الإثنين  25 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

التحريض على البنوك... "مَن يُصلِحُ المِلحَ إذا المِلحُ فَسَد"| بقلم: د. حسن أبولبده

2020-07-30 01:28:10 PM
التحريض على البنوك...
د. حسن أبولبده

 

"كان من عادة سفيان الثوري (97 - 161هـ) أن لا يُعَلّمُ أحداً العلم حتى يتعلم الأدب، ولو عشرين سنة! وكان يقول لطلاب العلم: إذا فسد العلماء، فمن بقي في الدنيا يصلحهم؟ ثم ينشد قائلا: يا معشر العلماء يا ملح البلد ما يصلح الملح إذا الملح فسد؟".  أستذكر هذا العالم الجليل وحال البلد في أسوأ تجلياته، ونكاد نستشرف في كل زاوية مشروع فوضى مزدهرة، لا يعلم إلا رب العالمين منتهاها. وقد وجدت البنوك نفسها مؤخراً في مركز المحرقة، ولا نرى من يبادر الى إطفاء الحريق قبل فوات الأوان.  ولذلك أسألكم بالله فعلا: من يُصلِحُ الملحَ إذا الملحُ فسد؟

يواجه القطاع المصرفي في فلسطين تحديات غير مسبوقة ومتراكمة نتيجة للأزمة الاقتصادية العميقة مع انهيار المسار السياسي وتجميد النشاط الاقتصادي بسبب جائحة كورونا، والتراجع الحاد في قدرة السلطة على الوفاء بالتزاماتها تجاه موظفيها والموردين، وغيرها بفعل تداعيات مشروع الضم.  وتنسحب هذه التحديات على باقي القطاعات تقريبا. 

من واقع معايشتنا لهذه الأزمة المركبة، وهي ليست الأولى ولن تكون الأخيرة ما دمنا محكومين بنصوص اتفاقيات أوسلو وملحق باريس الاقتصادي، فإن إرادة الصمود والتحدي لدى شعبنا وفعالياته الاقتصادية ستتغلب في نهاية المطاف على كافة التحديات الخارجية، ولكن المتغيرات الداخلية والاحتقان المجتمعي وقلة حيلة النظام السياسي الفلسطيني، قد تجعل من هذه الإرادة هباء منثورا، وتودي بنا جميعا إلى التهلكة الحتمية والانهيار التام.  وإنه لمن المؤسف أن جزءا مهما من التحديات هي صنيعة أيدينا، وتتفاعل في الشارع بطريقة خطيرة ومقلقة. 

يلعب القطاع المصرفي دورا مركزيا في التنمية الاقتصادية المحلية وجلب الاستثمارات الخارجية، وكلما كان هذا القطاع صحيا وقويا ومنفتحا على التطورات العالمية في مجال الصيرفة والحوكمة وغيرها، فإنه يرسخ قيمة مضافة للاقتصاد الوطني.  وهناك أمثلة عديدة إقليميا وعالميا على دور القطاع المصرفي في رفعة الإقتصاد أو تدميره، ولنا في تجربة بنك إنترا قبل عقود مثال حي على أهمية تمتع القطاع المصرفي بالاستقلالية والحماية والشفافية، والتزامه بمنظومة سياسات وتشريعات وطنية ودولية لضمان عضويته في المنظومة المالية العالمية، وتمكنه من التأثير الإيجابي في التنمية المحلية.

على الرغم من مسلمات وبديهيات دور قطاعنا المصرفي في تعزيز اقتصادنا الوطني ومشاركة السلطة الفلسطينية في تحمل أعباء المرحلة الحالية، فإن البعض من أفراد ومؤسسات وسياسيين ومسؤولين يحاول التعبير عن قلقه وانزعاجه من عمق الأزمة الاقتصادية الخانقة، بصب جام غضبه على البنوك سواء المحلية منها أو الوافدة، لقيامها بما هو متوقع منها، وقد شرعنت الحكومة وسلطة النقد بصمتها على التجاوزات والتحريض على القطاع المصرفي، تجرؤ البعض بالدعوة علنا وعمليا لأخذ القانون باليد ومعاقبة البنوك على ذنب لم تقترفه، وأزمة اقتصادية مرعبة لم تصنعها لا بل تأثرت بها وتدفع ثمنها.  وما لم تتدخل سلطة النقد ورئيس الحكومة والرئيس في وقف هذا الجنون، فليس مستبعدا أن يتكرر سيناريو تخريب وإتلاف بعض البنوك من الجمهور الغارق في ديونه لها،  كما حصل في غزة أكثر من مرة.  

