الحدث - محمود الفطافطة
سال حبرٌ كثير، وتجادل أطباء وخبراء منذ أكثر من ستة عقود دون أن يحسموا مسألة بالغة الأهمية لحياة الإنسان ومحيطه البيئي. هذه المسألة المتمثلة في أبراج الهواتف الخلوية يراها البعض ضرورة لخدمة المواطن؛ في حين يجد فريقٌ آخر فيها ضرراً وشراً مستطيراً.
وما بين الضرورة والضرر يبقى المواطن في كثيرٍ من دول العالم تحت مقصلة الخوف إلى حد الهلع والقلق الشديد على صحته ومستقبله خاصة وأن هذه الأبراج تغزوه بكثافة وتحيط به من كل صوب وجانب. وفي ظل هذا ( العجز، أو التقصير، أو التعمد) في حسم تلك القضية فإن مثل هذه الأبراج تصبح كالشبح المفزع للناس لا سيما وأن الغموض غالباً ما يثير لدى البشر هوساً مقلقاً وشكاً مضراً وتعاطياً سلبياً.
وبما أن هناك توجهاً يرى بأن تلك الضرورة لمثل هذه الأبراج لا يعني إيقاع الضرر بالإنسان، وبالتالي البحث عن حلول خلاقة لحسمها ومعالجتها، فإن هذا التقرير يحاول تسليط الضوء على ثنائية النظرة تجاه هذه المسألة، مع التنويه، مسبقاً أن مثل هذه القضية تحتاج إلى تقارير متسلسلة لتشعباتها وكثافة الجدل حولها. الهدف من هذا التقرير حول استعراض دراسات علمية عالمية خاضت في هذا الشأن، إلى جانب استطلاع آراء ومواقف خبراء وأصحاب الشأن، علاوة على استمزاج آراء العديد من المواطنين.
دراسات متناقضة
في البداية نشير إلى رأي أهم مؤسسة صحية في العالم وهي " منظمة الصحة العالمية التي تذكر أن هناك قلقاً وخوفاً عالميين من وجود ارتباط ما بين المجالات الكهرومغناطيسية وبعض الأمراض، وأن هذا القلق العالمي يتباين من بلد إلى آخر. وقد أطلقت المنظمة عام 1996م مشروعاً دولياً لدراسة الآثار الصحية للمجالات الكهرومغناطيسية خاصة المجالات الصادرة عن أبراج تقوية الهاتف المحمول ومحطات الضغط العالي والبث الإذاعي والمرئي والرادارات .
وفي هذا الإطار، تم إجراء الكثير من الدراسات في العالم حول محطات تقوية المحمول ومدى تأثيرها على الصحة العامة لتؤكد بعضها وجود أضرار صحية وأخرى تنفي ذلك. فالعديد من البحوث العلمية الإكلينيكية اتفقت على أنه لم يستدل على أضرار صحية مؤكدة نتيجة التعرض للإشعاعات الكهرومغناطيسية بمستويات أقل من 0.4 مليواط /سم، إلا أن التعرض لمستويات أعلى من هذه، وبجرعات تراكمية، قد يتسبب في ظهور العديد من الأعراض المرضية ومنها: الشعور بالإرهاق والصداع المزمن والنسيان والتوتر وزيادة الضغط العصبي والانفعالات والتغيرات السلوكية، وعدم القدرة على التركيز، وسماع أصوات صادرة من الرأس، فضلاً عن اختلال عمليات التمثيل الغذائي بالأنسجة والخلايا الحية وغير ذلك.
وبشيءٍ من التفصيل نتطرق إلى نتائج عدد من الدراسات. ففي دراسة أعدها " هوريست ورفاقه " في ألمانيا، ونشرت 2004، تبين أنه على مسافة 400 متر من موقع محطات الإرسال الخلوية تكون نسبة حالات السرطان أعلى بشكل ملحوظ مقارنة مع السكان الذين يعيشون بعيداً عن هذه المحطات، وأن الإصابة بالسرطان قد تضاعفت ثلاث مرات لسكان المنطقة على مقربة من المحطات بالمقارنة مع سكان المناطق خارج منطقة الدراسة.
