"يجب علينا إن ألفينا لمن تقدمنا من الأمم السالفة نظرا في الموجودات واعتبارا لها بحسب ما اقتضته شرائط البرهان، أن ننظر في الذي قالوه من ذلك وما أثبتوه في كتبهم، فما كان منها موافقا للحق قبلناه منهم وسررنا به وشكرناهم عليه. وما كان منها غير موافق للحق نبهنا عليه وحذرنا منه وعذرناهم." (ابن رشد: فصل المقال) قد أختلف معك في كل كلمة تقولها، و لكنى على استعداد أن أدفع حياتي ثمنا لحريتك في إبداء رأيك." (فولتير)
أحد يذكر زيادين؟ يعقوب زيادين طبيب أردني شيوعي من أسرة مسيحية من مدينة الكرك، نجح في العام 1958 في انتخابات "البرلمان" الأردني عن مدينة القدس. يا إلهي، نجح الرجل نائباً عن القدس الفلسطينية المليئة بسكان مسلمين من أصول مقدسية وخليلية وأفريقية وما شئتم من إثنيات. لم يكن هناك داعش ولا تكفير وهجرة ولا قتل على الهويات. كان زمناً آخر. كنا في عالم آخر، قاب قوسين أو أدنى من بناء الأمة من المحيط إلى الخليج. اليوم أصبح المسيحي غريباً في مدينته، والشيعي مطلوب للصلب، والعلماني مرتد يقتل، وسيف الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه مشرع على امتداد الساعة من أجل أن يجز رؤوس أبناء الوطن من الطوائف والمذاهب والاتجاهات والأفكار كلها مهما كان اختلافها مع "حق" "أهل السنة والجماعة" بسيطاً. إنه زمن: "وربما تقتلني أو أقتلك إذا اختلفنا حول تفسير الأنوثة." لا مكان للاختلاف أبداً. إذا أسبلت يديك في الصلاة بدلاً من وضعهما على وسطك فأنت مبتدع تستحق القتل، وإن أنت فسرت آية من القرآن خلافاً لما يقول خليفة المسلمين أبو الأعلى المودودي أو أبو بكر البغدادي أو سيد قطب فأنت كافر حكماً وتستحق القتل، وإن كشفت المرأة وجهها فهي زانية أو في حكم الزانية ولا بد من قتلها. بل إن بعض الظرفاء يتقول إن المتشددين يقتلون البقرة التي تكشف أثداءها، فالبقرة بدورها أنثى ولا بد من أن تتبرقع. هذا زمان الجنون. اقتلينا يا جيم الجنون.
منذ يومين زارني شاب "كهربجي" لم يقرأ في حياته مثلما قال لي أي كتاب أو مقالة. بعد قليل من الحديث عن فلسطين ولبنان حضر فيه حزب الله، تبرع الشاب ليخبرني أن حزب الله يستحق وأفراده جميعاً الموت لأنهم كفرة. فسألته مبتسماً: وماذا عن العلمانيين، والشيوعيين، والجبهة الشعبية، والديمقراطية إلى آخر القائمة؟ ردت بدوره مبتسماً: يجب أن يقتلوا جميعاً إذا كنا ننوي تطبيق شرع الله. سألته عن مقدار التزامه بالصلاة، فقال إنه "للأسف" مقصر ولكنه سيتوب ويلتزم بالصلاة كما يتطلب الشرع. أخذ الرجل يتحدث بثقة بثقة العلماء. وحتى عندما حاولت أن ألفت نظره إلى أن السلطة تتبنى فهماً ليبرالياً للحياة والسياسة والاقتصاد، طرد الفكرة بسرعة، وأصر على أن "زمن الخلافة عندما يحضر لا يبقي ليبرالية ولا اشتراكية ولا شيعة ولا كفرة. زمن الخلافة لا يقبل القسمة على اثنين: إما أن تكون مع الدين الصحيح، أو ُتقتل." وساد صمت رهيب.
لكن لماذا نستغرب هذا الذي يحدث في هذه البلاد؟ إنهم يدربون الناس منذ نعومة أظفارهم كيما يصابوا بالعمى الفكري الكامل. هناك حقيقة واحدة لا يجوز لأحد أن يخرج عليها. وعندما اقترح إبراهيم أبو لغد تدريس الديانات المقارنة بدل التربية الإسلامية أو المسيحية تم طرد الفكرة بسرعة بسبب "حساسية" الموضوع، وكلما طب الكوز في الجرة يتم تذكيرنا بأن من غير اللائق أن نقترب من المقدسات والمحظورات حتى أصبح أحدنا يخشى أن يهمس همساً بما يختلف مع الرأي الواحد الصحيح. وهكذا استدخل الناس على نحو عميق أن هناك حقيقة واحدة مطلقة لا بد من أن تأتي يوماً وتفرض نفسها، وإن غابت مؤقتاً لأسباب عملية. يتم تعبئة البشر على نحو وثوقي دوغمائي يجعل أحدهم متأكداً من امتلاكه الحقيقة كل الحقيقة ولا شيء غيرها. وهكذا يغدو المخالف في الرأي كافراً أو مندساً خبيثاً بشكل أو بآخر. ولا يوجد في مثل هذا التفكير من حاجة إلى الاستماع للآخر أو ومحاورته لأن القضية محسومة على نحو قبلي لا مكان معه للانفتاح على الحوار.
