كان لبريطانيا الدور الأساسي والأهم في إنشاء دولة الاحتلال الإسرائيلي، عبر وعد وزير خارجيتها آنذاك آرثر بلفور عام 1917 وتالياً انتدابها على فلسطين بموجب قرار من عُصبة الأمم ( 1920). بِحُكم مكانة المملكة المتحدة تاريخياً كقوة وتأثير عالميين, والدور الذي أحدثته شخصيات يهودية مهمة في السعي لنيل غاية الحركة الصهيونية من خلال التأثير على صُنع القرار "بداونينغ ستريت"، لإقامة "دولتهم" على أرض فلسطين. وهكذا ادت بريطانيا دور الراعي والوكيل لفلسطين وسكانها, لكن ونظراً للأحداث والتحولات الذي شهده العالم في فترة الأربعينات من القرن المنصرم. سواء الحرب العالمية الثانية أو الصعود الأمريكي والسوفياتي( حقبة الاستقطاب)، فإن بريطانيا تراجعت مكانتها الدولية وانتقلت بذلك قضايا الشرق الأوسط للراعي الجديد وهو الولايات المتحدة الأمريكية.
ولهذا وبالرغم من "إنجاز" بريطانيا للدور الأساسي بتأسيس إسرائيل إلا أن انها وعلى مدار العقود الماضية تبنت "حل الدولتين" كأساس لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. وهذا أساسه أن بريطانيا اعتقدت وما زالت بإن دورها تجاه الشعوب اليهودية في أوروبا يقتصر بإقامة دولة لهم على خطوط الرابع من حزيران 1967 فقط. خاصةً مع محاولات أميركا لإبعادها عن المنطقة العربية كما فعلت إبان العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 برفض واشنطن له. لكن ومع ذلك حرِصت بريطانيا بعلاقتها المتينة مع الولايات المتحدة على مشاركة واشنطن بمختلف الشؤون الدولية كما حدث بغزو العراق. بمعنى آخر، وفي إطار القضية الفلسطينية كانت وجهات النظر بين لندن وواشنطن متقاربتين. إلا أنه ومنذ العام 2016 كانت بريطانيا منشغلة تماماً بملفها الداخلي (البريكست) وهو ما أحدث عُقدة مع رؤساء الحكومة البريطانية الثلاث، فكاميرون استقال احتجاجا على تصويت مجلس العموم لصالح خروج بلاده من الاتحاد الاوروبي. ثم تيريزا ماي والتي فشلت في تسوية ملف الخروج وأفضى لاستقالتها أيضاً. أما بوريس جونسون فكان الأقوى في إنجاح ملف البريكست. وبهذا تفردت الولايات المتحدة مع وصول ترمب عام 2017 بملف الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ضاربةً في عرض الحائط الفواعل والمنظمات الدولية وحتى الحلفاء بتقديم ترمب خطته للسلام وفق رؤيته.
وفي خِضْم قرار نتنياهو بالمُضي نحو ضم أراضي فلسطينية للسيادة الإسرائيلية والذي كان من المُفترض أن يتم تطبيق القرار (أحادي الجانب) في الأول من يوليو العام الجاري. ولكن لأسباب خلافية داخل الحكومة الإسرائيلية (الائتلافية) وانشغال والولايات المتحدة بأزمة فيروس كورونا، لم يُطبق القرار بعد. نشرت صحيفة "يديعوت أحرنوت" الإسرائيلية (في نفس اليوم الذي كان من المفترض تطبيق قرار نتنياهو)، مقالاً كتبه رئيس الحكومة البريطانية بوريس جونسون عنونه (كصديق لإسرائيل، أحثكم على عدم الضم). تحدث فيه الاخير عن رفض بريطانيا الاعتراف بأي تغيرات على خطوط 1967، ورغبته بإحياء المفاوضات بين الإسرائيليين والفلسطينيين، و"حذر" أيضاً بخطوة نتتياهو بقرار ضم أراضي فلسطينية.
