أراهنك! على أنه ومع ظهور الخيط الأبيض من الخيط الأسود من صباح هذا السبت، تكون مدينة نابلس هي المدينة الأنظف على وجه الأرض!. ولكنني لا أستطيع أن أراهنك، كم من الساعات أو الدقائق دامت أو ستدوم هذه الحالة حتى يثبت العكس. فمع بداية كل فجر، ومنذ أكثر من 150 عاما، ظل العشرات من موظفي قسم النظافة في البلدية، يقومون صباح كل يوم بتنظيف كل شوارع وساحات وميادين المدينة، حتى تخال نفسك وأنت تسير في زقاق بلدتها القديمة، كأنك تسير في متحف كبير جميل ونظيف، مما جعل البعض يطلق عليها اسم (دمشق الصغرى).
ولأنني درست وقضيت أجمل سنوات عمري في موسكو، التي هي وبالتأكيد، أنظف مدن العالم، فقد تذكرت أن الكرملين ومنذ 102 عام، هو أنظف بقعة في تلك المدينة. والقصة تعود إلى يوم السبت، 19 نيسان من العام 1919، أي بعد عام ونصف العام فقط من نجاح الثورة الشيوعية في روسيا عندما دعى مؤسسها فلاديمير لينين، الشيوعيين العاملين في محطة تصليح القطارات، إلى "يوم عمل" حزبي تطوعي مجاني، ليتمكن الرجل من إرسال الدعم المطلوب إلى قواته التي كانت تحاول فرض سيطرتها في الشرق. واستجاب 15 عاملا فقط لهذا النداء، الذين سرعان ما تمكنوا في نهاية اليوم من تصليح عدة قاطرات، ليتم بعدها شحن ما يلزم من أسلحة وعتاد إلى تلك القوات، التي استطاعت بعد ذلك فرض سيطرتها على أراضي روسيا الشرقية.
وكان قرار لينين في شهر آذار من العام 1918، بجعل موسكو عاصمة لروسيا بدلا من "بطرسبرج" (تسمى حاليا سانت بطرسبرج)، يحتاج إلى الكثير من المال والعمل والعمال لتنظيف الكرملين الذي تبلغ مساحته 27.7 كيلو متر مربع، كي يكون مقرا لحكومته وحزبه بعد أن ظلت المباني كلها مهملة لأكثر من 200 عام. وقرر الرجل دعوة الشيوعيين للعمل طوعا (دون مقابل)، لتنظيف قصور وكنائس وساحات الكرملين إضافة إلى 20 برجا يلتفون حوله، ليصل أعلى ارتفاعاته إلى 80 مترا.
وهَبً الشيوعيون لتنفيذ المبادرة التي ستصبح لاحقا "مبادرة سنوية" تتناقلها الأجيال.
ومن المعروف أنه خلال فترة الشتاء القاسي في موسكو، تتراكم الثلوج عند أطراف الشوارع والبيوت والحدائق والساحات، لتختزن في داخلها مئات الآلاف من أطنان القاذورات والزبالة والتراب، وهو ما تعجز عن إزالته وتنظيفه في يوم واحد، أي من بلديات العالم كله. ومع حلول النصف الثاني من كل شهر نيسان تبدأ درجات الحرارة في موسكو بالارتفاع. ولما كان عيد ميلاد "لينين" يقع في 22 نيسان، فقد ارتأى الحزب الشيوعي، اختيار يوم من أيام العطلة الأسبوعية (السبت" وتلفظ "سوبوتا) إلى تلك المناسبة، ليخرج الرجال والشباب والنساء والفتيات وحتى الأطفال، إلى الشوارع، وهم يحملون المجارف والمكانس، لتنظيف الشوارع والمصانع والمدارس والمستشفيات الخ، وسمي يوم السبت التطوعي ب (سوبوتنيك) نسبة إلى يوم "سوبوتا". ثم تحولت المبادرة التطوعية، في الدولة السوفيتية إلى "عادة سنوية"، يخرج فيها عشرات الملايين من المواطنين في كل مدن وقرى الدولة. ولم تقتصر مشاركة المواطنين الروس فقط في (السوبو-تنيك)، إذ كان جميع الطلبة الأجانب من كل دول العالم يشاركون الشعب الروسي في تنظيف شوارع المدن وساحات الجامعات والمستشفيات.
وهكذا وخلال أقل من 12 ساعة تصبح موسكو ومعها كل المدن الروسية، أنظف وأجمل المدن في العالم. وأذكر أننا عندما كنا 60 طبيبا فقط نعمل مع علامة طب العيون البروفسور "فيدروف"، في المبنى القديم من المستشفى رقم 81 (تحمل المستشفيات أرقاما وأحيانا أسماء لعظماء الأطباء فقط)، وحان انتقالنا إلى المبنى الجديد في بولفار (بسكود نفسكي 59)، كان المرحوم البروفسور "فيدروف" وزوجته الدكتورة "ايرينا"، هما أول من قاموا برش الماء على أرض المبنى الجديد، وبدأوا يمسحون وينظفون بأياديهم، حتى بلغ الحماس فينا الزبى، لننهي عملنا نظيفا (زي الفل) في وقت متأخر من مساء ذاك السبوتنيك، وصار مبنى "أكبر معهد جراحة عيون في العالم" جاهزا، ليبدأ المرضى بالحج إلى هناك من كل أنحاء العالم (عدد الأطباء الذين يعملون الآن في مراكز فيدروف المنتشرة حوالي 4000 أخصائي عيون).
الطريف ذكره أن عمال النظافة في الكرملين، ظلوا يَشتكون من براز الحمام الذي كان يتساقط على أسطح المباني، وعلى الأسطح "الذهبية" للكنائس الموجودة في ساحات الكرملين، حتى فطن المسؤولون عن ذلك، وقاموا بتربية الصقور التي دُرِبت خصيصا لتطير فوق سماء الكرملين فقط. وأذكر أنني جلست وزوجتي "أروى" مرة في أحد المقاهي الجميلة جدا المطلة على الكرملين، حيث كانت أسراب الحمام تتراقص من فوقنا وتتمختر بجانبنا، دون أن تحاول أي منها الاقتراب أو الطيران ولو بخطوة واحدة نحو أسوار الكرملين النظيفة التي تمتد على طول 5.5 كيلو متر.
في النهاية، دعنا نعود إلى نابلس، التي كانت عند بداية قراءتك لهذا المقال، أنظف مدينة في العالم! تماما كما كانت مدينتك، رام الله أو الخليل أو قلقيلية قبل دقائق. فأنت وأنا متأكدون تماما أنه وخلال هذه الدقائق، هناك من بصق من سيارته في وسط الشارع، وهناك من ألقى بقمامة سيجارته أو بعلبة سجائره الفارغة على الرصيف، وهناك من ألقى بسلة قاذورات بيته بعيدا أو حتى بالقرب من حاوية الزبالة، المهم أن "السلة" صارت بعيدة عن باب داره أو محله أو دكانه!، والأمثلة أمامك وأمامي بالمئات، لا وحتى بالآلاف! حتى تراكمت القاذورات والفضلات في كل مكان لتصبح مدننا كما تراها بعينيك أنت وأنا الآن.
ترى هل ستصبح مدينتي ومدينتك أجمل المدن، إن أعلنا عن "سوبو تنيك" يوم السبت القادم، أو كل يوم "سبت"؟، أم أننا شعبٌ سوف يستمر بإلقاء النفايات بعد أن أمِنَ العقاب، وما زال يضرب بعرض الحائط قول الأنبياء!، بأن "النظافة من الإيمان"؟.