مات أبي. .
عدت من المدرسة، صبيحة ذاك اليوم من بداية خريف سنوات 1978، بدا لي من بعيد مدخل منزلنا، تسوده ضوضاء وحركة غريبة غير معهودة بتاتا في محيطه، كسرت صمته وهو القابع في الظلام ليلا ونهارا، بحكم تواجده داخل ممر أشبه بقبو. شعرت بتثاقل خطواتي، ثم زاغت لا إراديا عن أثرها المفترض.
تبيَّنت طيف جدي متكوما على كرسي، بجلاّبيته وعمامته المشدودة بكيفية لولبية على طريقة أهل الصحراء، تبقي فقط على فتحتي العينين والأنف. عرفته من الوهلة الأولى، رغم شح زياراته هنا وجدتي، بل منذ عهد بعيد، مع قدرتهما الوافرة بالطبع. لأن علاقتهما بأمي، مثلما اكتشفت حينما اشتد عودي ووعيت بما جرى ويجري، اتسمت منذ البداية بالجفاء ولم تكن حسب المرغوب والمعتاد. تحديدا، لم يمتثل أبي لرغبة والدته أساسا، وكسر قاعدة زواج الأقارب التقليدي، فتزوج صدفة على نحو غير عادي، قياسا لما أراده والداه. فكان لا بد، أن يدفع بجانب أمي في سبيل ذلك عقابا أسطوريا، وكأنّ لعنة حلت عليهما تباعا، أو أن أبي كان على عجلة من أمره كي يغادر هذا العالم سريعا، فصادف أمي أول ما صادف، ثم صنع كل المطلوب مجتمعيا خلال رقم قياسي جدا. دراسة، عمل، سفر، زواج، أولاد، مرض، معاناة. . حصيلة اختزلتها عشر سنوات تقريبا، على أبعد تقدير.
ضمني جدي إلى صدره، قبَّلني قبلتين على جبهتي شعرت حقا بحرارة دفئهما، غير أني لم أبادل تحيته بالمثل، لا أدري لماذا، مثل المعتاد؟ بقيت يداي متصلبتين عند مكانهما، بكل برودة القطب الشمالي، دون لملمتهما قيد أنملة. فقط التقطت على نحو يقيني تماما بكل سخونة براكين العالم، الجملة التالية: "كن رجلا يا بني، البقاء لله، لقد مات والدك. ولن تصادفه بعد اليوم قط في البيت، جميعنا سيموت ذات يوم، تجلَّدْ!".
أحسست بأن العالم انهار فجأة بأكمله فوق رأسي، تداخلت لدي في ذات الآن أحاسيس شتى، ثم انتابني تيه عارم. ربما شكلت سنواتي السبع آنذاك، مظلة كافية ضد أعاصير الحياة، وبعدها أصبحت عاريا تماما. فهمت من كلام جدي، أن أبي سيختفي إلى الأبد، لكني لم أدرك حينها معنى الموت. أي شيء يعنيه أن نموت؟ لماذا نموت؟ لماذا أبي تحديدا؟.
ولجت البيت وأنا في غيبوبة. صعدت الأدراج. أتحسس قدماي فلا أشعر بهما بتاتا، مع أني سأبدأ منذئذ رحلة سيزيفية طويلة بلا منتهى. فهل سيتحمل جسدي الصغير متاهة دروب معتمة بلا أمان! تقصد عيناي مسار جهة واحدة، أبحث عن أمي، وسط كل هذا الإعصار. هل ستكون في وضع مماثل لحالة جدي؟ أم ازداد أمرها وقعا واستفحالا؟ كان المنزل مأهولا بغرباء لا أعرفهم ولا أريد أصلا التعرف إليهم، أحس بنظرات هؤلاء تخترقني من رأسي حتى أخمص أصابعي، وشفاههم تلوك نحوي جملة تعابير؛ لم أستوعب جله.
-''مسكين ما زال طريا وصغيرا جدا! فكيف به…؟".
-"الله، الله، الموت لا يميز بين طفل وشيخ كلنا لها… ''.
-"كم ينتظرك أيها الصغير! وأتمنى أن تكون طفلا بارا وصالحا. . . ".