لقد اطلعت مؤخرا على بعض ما نشر على وسائل التواصل الاجتماعي، ومن بينها منشور وضعه أحد الشخصيات العامة المقربة من رئيس الوزراء، على صفحة الفيسبوك الخاصة به حديثا، مكتظ بالتطاول على القطاع المصرفي، عماد الاقتصاد الوطني والتنمية الاقتصادية والارتباط مع العالم، ويدعو عمليا إلى انتفاضة عنيفة ضد القطاع المصرفي، ويتهمه بالعمالة والتواطؤ وغير ذلك مما تقشعر له الأبدان.  وهناك سيل جارف من التشهير والتحريض والتعبئة بحق القطاع المصرفي، ما بين تحميله مسؤولية وضع حلول لتجاوز الإجراءات العقابية بحق الأسرى، والضغط لتقديم خدمات مجانية للزبائن، مخالفين بذلك القانون ومعتدين على حقوق المساهمين، وغيرها من الاتهامات الباطلة. 

 

إضافة إلى ما سبق، فإن القطاع المصرفي يعمل في فلسطين بمحددات شبه مستحيلة، وعلى الرغم من ذلك يواجهها بجسارة وجرأة وشجاعة، بما في ذلك كافة الضغوط والتدخلات الإسرائيلية والأمريكية ومحاولة وسمها بالإرهاب، والتضييق عليها ومنعها من العمل إقليميا ودوليا، كجزء من منظومة العقوبات والتضييق على السلطة الفلسطينية للقبول بصفقة القرن ومخططات اليمين الإسرائيلي.  ناهيك طبعا عن مجمل الضغوط والإملاءات التي تخضع لها البنوك محليا.

 

لست هنا بمعرض التنويه للقارئ حول دور القطاع المصرفي في الاقتصاد والتنمية، فمن المسلمات أنه عماد الاقتصاد الوطني والتنمية الاقتصادية والارتباط مع العالم لأي دولة، فما بال القارئ حول دوره المنتظر في السياق الفلسطيني.  شخصيا لدي العديد من التحفظات على بعض ممارسات بعض البنوك، ولدي تحفظات أكبر على آلية ممارسة سلطة النقد لدورها، وعدم الإصغاء للعديد من الشكاوى على تكاليف التعامل مع القطاع المصرفي للصغير والكبير، والتخبط الذي ألمسه شخصيا في إدارتها خلال هذه المرحلة العصيبة.  ولكن المقام لا يتسع الآن للاستغراق في شرح ذلك، وإنما لتنوير المتطاولين والمشهرين والمحرضين ببعض المعطيات حول أداء القطاع المصرفي، والتأكيد لهم ولغيرهم بأن الاقتصاد الوطني سينهار تماما في حال تم المس بهذا القطاع وتقويضه تحت أي مسمى أو شعار، لعل صوت العقل يغلب في نهاية المطاف. وأنوه هنا بأن المعطيات منشورة على صفحة سلطة النقد حتى شهر 6/2020.

  1. إن البنوك هي شركات مساهمة عامة، أي مملوكة من قبل عشرات آلاف المساهمين، وبعضهم يعتاش من أرباحها في حال تحققت، وبالتالي فإن أي ضرر يصيبها سينتقل تلقائيا لهؤلاء المساهمين، ومعظمهم من ذوي الدخل المحدود إلى المتوسط، وأن أكثر من 95% من أسهم المصارف مملوكة من أبناء شعبنا المقيمين في فلسطين.

  2. تعتمد الحكومة بشكل كبير على البنوك لتسهيل أعمالها، بما في ذلك الاقتراض اليومي، وقد بلغ حجم اقتراض السلطة من القطاع المصرفي (1,744) مليون دولار في شهر 6/2020، وأعتقد أن الرقم قفز مؤخرا إلى (2,000) مليون دولار. 