وفي دراسةٍ أجرتها الوكالة الدولية لبحوث السرطان عام 2011 صنفت المجالات الكهرومغناطيسية للموجات اللاسلكية على أنها مادة مسرطنة محتملة للبشر، وعثر على أدلة على حدوث ورم العصب السمعي نتيجة التعرض. وفي دراسة " اكورات ورفاقه " في تركيا عام 2010 خلصت أن الخلفية الإشعاعية لجرعات جاما كانت أعلى بوجود محطات تقوية الهاتف المحمول من عدم وجودها وذلك حول جميع المحطات التي شملتها الدراسة. ونصحت الدراسة بإزالة هذه المحطات أو بعدم استمرار بقاء السكان القاطنين حول تلك المحطات في السكن.
وفي العام 2004 أجريت دراسة مسحية في إسرائيل أظهرت استنادا إلى السجلات الطبية للأشخاص الذين يعيشون داخل 350 متر من منشأة هوائيات تقوية الهاتف الخلوي وجود أربعة أضعاف معدل الإصابة بالسرطان مقارنة عموما مع عامة السكان في إسرائيل، وزيادة عشرة أضعاف على وجه التحديد بين النساء، مقارنة بالقاطنين في المنطقة المحيطة من البرج.
في المقابل أشار كل من نبيل عبد الصاحب وعمر علي عذاب من جامعة بغداد في دراسة لهما، نُشرت عام 2012، إلى أن الأدلة التي تظهر من يوم لآخر حول آثار الموجات الكهرومغناطيسية متضاربة وغير واضحة. وتبين الدراسة أنه لا يوجد دليل علمي مؤكد على أن الأمواج الضعيفة التي يتعرض لها الناس من أبراج هواتف المحمول تسبب آثار صحية ضارة. وتضيف الدراسة:" بما أن أبراج المحطات النقالة منتشرة بشكل كبير في البيئة، فإنه من المتوقع وجود إصابات بأمراض السرطان بالقرب من محطة نقالة بمحض الصدفة". هذا لا يعني ( وفق الدراسة) أن سبب حدوث السرطان هو وجود المحطة. كما وتذكر أن الدراسات لم تجد أي دليل على أن التعرض للأشعة المنبعثة من تلك الهوائيات يزيد من مخاطر انتشار مرض السرطان. وتنوه الدراسة إلى أن القياسات والدراسات الحالية تشير إلى أن مستويات التعرض لإشعاع التردد الراديوي المنبعث من محطات الهواتف الخلوية وتقنيات الاتصال اللاسلكي الأخرى في الأماكن التي يتواجد فيها الجمهور (بما فيها المدارس والمستشفيات)هي في العادة أقل من الحدود الدولية المسموح بها بآلاف المرات.
وفي السياق ذاته نشير إلى دراسة للباحث ناجي الجاسم يقول فيها " أن هناك عدد كبير من الدراسات والبحوث تبين أن تأثير أبراج الهاتف الخلوي لا يزال يحتاج إلى البحث لعدم وجود نتائج مؤكدة . ولكن بالمقابل يذكر الجاسم أن المتخصصين يرون بوجود مخاطر لتلك الأبراج على المدى البعيد وليس المباشر؛ مما ينذر بخطر يشمل كل البشر الذين هم على مقربة أو تماس مباشر بالبرج الذي يسبب تلوثاً كهرومغناطيسياً يؤدي للإصابة بالعدد من الأمراض الخطيرة.
شروط وفوضى
ومن حديث الدراسات ننتقل إلى حديث الخبراء وأصحاب الشأن. يقول د.خليل ذباينة أستاذ الفيزياء النووية والتلوث الإشعاعي في جامعة الخليل:"هناك قلق كبير في جميع أنحاء العالم من وجود ارتباط ما بين الحقول الكهرومغناطيسية وبعض الأمراض، مضيفاً :" إن اهتمام الباحثين يتمحور حول التأثير البيولوجي للأمواج الصادرة عن أبراج الخلوي على صحة الإنسان، وخاصة الإصابة بمرض السرطان، وأن هؤلاء الباحثين يواجهون صعوبة في وجود صلة بين الإصابة بالسرطان والأمواج الراديوية بشكل عام وموجات الخلوي بصفه خاصة".
وحول الشروط التي يجب توافرها عند إقامة وإنشاء محطة وبرج التقوية حسب المواصفات والمقاييس العالمية يقول د. ذباينة ": يجب أن يكون ارتفاع الهوائي أعلى من المباني المجاورة في دائرة نصف قطرها أكثر من 20 متراً، وأن يكون ارتفاع المبنى المراد إقامة المحطة عليه في حدود (50-15) مترا عن مستوى سطح الأرض، وإذا لم يكن فوق بناية فيجب أن لا يقل ارتفاع البرج عن 15 مترا.
