صينيين من أجل تحديد التهديدات المحتملة لوباء كورونا والتصدي له. لذلك، حينما دقت لحظة كورونا، لم تكن الولايات المتحدة مستعدة بما يكفي، جراء سياسة القائد المدمِّر. تقول تغريدة له: " توفي السنة الماضية سبع وثلاثون ألف أمريكي نتيجة الزكام العادي. ويتراوح معدل الوفيات بين سبع وعشرين ألف وسبعين ألف. لن نغلق أي شيء، وستتواصل الحياة والاقتصاد. توجد حاليا خمسمائة وست وأربعون حالة خاضعة للحجر الصحي مع اثنين وعشرين وفاة فقط''(9مارس2020). ثم ازداد الوضع سوءا، وتشبث برفضه أخذ زمام المبادرة. بينما بلدان أخرى تفاعلت مع الوضع، بل وبعضها فعل ذلك سريعا جدا بالتالي اختفى الفيروس تقريبا، وأضحى تحت السيطرة. أما في الولايات المتحدة الأمريكية فلا يأبهون. طيلة شهور، لم تتمكن المخابرات المركزية الأمريكية من إخبار البيت الأبيض بما يلي: ''هناك أزمة خطيرة''، ومافعله بهذا الخصوص يمثل تحديدا فوضى. رغم ذلك، وجبت الإشارة إلى أن جزءا كبيرا من المشكلة تعود أصوله إلى فترة سابقة عن ترامب. لماذا المستشفيات غير مهيأة؟إنها تعمل وفق نموذج تجاري، ضمن إطار الليبرالية المتوحشة. جرى التخطيط بأن لايكون أيّ شيء متوفرا إلا إذا اقتضته الحاجة، رافضين إنفاق دولار واحد. بالتالي، لاتتوفر مستشفياتنا على أسِرَّة إضافية؛ ويلزمنا التأكيد في هذا الإطار بأن مدراء المستشفيات الخاصة يحصلون على مكافآت سنوية تقدر بملايين الدولارات. لذلك إذا أضفنا سريرا، سنحدث اختلالا في هذه الميزانية. إجراءات تعمل ميكانيكيا من أعلى الهرم. المؤسسات الخاصة لرعاية المسنين، اختُزلت أساسا إلى أبسط مهامها، مادام في وسعنا كسب مزيد من المال تبعا لهذا الأسلوب، أي شركة ذات رأسمال استثماري خاص بها. حاليا، يمكننا المساهمة في حملة ترامب ثم نلتقط صورا بصحبته، كي يهمس في آذاننا ليخبرنا كم نحن رائعون بالقضاء على فضاءات العناية بالمسنين، ونسرع بموتهم. مختلف ذلك يتجذر بعمق ضمن سياقات إشكالات سبقت فترة ترامب بكيفية واسعة، لكني أؤكد ثانية بأنه شخص يجسد ظاهرة فريدة، وأسوأ مجرم عرفه التاريخ البشري، حيث تكمن أبسط جرائمه في استهتاره بديمقراطية الأمريكيين ثم مضاعفة حدة الوباء والذي قضى على حياة مائة ألف شخص. لكنها جرائم تظل صغيرة وفق مقاس معاييره.
*مرجع الحوار:
Le cri des peuples: 6 juillet 2020.
http: //saidboukhlet. com