تضمن هذا المقال عدة مؤشرات ودلالات في غاية الأهمية، يمكن ايجازها بثلاث نقاط: أولها، ربما يُفسر هذا الموقف للسيد جونسون على استرجاع بريطانيا مكانتها الدولية كما كانت عليه قبل عقود وشعورها بضرورة المشاركة في التأثير على مختلف الملفات الدولية وتحديداً في منطقة الشرق الأوسط كما ليبيا، ولكن بصفة راعي سلام وليس حرب كما كانت عليه في فترة توني بلير. وما يدعم ذلك هو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والانفكاك من عوائق تُعنى بالتشاركية مع دول أوروبية أخرى، والاعتقاد السائد بذلك هو أن بريطانيا عانت من ملف الهجرة لديها وهذا أصلاً كان محور محادثاتها مع بروكسل.
ثانياً، تطمح بريطانيا من أن تتبوء مكانة مهمة في رابطة الدول الراعية للسلام، ففي الحديث عن الفلسطينيين يرى السيد جونسون بأن تُشارك بلاده في احتضان المحادثات أو المفاوضات بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي. حيث صرحت القيادة الفلسطينية مؤخراً برفضها الطرف الأمريكي كوسيط احادي في عملية السلام. وهذا على أية حال يدعم محاولات بريطانيا في الإسهام بحل الصراع على أساس حل الدولتين.
أخيراً، لا يعني هذا إطلاقاً أن بريطانيا ستتعاطف مع الفلسطينيين لدرجة ما يتمنوه، ولكن لتضارب مصالح الدول قد تسهم بريطانيا بحل يُرضي الطرفين. وهذه التوقعات مُستبعدة تماماً وخاصةً من الجانب الإسرائيلي واحتمالية بقاء ترمب لولاية ثانية. أما حديث السيد جونسون عن الشركاء العرب فسيُترجم برغبة بريطانيا بالتغلغل من جديد في شؤون الدول الخليجية تحديداً والإتفاق معهم على حل الصراع وفق رؤيتهم ( بريطانيا ودول الخليج).
في المُحصلة تبقى أمام الفلسطينيون فُرص لتحقيق مكاسب سياسية وقانونية طالما كانو متفقين على مقتضيات المرحلة. فطرفي الخلاف الفلسطيني (فتح وحماس) أو بدقة أكثر ممثلي الشعب الفلسطيني، وبعد إنجازات كلاهما تجاه المسار السياسي للقضية الفلسطينية. يتبنون بتحفظاتهم، مشروع الدولة الفلسطينية، أو حل الدولتين. ولكن سيكون أمامهم التحدي الأصعب، وهو الوثوق بالفواعل الدولية الحاضنة لتسوية الصراع، بريطانيا أو غيرها. باختصار يبدو أن القيادة الفلسطينية ( فتح وحماس) تعلمت درسها. أضف إلى ذلك حاجة طرفي الانقسام إلى المُصالحة الحقيقية بكافة متطلباتها( الانتخابية وإصلاح المؤسسات) لعرقلة أي حجج دولية أو عربية أو قانونية( متطلبات الدولة)، خاصةً أن السيد جونسون تذرع بالقانون الدولي وقراراته في مقاله.
بالرغم من تحليل مقال السيد جونسون إلا أن ذلك لا يعني أن بريطانيا ستحاول الانفكاك من تحالفها المتين والتاريخي مع الولايات المتحدة أو مواجهة أي قرار يتبناه ترمب تجاه الفلسطينيين. فحلف شمال الأطلسي مازال حاضراً وبقوة، ولندن تحتاجه دائماً لأي مغامرات روسية أو صينية. ولا يتوقع احد من السيد جونسون ولا يجب التوقع أصلاً من أن يُساند الفلسطيني تجاه إسرائيل التي هي بالأساس لم توجد لولا بريطانيا!