ويضيف:" يجب أن لا يُسمح بوضع أكثر من هوائي مرسل على نفس البرج، أوباستخدام برج معدني بحيث يكون ارتفاع الهوائيات لا يقل عن 6 أمتار من سطح المبنى وبشرط أن لا يزيد عدد هوائيات الاستقبال على 3 هوائيات. كما ويجب أن لا تقل المسافة بين برجي التقوية على سطح البناية الواحدة (إن وجدا) عن 12 م. كذلك، يمنع منعاً باتاً تركيب الهوائيات على أسطح المدارس والمستشفيات ورياض الأطفال والأماكن العامة وعدم توجيهها باتجاه المدارس والمستشفيات، وأن لا تقل المسافة بينها وبين هذه المنشآت عن 200 م، وعن المنازل السكنية 50 م.
بدوره يقول الخبير البيئي جورج كرزم :" إن انتشار آلاف هوائيات الخلوي للشركات العاملة في فلسطين يعني مزيداً من العشوائية والفوضى والتلوث الإشعاعي؛ وارتفاعا أكبر في أعداد الناس الذين تحولوا أو سيتحولون إلى ضحايا تعيش تحت رحمة الإشعاعات وما تدعيه الشركات من التزامها بالمعايير العالمية والمستويات الإشعاعية المسموح بها وذلك، في ظل غياب كامل للرقابة العلمية المهنية والصحية الجدية والموثوق بها على هوائيات الخلوي". ويضيف " يوجد تعتيم مريب حول كل ما يتعلق بالإشعاعات المنبعثة من حولنا وتأثيراتها وعواقبها الصحية؛ إذ إننا لا نعرف أين تتواجد جميع الأبراج، كما لا نستطيع الحصول على معلومات كاملة وموثوقة عن الأبراج الجديدة التي تنصب باستمرار هنا وهناك، ولا نعرف أيضا تأثيرات الإشعاعات على صحتنا، وحتى في حال معرفتنا، فلا نستطيع، في الغالب، أن نعارض نصب الأبراج بمحاذاة منازلنا".
حيادية ورقابة
ويوضح كرزم: "هناك غياب تام لأي جسم علمي مهني محايد، يدقق في هذه الظاهرة ويفحص مدى التأثير الإشعاعي ومخاطره الصحية - البيئية على الناس. بل إننا محرومون حاليا من حقنا الأساسي في الحصول على المعلومات والبيانات الحقيقية الكاملة المتعلقة بشدة الإشعاعات المنبعثة من كل برج على حدة، ومستويات التعرض لهذه الإشعاعات المؤثرة على صحتنا جميعا وصحة أطفالنا. كما لا يوجد حاليا في سلطة جودة البيئة قوة بشرية علمية مؤهلة ومختصة بالتلوث الإشعاعي ومجهزة بأجهزة القياس الحديثة والدقيقة، لمراقبة ومتابعة هذه آلاف الأبراج، والانبعاثات الإشعاعية الراديوية غير المؤينة الصادرة عنها".
ويطالب كرزم بضرورة وجود هيئة علمية خارجية محايدة تعمل على إعادة فحص أماكن انتشار هذه الأبراج وشدة الإشعاعات الصادرة عنها، ومنع نصبها في المناطق السكنية والمؤسسات الحساسة أو بمحاذاتها، وإعادة نشرها في أماكن بعيدة.
من جانبه يقول د. عدنان جودة مدير دائرة الإشعاع البيئي في سلطة جودة البيئة:" نقوم بدور الرقابة على مثل هذه المحطات من خلال الآلية الخاصة بذلك، والتي تتلخص بمنح موافقة إنشاء لكل محطة على حدة بعد فحص ميداني للموقع، وإجراء تقييم نظري للطلب والبيانات والمواصفات المقدمة للتأكد من أنها تخضع للمعايير المسموحة.
وبين جودة أن "ما نقوم بتطبيقه فعلا في سلطة جودة البيئة ينسجم مع ما يطبق في بعض الدول الأوروبية، ونريد أن نؤكد لمواطننا أن جميع الأبراج الموجودة في الضفة الغربية والتابعة لشركات فلسطينية هي متابعة ومراقبة من قبل سلطة جودة البيئة من خلال دائرة الإشعاع البيئي التي تقوم بإجراء فحوصات دورية لتلك الأبراج حسب جهاز القياس التابع لشركة ناردا الألمانية".