دائماً ما أحس بالعجز الكامل عن إقناع المتعصبين أن يصغوا ولو لدقيقة واحدة، إنهم دائماً يمتلكون المعرفة الحق كلها وما علينا إلا أن نصمت ينورونا بالحق والحقيقة. الحق الذي نحفظه جميعاً عن ظهر قلب بسبب انتمائنا المشترك لهذه البلاد. تحاول عبثاً أن تطلب من المتعصب أن يقفز عن الأفكار الشائعة لأنك تعرفها، ولكنه بالتأكيد لا يقتنع بأنك تعرف المعلومات السرية التي في حوزته فيصر على أن علي أن تستمع لعل الحق ينفذ إلى أعماقك. إنها جيم الجنون. بالطبع لا يشفع لك أي تدريب من أي نوع. وتبدو المفارقة مثيرة للسخرية عند مقارنة الرهبة التي يحسها المواطن "الكهربجي" ذاته تجاه أي طبيب قرأ بضع سنوات في أوكرانيا أو صربيا والاستهانة التي يتمتع بها تجاه الفلسفة والاجتماع والتاريخ والاقتصاد السياسي.
هذه أشياء ملقاة على قارعة الطريق، وليس يبدو للمواطن النمطي أن من قرأ عشر سنوات في الفلسفة أو التاريخ يعرف شيئاً ذا بال، ويحتفظ المواطن العادي بصلفه وغروره بالحقيقة التي سمعها من الشيخ عن طريق جهاز التلفاز أو خطبة الجمعة. وتسود حالة مريعة من رفض التفكير والحوار والمناقشة، لأن "العامة" على حد تعبير ابن رشد تمسك بزمام الفكر وتدعي امتلاكه النهائي بحيث لا يعود من داع للفلسفة والإنسانيات كلها. أراهن القارئة والقارئ الكريمين أننا لو استفتينا الناس حول إغلاق تخصصات الإنسانيات في الجامعات أو طرد المفكرين والفلاسفة من العالم العربي لوافقت غالبية ساحقة على ذلك. لكن ما العجب؟ ألم يذهب مفكرون من شاكلة الكلاسيكي العظيم الغزالي أو المعاصر سيد قطب إلى القول بأنه لا حاجة البتة للفلسفة والإنسانيات لأن لدينا كل العلم الذي تدعي أنها تبحث فيه. يمكن فقط السماح بشيء من الطبيعيات تحت إشراف صارم ورقابة دقيقة. إنها جيم الجنون. لقد تبنى الناس الفكرة الغزالية القطبية على نطاق واسع، وأصبح كل فرد أنهى التوجيهي أو لم ينهه خبيراً في الاقتصاد والفلسفة وكل ما تشاء من معارف خلا الطب والطبيعة. بصراحة تامة نقول إن هذه الغوغائية قد وصلت إلى زوايا المجتمع وأنحائه كلها. فالآخرون إن كان هناك من آخرين لا يقبلون بدورهم أي اختلاف. تخيلوا لو أنني كتبت مقالة في نقد الفكر الديمقراطي، هل تقوم مؤسسة ترعى نشر الأبحاث حول الديمقراطية بنشره؟ الجواب للأسف هو لا. فتلك المؤسسة ستطلب مني أن أقول خيراً في حق الديمقراطية أو لأصمت. أرأيتم إن الموقف الداعي للديمقراطية يصبح ذاته موقفاً مناقضاً لها. إنها جيم الجنون. لا أحد يقبل الآخر والأقوى يقصي الآخر بل يصفيه جسدياً إن سنحت الظروف. ليس هناك من وصفة جاهزة تغير الحال في عشر ساعات أو عشرة أيام. لكن هناك حاجة إلى ثورة في التعليم المدرسي والجامعي باتجاه "إعدام" فكرة الحقيقة الواحدة بشكل تام ونهائي. ولا بد من ثورة في الإعلام المرئي والإلكتروني والمسموع والمكتوب تفتح الباب على مصراعيه لأشكال الاختلاف كلها. من البدهي أن هذا سيقود إلى آلام ولغط وهرج ومرج في المستوى الشعبي الواسع، ولكن ذلك لا بد منه إن كان هناك من نية لتغيير العقلية الداعشية التي يستبطنها المجتمع بأسره، على الرغم من بعض مظاهر "اللبرلة" التي نشاهدها هنا وهناك خصوصاً في أيام "الوساع". لا بد من فعل شيء قبل أن تأتي أيام عجاف على من تبقى من العرب لا تبقي ولا تذر. وعندها ندخل في تيه قد لا نخرج منه قبل عقود، أو قد لا نخرج منه إلا وقد ذهبت أحلامنا أدراج الرياح.