يتضح أنه بعد مرور أكثر من ستة عقود على قيام إسرائيل ما زالت القضايا الأساسية المختلف عليها في علاقة الدين بالدولة عالقة، وتعود لتظهر على السطح بين فترة وأخرى: فقضية " من هو اليهودي؟" ما زالت القضية الأهم في العلاقات بين المتدينين والعلمانيين، وتُسبب الكثير من المشاكل في مجالات الحقوق المدنية والأحوال الشخصية. وما زالت مؤسسة الحاخامات تضع عراقيل كثيرة أمام من يرغبون بالتهويد وتشترط شروطاً صعبة.
كذلك، فإن الطبيعة الصراعية بين المتدينين والعلمانيين في داخل إسرائيل ما زالت غالبة، وأن العقود السابقة من التعايش بين أطرافها في ظل الدولة الإسرائيلية لم تنجح تماماً في صهر تمايزات المجتمع الإسرائيلي وتحويل الولاء الاسمي للأفراد إلى الدولة ، أو على الأقل ، إلى الإطار الصهيوني التقليدي الذي تبنته الدولة .
لم يفصل في الصراع الديني ـ العلماني في داخل إسرائيل بين ذلك الصراع وقضايا السياسة الخارجية، وبالتحديد قضايا التسوية للصراع العربي ـ الإسرائيلي ، حيث تعتبر قضايا التسوية مركزية تماماً في هذا الصراع ، وفي عملية التحول الإسرائيلية بحثاً عن هوية جديدة تناسب التحولات السائدة في مختلف المستويات الداخلية والإقليمية والدولية . وربما لم تكن التسوية لتبلغ الدرجة من الأهمية لو كانت إسرائيل دولة طبيعية ، وسكانها شعباً بمعنى الكلمة ، تستمد هويتها وشرعيتها واستقرارها وتجانسها الداخلي من عوامل تاريخية حقيقية تجمع فئات الشعب المتنوعة في نسيجٍ واحد ، وتربط بين الشعب وأرضه ، بصرف النظر عن الصراع الإقليمي أو الدعم الدولي ، وهو ما يوضح أن الدولة الإسرائيلية ما زالت بعد في حالة تشكل لم يكتمل.
يُلاحظ أن أهم قضايا التسوية كافة بالنسبة إلى الصراع الداخلي في إسرائيل هي القضية الفلسطينية، وخاصة في أبعادها الأمنية، حيث تستقطب هذه القضية معظم الجدل بين الأطراف المختلفة. أما القضايا الأخرى، مثل الانسحاب من هضبة الجولان السورية، فيغلب على الاهتمام بها الطابع الموسمي.
كما يُلاحظ أنه على مدار عقد التسعينيات من القرن الماضي ، تفاوتت مكانة قضايا التسوية بين قضايا الصراع الداخلي الأخرى، حيث بدا أنها تحتل الصدارة في بداية العقد بسبب أعباء الانتفاضة الفلسطينية ، والزخم العربي والدولي باتجاه تدشين عملية التسوية مقارنة بقضية الهوية ، على أثر اغتيال رابين ، وتصاعد الوعي بمخاطر الانقسامات الداخلية ، والحاجة إلى تأكيد القاسم المشترك بين الأطراف اليهودية.
وفي المرحلة الراهنة ، فرضت القضايا الثقافية ـ الاجتماعية ـ الاقتصادية ذاتها استمراراً للبحث عن وسيلة لتهدئة حدة الصراعات الداخلية ، من خلال التأكيد على الأبعاد القيمية لليهودية ، ومعالجة قضايا اليهود الشرقيين التي احتلت صدارة اهتمامات مختلف القوى السياسية الإسرائيلية . ومن جانب آخر، يُلاحظ، أيضاً، أن التقارب الذي حدث بين اليمين واليسار العلمانيين ( باتجاه كل منهما نحو الوسط)، قد خففا نسبياً حدة الاستقطاب بينهما. ومن هذا المنطلق أصبحت قضايا التسوية، مدخلاً لتحقيق الاستقرار الاجتماعي ـ الاقتصادي داخل إسرائيل، أكثر منها مدخلاً لتحقيق استقرار إسرائيل وأمنها إقليمياً .
هذا التراجع يعود، أساساً، إلى تخاذل العالم العربي وتراجع السياسة الفلسطينية خاصة في مواجهة تراجع الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة عن مقتضيات عملية التسوية، الأمر الذي افقد هذه القضايا كثيراً من سخونتها التي كانت حافزاً للاهتمام بها في الداخل الإسرائيلي. ومع ذلك يظل التراجع النسبي في أهمية قضايا التسوية ضمن قضايا الصراع الإسرائيلي الداخلي ناجم من تشابك هذه القضايا جميعاً وتداخلها.
خلاصة القول: إسرائيل تغلي " في مرجل" الصراعات الداخلية، ولولا صراعها مع الفلسطينيين لرأينا كم هو هذا الصراع حاد وخطير على مستقبلها.. إسرائيل لن تقدم على تسوية كاملة مع الفلسطينيين أو العرب لأنها لو فعلت ذلك لبان " عوارها " الداخلي، وساعد ذلك كثيراً على ترهلها.. كل ما يتم نقاشه الآن من خلال الخبراء والمؤسسات الإستراتيجية في إسرائيل هو كيفية الحفاظ على مستقبل هذه الدولة المصطنعة.. لقد أكدت لنا تجارب التاريخ والحقيقة القرآنية كذلك أن إسرائيل إلى زوال، لأنها دولة ظلم واستعمار ..