  3. تعتبر البنوك المحلية ملاذا آمنا لمدخرات للمواطنين، وقد بلغت ودائع المواطنين 12,611 مليون دولار في شهر 6/2020، من أصل 13,739  مليون دولار، أي أن 91% من مجمل الودائع تعود للمواطن الفلسطيني الذي قد يكون القارئ أو صديقه أو قريبتها وما شابه، بينما بلغت ودائع القطاع العام 4% وغير المقيمين 4%.

  4. تُسخر البنوك ودائع زبائنها لاستثمارها في الاقتصاد الوطني عبر القطاع الخاص أو إقراضها للقطاع العام، حيث بلغ حجم التسهيلات الممنوحة ما مجموعه 9,652  مليون دولار، من بينها 18% كقروض للقطاع العام، 81% تسهيلات للقطاع الخاص، و1% لغير المقيمين في فلسطين.

  5. حسب معطيات سلطة النقد للربع الأول من عام 2020، تتوزع تسهيلات البنوك على مختلف قطاعات الاقتصاد الوطني، ومن الملفت للنظر أن نسبة القروض الاستهلاكية من مجموع التسهيلات لا تتجاوز 14%.  أي أن معظم التسهيلات مسخرة لتنشيط الاقتصاد الوطني.  بالطبع لا يفوتني التحفظ على توزيع التسهيلات قطاعيا، والذي يبين اختلالا عميقا في ما بينها.

  6. تتحمل البنوك مخاطر هائلة في عملها، سواء السياسية منها وغيرها من حروب تخوضها بسبب عملها في فلسطين،  بما في ذلك صرف مبالغ هائلة للدفاع عن نفسها أمام المحاكم الأمريكية والإسرائيلية التي تتهمها بالإرهاب، والتسويات الناجمة عنها، وقد تجاوزت مليار ونصف دولار لتاريخه على أقل تقدير.  ناهيك عن قبول هذه البنوك بمنح تسهيلات عالية المخاطر بمجالات شتى محليا وأسعار فائدة منافسة، بما في ذلك منح قرض مجمع مؤخراً بأكثر من 200 مليون دولار لإنقاذ أكبر شركة توزيع كهرباء محلية مؤخرا من براثن الاستحواذ الإسرائيلي، إضافة إلى منح قروض مفتوحة لمستشفيات القدس لمنع انهيارها في ظل شح الموارد وتخلف السلطة عن القيام بدورها في دعم هذه المستشفيات، وتسديد التزاماتها وأثمان الخدمات التي تتلقاها منها.

  7. إن الدخل السنوي المتأتي من عمليات البنوك متواضع الى حد كبير ولا يزيد عن 75 مليون دولار سنويا للبنوك الفلسطينية، ويتم توزيع نسبة مجزية من هذه الأرباح سنويا على المساهمين، ناهيك عن أن البنوك تشغل أكثر من 7,500 موظف وجميعهم فلسطينيون يقيمون في فلسطين، ويعيلون أسرهم ويؤمنون كفاف يومهم من عملهم.

 

إن هذه الموجة المرعبة من التطاول على مؤسسات عامة تعتبر عماد الاقتصاد الوطني، دون أدنى تدخل من الجهات الرسمية، ينذر بمرحلة قد تتوج بانهيار القطاع المصرفي برمته وانهيار الاقتصاد الوطني والسلطة الفلسطينية بالتوازي، ولذلك فإنني أعتبر استمرار الصمت وعدم اتخاذ الإجراءات المناسبة لحماية هذا القطاع جزءا من مسلسل ابتزاز البنوك للتساهل في القيام بواجباتها في حماية المودعين والمقترضين على السواء.  وإن الصمت الرسمي على ما يجري، وعدم اتخاذ إجراءات رادعة بحق المحرضين، يوحي بأن جهات المسؤولية والاختصاص قد تكون راضية عما يجري من تحريض.  إن سلطة النقد والحكومة يتحملان المسؤولية مجتمعان عن هذا المنعطف الخطير جداً، والذي إن لم يتم وقفه سيودي بمنظومة السلم الأهلي ويبعثر جهود أكثر من ربع قرن لبناء قطاع مصرفي متين، قادر على الصمود رغم أعتى الظروف.  بالطبع لا يقلل هذا الرأي من حقيقة أن كلا من سلطة النقد والقطاع المصرفي بحاجة ماسة لبرنامج إصلاح واسع النطاق في مجالات مختلفة بما فيها الدور التنموي لهما.