بداية، فإنني أعارض خطوة دولة الإمارات بعقد اتفاقية سلام والتطبيع الكامل مع دولة الاحتلال، وأعتبرها انقلابا على الموقف العربي الرسمي المتمثل ب "المبادرة العربية للسلام"، والمسمار الأخير في نعشها، وستؤدي خطوتها حتما إلى تردٍ إضافي في حجم التضامن العربي والدولي مع قضيتنا الفلسطينية. وأرى أن هذه المغامرة تستدعي موقفا رسميا فلسطينياً واضحاً وثابتا في معارضتها، وأي دولة عربية أو إسلامية تحذو حذوها أو تؤيد مغامرتها، ولا بد من التنديد الصريح بها، والعمل الفوري على محاولة حصر أضرارها بكل الوسائل الممكنة.
بذات الوقت، فإنني أومن بعروبة ووطنية الشعب الإماراتي الشقيق، ومن الضروري الفصل ما بين الموقف الرسمي الإماراتي والموقف الشعبي، حيث إن من طبَّعَ مع إسرائيل وتعامل معها وفتح أسواقه أمامها في الساحة الخليجية بشكل عام والإماراتية بشكل خاص، هو النظام السياسي في هذه الدول وليس شعوبها، وإنني أراهن على وعي وانتماء الشعب العربي في الخليج، واستمرار تأييده للقضية الفلسطينية ورفض التطبيع مع دولة الاحتلال. وعلى افتراض أن دولة الإمارات لن تتراجع عن هذه الخطوة كما هو متوقع، فإنني آمل أن تكون العلاقات الشعبية باردة ومقننة مع دولة الاحتلال، كما هو الحال مع الشعب الأردني والشعب المصري، على الرغم من هرولة ولي عهد أبو ظبي.
إن الخطوة الإماراتية لم تأت من فراغ، فالعلاقات الثنائية مع إسرائيل قائمة منذ فترة طويلة، وكنا على علم بها، ولكننا لم نتخذ الإجراءات المانعة بحقها وبحق علاقات باقي الدول العربية والإسلامية مع الكيان المحتل. وستحسب هذه الخطوة على الإمارات، وأي دولة خليجية تلحقها، لأنها بذلك تكافئ إسرائيل على تطرفها ومحاولتها إلغاء الكيان الفلسطيني العتيد بالضم والتوسع الاستيطاني، وتمنح سببا وجيها لإيران لاعتبارها خطوة عدوانية، خاصة في ظل ما يتم تداوله، بأن الوجه الآخر لهذا التطبيع سيكون بالتأكيد في الملف الأمني والموقف من إيران. ناهيك عن ضحالة وسذاجة المبررات المعلنة لتبرير الاتفاق بأنه "سيمنع مخطط الضم المعلن من قبل إسرائيل"، وآمل أن يكون وزير الخارجية السيد أنور قرقاش قد استمع إلى تصريحات نتنياهو المؤكدة بأن خطة الضم قائمة وإن تأجلت قليلاً، وأن ما جرى هو ببساطة صفقة "سلام مقابل سلام"، وكذلك سفير أمريكا في إسرائيل.
وكذلك أستغرب إعلان كبير المفاوضين في فضائية "الجزيرة" بأن القيادة الفلسطينية فوجئت بهذه الخطوة، وكأن مقدماتها وتاريخها لم تلفح وجوهنا منذ قيامها، ليس في الإمارات فقط وإنما في معظم دول الخليج والمغرب العربي مع استثناءات قليلة، أم أننا نسينا/تناسينا فتح مكاتب التمثيل التجاري لإسرائيل في هذه الدول، وفتح أجوائها لزيارات رعايا دولة الاحتلال وعقد الصفقات التجارية وتقديم المساعدات، وآخرها الجسر الجوي بين أبو ظبي ومطار اللد. وهل كنا سذجا لدرجة الاعتقاد بأن هذه المقدمات لن تقود إلى هذه النتيجة عاجلا أم آجلا؟، في ظل موقفنا المتفرج منها.