كلمات تتقاطر صوبي من مختلف زوايا منزلنا الصغير، غير المعتاد أبدا على جلبة من هذا النوع، القابع دائما بين سكينة صمت مريب، أشعرني برعب شديد خلال لحظات كثيرة، لاسيما لحظات غياب أمي، ثم انزواء أختي إلى فراشها فجأة بعد ساعات من لعبنا المشترك، وانخراطها بعد حين يسير في سبات عميق. حينها، أبقى وحيدا، أتأمل مختلف الأشباح المنبعثة كل آن من الظلمة المخيفة التي تنعرج بنا نحو الدرج.
تواجد بيتنا وسط ممر مظلم يربط بين زقاقين، فكان جواره مرتعا آمنا ودافئا للعشاق؛ وجنة فيحاء بخصوص توضيب سيناريوهات جلسات أهل المتع بشتى ألوانها. لا سيما خلال المساء. كم من مرة، فتحت باب المنزل قاصدا الخارج، فأباغت جسدين ملتصقين؛ متوحدين تماما، لكن بمجرد انبعاث إضاءة المنزل، سيرمي أحدهما الآخر إلى الجهة المعاكسة، سريعا، وقد استعادا وضعية التناظر؛ وربما استمر الوضع على ما هو عليه إذا أدركا سلفا أني الطفل إياه. أيضا، ظلمة مثلت ملجأ مريحا، للهاربين إلى متعة التحليق الحلُمي، ليست بالضرورة حشيشا وشرابا، بل مجرد تجريب على رشف أولى أعقاب السجائر، موقف لم يكن وقتها سهلا، فاقتضى الاختفاء وتبني أقصى درجات الحيطة والحذر، ما دام تأكيد التهمة من طرف الأسرة أو الأقارب، سيجر على صاحبنا المغامر مختلف الويلات.
(2)
غير عالم هؤلاء، مع انبثاق أولى خيوط الفجر، تملأ الحي أصوات المتسولين، جلهم مكفوفين، يسكنون تلك الغرف الشبيهة بثقب داخل الجدران، المحاذية لضريح الزاوية العباسية. من بينهم جميعا، لم تفارقني حتى اللحظة، وقد ابتعد الزمان كثيرا، صورة شاب مجنون مقيد اليدين والرجلين باستمرار، لايكف بتاتا عن قضم الخبز، ملتصقا بجانب أمه الطاعنة في السن، دائم الترنح والاهتزاز. جسم هائل جدا، أصلع، بملامح تكابد حتى آخر رمق كي تحتفظ بوسامة أصيلة، رغم تغير سحنة وجهه، التي اختلطت ألوانها بركام القاذورات والأوساخ. عندما تدرك حالته مبلغا، منزعجا لأنه لم يتناول خبزا، ينهض مشهرا أمام المارين، جهازه التناسلي وقد تصلب عوده على إيقاع هذيان، بالكاد نستوعب منه مايلي :" ألْبْنات، أَوِيلي هم الْبْنات، . . بْنْ. . بْنْ. . بْنْ"، نتحلق حوله ونحن نتراقص ونتقلب بجنون ضحكا، تنتبه أمه لفظاعة الوضع المخل جدا، تصب علينا لعناتها وترمينا بالحجارة، نتفرق مهرولين صوب كل الجهات، تلتفت إليه، تقذفه بصفعة مدوية: "صلاي". ترمي ببصرها صوب أي قطعة خبز، ثم تغلق بها فمه، فتعتريه سكينة مطلقة، بحيث سرعان مايأخذه نوم ميت، يتراجع جهازه إلى مكانه ويبدأ شخيره مدويا هديره.
ذات الوقائع تتكرر طيلة الأسبوع، لايكسر رتابتها غير حيثيات معركة ضارية بين شخصين، بمناسبة أمسية حمراء. معارك، يشكل الفيصل فيها القوة البدنية دون الاعتماد على لوازم تذكر، فنادرا جدا ما استعان أحدهم بسكين أو آلة حادة، كما أن مدتها قد تتواصل لساعات طويلة أو أيام، أذكر مثلا أن خالي جلول خاض معركة لثلاثة أيام متتالية، بحيث يستريح ثم يعود ثانية لاستفزاز خصمه، لأسباب على منوال حسابات داحس والغبراء، وتزداد الأمور تعقيدا، في حالة انحدار المتصارعين، من حيين مختلفين، وقتها يختلط الذاتي بالموضوعي، تحضر دواعي المروءة والعزة، ثم تتعقد أكثر فأكثر، إذا تصادف وصارت المعركة قضية شخصية ارتبطت بقيادي الحي.