ضيق اليد والحسم
وفي السياق ذاته يبين مدير صحة البيئة بوزارة الصحة إبراهيم عطية، أن قضية الأبحاث الطبية التي يطالب بها البعض لإثبات عدم وجود علاقة بين الأبراج والإصابة بالأمراض، قضية لا نقدر عليها. وعلينا أن نتبنى رأي منظمة الصحة العالمية، ولن تتوانى الوزارة إذ أثبت وجود ضرر أو احتمالية وقوع ضرر، كما جاء في قانون الصحة العامة. وقال: لدينا لجنة علمية للبحث في الشكاوى التي ترد، وحدثت بعض الحالات، وبقناعة اللجنة التي زارت بعض المناطق وجدنا عاملاً نفسياً مقلقاً جداً ومحقاً من قبل المشتكي، وتم التخلص من هذا البرج. وهناك استعداد لأن تتكرر هذه الحالة مستقبلاً، ولا يعني وضع البرج أن لا مجال للنقاش فيه، وعلينا أن نبحث في أي شيء يقلق الناس، ونتأكد أنه ضمن البعد المحدد.
إلى ذلك، يقول مدير دائرة التخطيط في "جوال" د. خالد حجة : أن الشركة لا تلجأ إلى الضغط على الناس، وإنما تفتح حوارات علمية وشخصية معهم، وأقمنا أكثر من 400 ندوة حول الموضوع، ونستمع إلى رأي الناس ومخاوفهم، وفي أغلب الحالات التي فيها معارضة وتخوف نوقف عمل محطاتنا. موضحاً أنه لا أحد يجرؤ على التطاول على الإنسان وصحته وكرامته، ودورنا توفير خدمة الاتصالات للناس. وأضاف: أثير موضوع الأبراج في منظمة الصحة العالمية بدراسات وأبحاث منذ العام 1998، وأصدرت دراسات علمية موثقة ومنشورة. وعلينا أن نهتم بالمصادر العلمية. وأشار إلى أنه منذ العام 1950، وموضوع الأبراج يثار من جهات علمية دولية.
أصوات تحت البرج!
سلمى أبو خلف تقول: إن عدم حسم هذه القضية يزيد خوفي من إشعاعاتها من جهة، وشكي بأنها خطرة من جهة أخرى. وتضيف:" رغم أنها ضرورة في حياتنا الاتصالية غلا أنها قد تكون خطيرة ومضرة، وبالتالي يجب على الخبراء أن يتوصلوا إلى حل لمثل هذه الإشكالية.
سعيد علي يقول: كثير من الناس يرون في هذه الأبراج بأنها مضرة. لذا، يتساءل علي: ما هو السبب لعدم حسم هذه القضية رغم أن هناك الكثير من النقاشات والدراسات حولها؟. ويؤكد على حسم هذا الأمر حتى يتيقن المواطن من حقيقة هذه الأبراج، هل هي خطرة ومضرة، أم غير ذلك؟.
أما إياد خليل فيرى أن هذه الأبراج قد لا تؤثر لأن هناك دراسات علمية متخصصة في العالم أكدت عدم ضرر هذه الأبراج. ويضيف:" إن الحديث عن إصابة الكثيرين بالسرطان بسبب هذه الأبراج قد يكون إشاعة.
خلاصة القول: نشير إلى جملة من التوصيات التي خرج بها لقاء موسع نظمه مركز العمل التنموي حول هذه المسألة، والمتمثلة بالمطالبة بإبعاد هذه الهوائيات عن المناطق السكنية والمؤسسات التعليمية، وتنظيم إعادة انتشار لها، احترام القانون الفلسطيني والتعليمات الصادرة من سلطة جودة البيئة ووزارة الاتصالات، استمرار الفحص الدوري للأمواج الصادرة عن أبراج الشركات الخلوية من قبل جهات علمية ومحايدة، ضرورة قيام الجهات المعنية بإعادة انتشار الأبراج مسافة 1500 متر، كالحال الذي قامت به بلدية دالية الكرمل القريبة من حيفا، ضرورة تخصيص الشركات الخلوية مبالغ طائلة من أرباحها لصالح دعم الأبحاث الطبية لقياس تأثيرات الأبراج، مثلما تفعل بعضها في دعم فرق رياضية ومشروعات أخرى، وضرورة توضيح القوانين والمعايير الدولية العالمية المتصلة بملف الهوائيات، وتوضيحها للمواطنين بطرق مبسطة.