كلُّ الحروب الأهليَّة كانت في الغالب تجدُ لها مبرراتٍ أيديولوجيَّة أو دينيَّة أو طائفيَّة أو مذهبيَّة؛ وتتعلّلُ أطرفها بأسبابٍ سياسيَّة أو اجتماعيَّة وتَتَّخِذُ لها منطلقاتٍ وشعاراتٍ شتَّى.
ولمْ يَكُنْ ينقُصُ منطقتنا من مصائب المَّتْ بها منذ عقودٍ من الزَّمن ومنذ ظلام العهد التركي الاستبدادي والتجهيلي ثمَّ عهود الاستعمار حالِكَةِ الظُّلمة؛ وعهود الاستبداد تحت شعارات ضرورات الدَّولة القُطْرِيَّة أو الدِّينيَّة أو القوميَّة؛ سوى هذا الصِّنف من الحروب الأهليَّة والمذهبيَّة الَّتي يُرادُ لها أنْ تطْحَنَ ما بقيَ من كيان هذه المجتمعات الَّتي أنْهَكتها عوامل الانفصام والاغتراب والعجز عن إنتاج المعرفة أو حتَّى استعارتها أو إدارة ذاتها بأدنى درجات الكفاءَة والفاعليَّة والمسؤوليَّة؛ وعلى قاعدة الإرادة الحرَّة المستقلَّة؛ هذا ناهيكَ عن ركام الهزائم المتتالية الَّتي لَحِقت بها في صراعاتها مع الخارج؛ وحتَّى في مواجهتها لِمُعْضِلاتِ أوضاعها الدَّاخليَّة.
من المُريعِ أنْ نَجِدَ هذه المجتمعات تَغْرَق الآن في مستنقعاتٍ آسِنَةٍ من الفتنةِ المذهبيَّة ومن التناحر السِّياسي الى حدِّ الذَّبح وقطع الرؤوس وإحراق النَّاس أحياء؛ ومن التحيُّز والتَّعصُّب لأفكارٍ عفا عليها الزَّمن وتجاوزتها الوقائع وسياقات التَّاريخ وضرورات الحياة والمستقبل؛ ومن المريعِ أنْ نجدها تُصِرُّ على العيش في الماضي دونَ أنْ تستفيدَ من عِبَرِه ودروسه؛ إلَّا بمقدارِ ما يلزمها من استلهامِ تجارب تبرير أفعال السُّلطة الإمبراطوريَّة الدِّينيَّة في ماضي التَّاريخ السَّحيق من خلالِ الدِّين ونصوصه الَّتي ربما جاءَت في سياقاتها الواقعيَّة والآنيَّة في حينه؛ إلَّا بما يلزمها من جُرُعاتٍ يوفِّرها ذلك الإرث التَّاريخي المقيت من المُسَوِّغات الَّتي تقتل الحريَّات باسم الحريَّات؛ وتقتل العدالة تحتَ شِعارِاتٍ زائفة تَنْشُد العدالة؛ وتقتل إمكانات وكرامة الحياة باسم البحث عن الحياةِ الكريمة.
أليْسَ هذا ما حصلَ عبر كل محطَّات الصِّدام بين المكوِّنات السياسية والمذهبيَّة لهذه الأمَّة عبر محطَّاتٍ شتَّى من التَّاريخ ؟!