إذن، ظلمة تكتنف محيط البيت طيلة اليوم، نهاره مثل مسائه، يزيغ داخله كل قادم غريب، غير مدرك لجغرافية الموقع المجاور لضريح الولي الصوفي أبي العباس السبتي، أحد الأولياء السبع الذين اشتهرت بهم مراكش، وقد عرفوا خلال مراحل تاريخية مختلفة، بورعهم وتقواهم وكراماتهم المفارقة لثوابت العقل البشري.
ترعرعت وأختي على مختلف أجواء الطقوس الروحية والصوفية التي ترسخت عبر أجيال طويلة عند ضريح الولي :زيارة قبر''سيدي بلعباس"كما جرت التسمية وتقبيل أركانه بوقار فائض من أربع زوايا، جهتين عند رأسه، والثانيتين عند قدمه؛مع التمسح والتبرك بتمرير اليد على مجموع اللحد ثم إلقاء بعض النقود داخل فوهة الصندوق الموضوع بجواره تحت مراقبة متلصصة لفقيه جامد أبدا عند مكانه، يتلو القرآن في صمت، لكنه لايغفل لحظة عن ترصد مايفعله القادمون. تخصص المداخيل لجماعة المكفوفين والحمقى الذين يعيشون على رصيد الصندوق بعد فتحه كل يوم أربعاء، ريع يزداد سخاؤه حسب المواسم والمناسبات لاسيما الدينية، كشهر رمضان بالأخص خلال يومي الخامس عشر والسابع والعشرين. حينئذ نلاحظ نحن ساكنة الحي، قدوم وفود غريبة وربما من مختلف جهات الوطن.
أساسا، يحدث يوم الأربعاء، بمناسبة أو غيرها، انقلاب كلي، حينما يغدو الحي، قبلة يحج إليها المراكشيون من شتى أركان المدينة، بسبب دواعي السوق الأسبوعي، الذي اشتهر ب "لاربعا''، يمتد فضاؤه من ضريح أبي العباس السبتي، إلى أقصى شمال حي آخر يدعى ''باب تاغزوت''. أيضا، اليوم الذي تبعث فيه السلطات الرسمية، إلى المكفوفين سيارة مكدسة بالخبز كما تذبح بقرة أو ثور ثم ناقة خلال مناسبة عيد المولد النبوي، وتوزع قطع اللحم على مريدي الضريح.
تأتي القوافل من كل أحياء المدينة، ليس فقط للتسوق، بل أيضا للترويح عن النفس من خلال متابعة حلقات المهرجين، و المشعوذين، و الفكاهيين، والسحرة، والحكواتيين، ، والدجالين، وبائعي الأعشاب الصحراوية، والفقهاء، ومروضي الثعابين، وقارئي القرآن، والفرق الفولكلورية، وأصحاب اللُّعب المثيرة كما الشأن مع فرقة أبناء سيدي حماد وموسى، الذين يسترعون الانتباه بقفزاتهم اللولبية نحو الأعلى، الثنائية والثلاثية والرباعية، واستعراضهم البارع لحركات تماثل حركات الفنون القتالية، فوق أرضية جرداء خالية تفتقد لأي صمام أمان، لذلك فأدنى حركة زاغت بمليمترات طفيفة على غير القياس، تؤدي حتما بصاحبها إلى هلاك مبين.
مشاهد بهلوانية في غاية الخطورة والمجازفة، من أجل استمالة أكبر عدد ممكن من الحضور، بالتالي إمكانية توسيع حصيلة الإيراد. حينما ينتهي العرض، يطوف رئيس الفرقة على امتداد تفاصيل جوانب الحلقة، يخاطب الجمهور بلغة مسجوعة أشبه بلغة المقامات، تتأرجح إيقاعاتها بين الكوميديا و التراجيديا، ثم المدح بما يشبه الذم، وكذا الذم بما يوهم على أنه مدح، ضمن قالب اللهجة الشعبية بكل قساوتها و حيادها. غير أن أغلبنا، في المقابل، يركز نظره على عضلاته اليابسة والمفتولة جدا، مع أن حجمها كان واهنا، نستحضر معها تجسيدا حيا لجسم بروس لي، وقد أدمنا نحن أطفال الحي أفلامه بالتكرار والتكرار، غير الممل، رغم عدم تجاوزها لأصابع اليد الواحدة، بحيث كنا لانبرح يوميا القاعة السينمائية العريقة داخل الحي، الشهيرة المسماة ''مرحبا''.
