تسارعٌ نحو السقوط، وسقوطٌ في حفرةِ الهلاك، ورغوةُ الكلامِ لم تنشف عن لسان الشاعر المتشعبطِ على مشنقةِ العزلة. والسروةُ العربية التي كانت خيمةَ المتعبين، يستظلون بظلها، ويريحون تحتها أقدامهم المنهكة من وعورة الطريق، تفسَّخت بفعلِ ريحٍ صرصرٍ عاتية، وصارت أغصانها الطرية واليابسةُ صهواتٍ لخيولٍ أو حميرٍ أو بغالٍ خياليةٍ يركبُها الصبيةُ وهم يعدُّون العدة لحربٍ قبليةٍ، أو سباقٍ افتراضيٍّ يعيدون من خلاله للكبار صورةً عن مضارب بني عبس، وربما تحضرُ عبلةُ بعض اللقاءات التبارزية، فتبرزُ كاشفةً عن ثغرٍ لا يشبه سيف عنترة المتبسِّم، فالسيوفُ العربيةُ استحالت خشبًا ناشفًا مصنوعًا من سروةٍ تشقَّفت وتفتتت، وتركت مكانها لأغرابِ اللغةِ وطهاميس البلاغة، ولَم يكن الوقتُ عطوفًا عليها، فقد جاء انهيارُها سريعًا متوقعًا لا مفاجأةَ فيه، ولكنَّها وقَعَتْ بعد أن وقَّعتِ القبيلةُ على السقوط، فخرجت من حساباتِ البطولة إلى ملاعبِ الطفولة، قفزًا سريعًا نحو قمةِ الهاوية، فجاء صدى اللطمةِ بالذلِّ عنيفًا، وكان اللاطمُ والملطومُ يتعانقان في حانةِ الأعشى الشاعر العربيِّ، ويرددان شعرًا كتبَهُ قبلَ أن يغدو إلى الحانوت، وهو يتحسسُ أعضاءه خوفًا من أن تخونه في ليلةٍ زرقاء أو حمراء أو لا لون لها.
إنَّ ما يشهده العالم اليوم من انحدارٍ سياأخلاقيٍّ، واجتمادينيٍّ، لا يُبشِّرُ بالخير، ولا يُنذرِ بالشر، بل هو الشَّرُّ ذاته، والعربُ العاربةُ في كل جولةٍ آلاتُهُ وأدواتُه، فالتفجيراتُ في بيروت حرَّكت قرائح الشعراء، ودفعتهم لكيل المدائح والمراثي، والحرائقُ في خليجِ العرب سيَّلت الأقلام الجافة، والصعودُ الأخير إلى الحضيض، جمَّعَ شعراء النقائضِ على لومِ الدويلةِ التي قررتِ الانبطاح على فخذةِ عاهرةٍ لقيطة، فعاقرتها بعد أن كشفت عن عجيزتها الكبيرة نسبيًّا، ونحن كشفنا عن عجزنا أو اكتشفناه مؤخَّرًا، ووجدنا ضالتنا في السروةِ التي كانت تجمعُ كل عصافير الوطن على أغصانها، فذهبنا إليها حاملين خيباتنا ونكباتنا، وإذا بِها انقلعت بفعل الفاعلين نحن وَهُمْ وَأنتم، وبدأ اللوم والعتابُ من جديد، فهمْ يلومون نحنُ، وأنتم تلومون الضميرَيْنِ، وقد بحثوا كلُّهم عنْ ضميرٍ ما زالَ حيًّا فلم يعثروا عليه، وكانَ الوطنُ "لعبتنا ودميتنا، وكنّا لم نكنْ ما نحنُ هذا اليومَ، إذ كانت عروبتنا حرامًا، لا تمسّوها بسوءٍ أيها الأطفال، فاخترنا خناجرَنا، ومزَّقنا لها الأثداء، فاندلقَ الحليبُ الأحمرُ المكنونُ، لم نرضعْ ولَم نشبعْ" ومنذ ذلك التاريخ، ونحنُ نبحثُ عن سروتنا التي كان أجدادنا يقولون لنا عنها إنها عروبتكم، جذورها في فلسطين، وأغصانها تمتد في كل مضاربِ العرب، اسقوها وارعوها ودعوها تكبر كيفما شاء الله لها أن تكون، ولكنّا بَقَرْنا بطنَها وقلبَها، وأدخلنا كلَّ جرافاتِ الغربِ عليها، ولَم نحفظ لها تاريخَها، فسقطتْ بسقوط أصحابها، وكنّا شاهدين على ارتطامها المدوّي البليغ.
وعلى كلِّ ما في المرحلةِ من وضوح لا غبارَ عليه، فإنَّ الضبابَ ما زال يغطي قلوب كثيرين، فيحاولون قراءة المشهد بطريقةٍ أُخرى، ربما من ثُقبِ جدارٍ يدخلون من خلاله إلى أرضهم المنكوبة، أو ذكرياتهم المنهوبة، أو ربما من خلال إعادة تمثيل مشهد السقوط ثانيةً وثالثةً ورابعة، وهذا هو أغلب الظنِّ وإن كان إثمًا، فالدشاديشُ التي فُصِّلَتْ في اليابان من ماركات مسجلة مثل تويوبو وريتشي وشكيبو، وبمساحاتٍ تتناسبُ طرديًّا مع مؤخراتِ اللابسين وكروشهم دون أن تُظهر التضاريس الجغرافية واضحةً، ما زالت تستعدُّ للظهور في احتفالاتٍ من نوعٍ آخر، فسترقصُ تحتها جلودٌ مَسَّها الجمود، دون أن تتجافى عن المضاجع وهي تدعو ربَّها الجديد، أن يباركَ سقوطَها، وسترقصُ معها قلوبٌ لا يعلمُ تقلُّبَها إلا خالقها.
أيها المعذبون في الأرض، انتظروا مزيدًا من السقوط، وكثيرًا من المزايدات والمناقصات، فالأرضُ نهبٌ، والسروةُ انكسرت، والمرحلةُ واضحةٌ رغم عتمةِ النهار، فلم نعد نحاولُ التستُّرَ بالليل، فلجأنا إلى ظُلمةِ النهار ظالمين، "وقُلْتُ أَنا لنفسي: لا غُموضَ ولا وُضُوحَ السروة انكسرتْ، وهذا كُلُّ ما في الأمرِ: إنَّ السروة انكسرتْ!"