هناك ألف سبب للاستياء من الخطوة الإماراتية، وقريبا البحرينية والعمانية وغيرها من بعض دول المشرق والمغرب العربي. وبغض النظر عن مدى قبولنا أو رفضنا، فقد آن الأوان للاعتراف بأن فلسطين لم تعد قضية العرب الأولى في ظل نتائج "الربيع العربي" والمد الإخواني واستمرار مرحلة أوسلو بمنظومتها، ولم يعد هناك وطن عربي بمعنى الكلمة و"أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة". وقد ترنحت الآمال والمواقف والانتماءات في معظم العواصم العربية تحت مطرقة العوز الاقتصادي واليأس من وضعنا وسلوكنا، وانقضى عصر الاضطرار إلى تبني المواقف الفلسطينية للولوج عبرها إلى استقرار الأنظمة السياسية، التي كانت شعوبها ترى في هذه القضية خطاً أحمر، وتحدد مواقفها من أنظمتها بمقدار اقترابها أو ابتعادها في تأييدها لنا وتبنيها لمواقفنا. لقد فعلت أوسلو فعلها بنظامنا السياسي، وأخَذَنا استمرار الانقسام والشرذمة إلى مدارك لا يستوعبها العقل، وأقفلنا الستار نهائيا على خيار "المقاومة" بمفهومها التحرري.
برأيي فإن شعوبنا العربية حية، وإن طال أمد سباتها وتغييبها، ولا أصدق أبدا بأن فلسطين بشعبها ونضالها وتضحياتها لم تعد أيقونة هذه الشعوب ورمز فخارها بما قدمته من شهداء وجرحى وأسرى خلال مسيرة التحرر. ولمن لا يتذكر، فإنه وإلى عهد قريب كانت بندقية الفدائي هي حلم كل عربي وجسره إلى الكرامة، وهناك في أرشيف وذاكرة الثورة الفلسطينية عشرات آلاف الثوار العرب ومن بينهم إماراتيين وبحرينيين وسعوديين وكويتيين وغيرهم، ممن التحقوا بها واستشهدوا وجرحوا على ثراها أو حولها، أو تم أسرهم. إلا أن سلوكنا السياسي، واستمرار التمسك بمنظومة أوسلو وترسيخ الانقسام وغياب البرنامج الوطني المستند إلى عمق عروبي، وانعدام الرؤيا السياسية تقريبا، قادنا إلى ما نحن فيه، ومشاهدة دول عربية وإسلامية بأكملها تهرول نحو التطبيع السياسي والاقتصادي، دون التمكن من وقفها. ونحسن صنعا لو راجعنا مواقف وسلوك الدول العربية والإسلامية (60 دولة) تجاه دولة الكيان الصهيوني، لعلنا بذلك نكتشف الواقع الأليم.
لست معنيا بتحليل ما جرى في هذا المقال، وتأثيره على مستقبل القضية الفلسطينية وتعمق عزلة النظام السياسي الفلسطيني، ولكن بالدعوة والحض والتحريض على استكشاف آفاق صحوة فلسطينية رسمية وشعبية تعيد الاعتبار للموقف السياسي الفلسطيني وتلم شمله وتعبئ "الجماهير" فلسطينيا وعربيا لرفض التطبيع، بما في ذلك إمكانية رفع فاتورة التطبيع على الأنظمة المطبعة. إن وضعنا الداخلي شبه مستحيل بانتشار الفقر ونقل المواطن من التشبث بالهم العام إلى الانكفاء على الهم الخاص. هناك انفلاش كبير في الحياة العامة، واغتراب حاد بين قطاع الشباب، وقود التغيير، نتيجة البطالة وغياب أي دور لهم في الشأن العام، وانتشار غير مسبوق للفقر والبطالة في ظل الجائحة الاقتصادية، وخنق الفضاءات الحرة في التعبير عن الرأي، واستمرار الاعتقال السياسي ومحاصرة المعارضين، والنأي عن مبدأ الشراكة في اتخاذ القرار، وعرقلة تداول السلطة ديمقراطيا، وتواضع أداء الحكومة وفشلها في منع الجائحة الاقتصادية. والأهم من كل ذلك استمرار تجارة الانقسام، على الرغم من كل المتغيرات، لدرجة أننا أصبحنا نتعامل مع شطري الوطن على أساس أنهما كيانان شقيقان إلى حد ما.