ثمَّ اليسَ هذا ما حصلَ إبَّان الحروب الدِّينيَّة والبينيَّة والقوميّة في أوروبا منذ عصور الظَّلام مروراً بالعصور الوسطى انتقالا الى ما بعد عصرِ الثورة الصِّناعيَّة؛ وعهود الحروب الطَّاحنَةِ الطَّويلة؛ ووصولاً الى الحربين العالميتين الأولى والثَّانية؛ اللَّتانِ أفْنَيَتَا عشرات الملايين من البشر عِوَضَاً عمَّا ألْحَقَتاهُ من خرابٍ ودمار؟! لكنَّ الفارقُ بينَ ما يجري لدينا هنا وما قد جرى هناك أنَّ تلك المجتمعات قد وصلت وبفعل تلك التَّجارب الى سنِّ الرُّشد؛ فلم يعد من السَّهل ولا من الممكن واقعيَّاً ولا حتَّى نظريَّاً العودة الى مناخ وبيئة تلك التَّجارب السَّاحقة والحارقة لمعاني ولمعايير الإنسانيَّة والعدالة والأمن السَّلام؛ ولانْ كانت تلك المجتمعات الغربية بما تمثله سياسات حكوماتها ونخبها تمارسُ تجاهنا أنواعاً من النِّفاق بما يسمحُ لها أنْ تجعل من مجتمعاتنا وثرواتنا وأرضنا ميادين لتنافُسِها وصراعاتها وعناصرَ لمعادلات التوازنات الاستراتيجية الَّتي تخصَّها دون غيرها؛ فإنَّها لم تعمد الى ذلك ولم تفلح في ذلك إلَّا من زاويةِ ما يتوفَّرُ لدينا من قابليَّةٍ ذاتيَّةٍ للاستخدام؛ ومن مناعةٍ مُريعَةٍ أمام بلوغ سنّ الرُّشد فكريَّاً وسياسيَّاً.
لنا أنْ نُلاحظَ أنَّ كثيراً من الثَّورات الاجتماعية وحركات الاحتجاج السِّياسيَّة عَبْرَ التَّاريخ قد تحوَّلت بشكلٍ لافِتٍ الى حروبٍ أهليَّة؛ ولنا من الثَّورةِ الفرنسيَّةِ مثال ومن الثَّورة البلشفيَّة – وإنْ بِدَرَجَةٍ أقل حدَّة مِمَّا حصل في ثنايا الثورة الفرنسيَّة مثال آخر.
بدأتْ الثَّورة الفرنسيَّة بشعار (حريَّة، إخاء، مساواة) وانتهت في كثيرٍ من فصولها الدَّامية المريعة الى حروبٍ أهليَّة بين ما كان يُطلَقُ عليهم الزُّرق – أنصار الجمهوريَّة – والبيض – أنصار الملكيَّة؛ وتواصلت تلك الحروب والمعارك في الأريافِ تُدَمَرُ القرى وتهجَرُ اهاليها وتحرقُ الغابات وتُوْدي بآلافِ الأرواح البريئة؛ ونُصِبت المقاصل لِتأتي على قطع آلافِ بل عشرات آلاف الرؤوس؛ وقد أضْحَتْ آلة المقصلة الرَّهيبة إحدى المعالم البارزة الَّتي لطَّخت وجه الثَّورة بصنوفٍ من العقاب الجماعي؛ وفيما كانت جيوش الثَّورة تبررُ أفعالها بضرورات إنهاء حقبة حكم النُّبلاء وإنهاء المَلَكِيَّة وتحقيق شعارات الثورة؛ كانَ القوَّاد المحنَّكين من أنصارِ الملكيَّة يستغلُّون نفوذهم لدى الفلَّاحين ويستغلُّون وقائع الظُّلم الجماعي الَّذي حاقَ بالفلَّاحين من قِبَلِ البارسيين أنصار الجمهوريَّة؛ لإذكاءِ روح الانتقام؛ ولتعريَةِ شعارات الثَّورة عبر استفزاز القائمين عليها الى أعمالٍ أبعدتها كل البعد عن منطلقاتها الأساسيَّة.
بالإجمال هذا هو سِنْخُ الحروب الأهليَّة؛ وتلكموا هي طبائعها؛ تختلِطُ فيها الرَّغبات مع الطُّموحات الشَّخصيَّة؛ مع عوامل الرَّغبة بالانتقام؛ مع المبرِّرات من كلِّ صنفٍ؛ مع الشِّعارات البرَّاقة الزَّائفة؛ وتدفع المجتمعات فاتورتها من دمائها ومقدَّراتها وأمنها وسلامها وسلامتها ومستقبلها !!.