يحسن اللاعبون في المسرح السياسي لو تذكروا بأنهم ليسوا صحفيين أو معقبين على الأحداث، وإنما شخصيات رسمية ترسم السياسات وتتخذ القرارات، وتتحمل مسؤولية الفشل المدوي الذي يحيق بنا، وهي أحوج ما تكون لهزة توقظها من نومها الطويل في عسل العبث بمستقبل شعبنا والامتيازات وسراب المرحلة الانتقالية، وتشجعها على النزول عن المسرح لأنها لم تعد قادرة على استمرار تحمل مسؤولية قيادة المشروع الوطني، في ظل الهزائم المتتالية محليا وإقليميا ودوليا. وقد آن الأوان، أكثر من أي وقت مضى، لإعادة الأمانة للشعب حتى يقرر مصيره عبر صندوق الاقتراع.
إن هرولة دويلات الخليج للارتماء في حضن إسرائيل حقيقة واقعة يجب أن نتعايش معها، ولن يغير الصراخ والاستنكار والشجب والتصريحات والتحليلات من واقع الأمر شيئا. وإن مجاهرة الإمارات بعلاقاتها رسميا مع إسرائيل، تشكل مأزقا خطيرا يتوجب علينا مواجهته بالحكمة والقرارات والخطوات الجادة على كافة الأصعدة، خاصة في ظل الترحيب العالمي بما جرى، وعلى رأسه جمهورية مصر العربية.
إنني لا أتفق مع الدعوة لاجتماع طارئ للجامعة العربية، في ظل تصدر مصر لقائمة المصفقين للخطوة الإماراتية، وتعذر التصديق بأن هذه الخطوة تمت من خلف ظهر السعودية. وظني أن هذا الاجتماع بنتائجه قد يكون نسخة مكررة للقمة العربية التي عقدت غداة الغزو العراقي للكويت، وعلى الأغلب ستحظى الإمارات بالمباركة على هذه الخطوة، مما سيشجع الباقين على الهرولة المبكرة باتجاه إسرائيل.
برأيي، فإن الخارطة السياسية الإقليمية تغيرت بهذا الإعلان، وقد تلاشت أهم ورقة في الجعبة الفلسطينية، ألا وهي أن حل القضية الفلسطينية هو مفتاح التطبيع مع إسرائيل. وهذا يستدعي التفكير الجدي بإمكانية الانقلاب الاستراتيجي في المسار السياسي، ونفض اليد من قيود أوسلو، والتواصل الفوري مع الدول العربية المرشحة للهرولة وإبلاغها جهارا بأن هرولتها ستعتبر عملا عدوانيا ضدنا، وقد يعود بالضرر عليها، للحد من إمكانية انفراط المسبحة بين الدول العربية والإسلامية، ونشهد كما أتوقع، تطبيعا جماعيا خلال الأشهر القادمة.
بعيداً عن الزفة الحاصلة اليوم، فإننا بأمس الحاجة للاعتراف بأن عقارب الساعة لن تعود إلى الخلف، وأن المنطقة تغيرت بهذا الإعلان وأعيد رسم الحدود والمحرمات والخطوط الحمر في الموقف من القضية الفلسطينية والعلاقة مع إسرائيل. ويستدعي ذلك المسارعة إلى بلورة أجندة وطنية للمواجهة مع الذات والمحيط، يتم حبكها في الهواء الطلق وبمشاركة الجميع وليس في الغرف المغلقة، بحيث تتضمن إصلاحا فوريا للدبلوماسية الفلسطينية المتهالكة، وتطبيق مقررات المجلس المركزي كرزمة واحدة، وإيجاد آليات مواجهة الأنظمة العربية المهرولة للتطبيع، والعودة الى شعبنا واستنهاضه للدفاع عن قضيتنا، والالتزام بالإصلاح السياسي والإداري والاقتصادي، والشروع في خطوات جادة لوأد مرحلة أوسلو، بما في ذلك خطوات عملية لحل السلطة لأنها استنفذت أغراضها، وضب طابق الانقسام المخزي.
يتوجب علينا التوجه للشعب الإماراتي وباقي شعوب الدول المرشحة للتطبيع والتأكيد لها بأننا لسنا مختلفين معها وإنما مع سياسات حكامها، والأهم تحصين الجبهة الداخلية بالمصداقية والمكاشفة ومحاسبة الذات.
رحم الله المتنبي في قوله "مَنْ يَهُنْ يَسْهُلِ الهَوَانُ عَلَيهِ ... ما لجُرْحٍ بمَيّتٍ إيلامُ"