مع كل إعلان إشهاري لبروس لي، تبدأ حالة الطوارئ ولاتتوقف الاستعدادات، قصد الاحتفال بالعرض الأول، تقتضي أولى خطى ذلك تدبر ثمن التذكرة بأي طريقة من الطرق، شرعا أو حراما، لايهم، ثم الاستعداد الجسدي والنفسي للتمكن من مواجهة زحمة الحشود، والقدرة على الولوج إلى القاعة سالما معافى، دون اقتلاع لعين أو كسر في الأنف أو تحرش مقصود من الخلف لاتكون دائما عواقبه عادية. وإن دخلت واستويت في مقعدك، فلا تطمئن لحالك، فقد اشتهرت القاعة بأعداد الجرذان الهائلة، التي يحلو لها بالدرجة الأولى، التسكع بين أقدامنا للترويح عن نفسها؛وربما التقطت مايمكن التقاطه من غنائم، في ظل سواد القاعة الدامس، ثم غيبوبتنا شبه المكتملة بانسياقنا وجهة الشاشة لمتابعة متواليات الفيلم، بالتعقيب والاستطراد والتأويل والانفصال والاتصال تارة همسا وفي الأغلب صراخا.
بالتأكيد تخرج الأمور عن السيطرة، فتحدث جلبة داخل القاعة، ينتقل على أثرها الصراع من الافتراضي إلى الواقعي، ونبدأ في التنافس والتباهي بإخراج نفس صرخات البطن الشهيرة عند بروس لي، من أجل سحق أي جرذ تصادف وجوده تحت قدم أحد منا، هكذا يتعالى تباري الأصوات داخل القاعة، حد بلوغه عنان السماء، ومدى نجاح أحدنا في الإتيان بذات معالم الصرخة قلبا وقالبا، مصحوبة بحركة تليق بالمقام، مع التفنن في لعبة تشكيل ملامح الوجه، تبعا لتجليات القوة الداخلية، ثم تحط بكلِّية جسدك على الجرذ وتأتي عليه دون هوادة، وقد تستمر ارتدادات تلك الحركة وتجلياتها، غاية التأكد بأن الحيوان الثقيل الذي أفسد الحفل، قد تمزق جسده إربا إربا، وتناثر شظايا والفضل كله يعود إلى متابعة بروس لي.
داخل القاعة نفسها، خلال سياقات غير هذه، ربما مع أفلام الكاراتيه وأبطال آخرين للكونغ فو. يشعر الحضور بالضجر والرتابة، إما بسبب حالة الفيلم المتردية، أو لأن متواليات الحكي فشلت في الاستحواذ على الألباب، فيتكسر الصمت، بتبادل التعليقات احتجاجا، تبدأ بدائرة تداول ثنائي هامس، لكن سرعان ماترتفع عقيرتها لتكتسي طابع حلقات نقاش مبثوثة عند مختلف أركان وزوايا السينما. نقاشات تدلي بتعليقات شفوية، من باب النقد الانطباعي الأولي لمجريات الفيلم، لاسيما طبيعة الضربات وكيفية تحرك المقاتلين خلال المواجهات، ويزداد حجم السخط، إذا بدا لون الدم المنبعث من فم القتيل غير أحمر تماما، يكشف بسذاجة تقنيات الخداع السينمائي. هكذا تتزايد صيحات الاستنكار : أف ! سفلة، مجرد صباغة، أو عصير الباربا(يقصد الشمندر).
لذلك، يتم في حينه وعلى وجه السرعة، اتخاذ قرار جماعي، مفاده تشكيل فرق في عين المكان، والتحول بالفرجة إلى واجهة السطح العريض الممتدة أضلعه أمام الشاشة، ثم تنظيم مباريات في الكاراتيه، بالسعي إلى تطبيق ذات سرد الفيلم، لكن هذه المرة وفق ترتيب على مستوى الإخراج محكم الصنع، نستعيض به عن جل الهفوات التي رصدناها حين متابعتنا لما كان يعرض على الشاشة. يخلق التباري ''الجاد'' وليس السينمائي أعطابا وحوادث ثم ضجيجا لايطاق، يثير حفيظة عمال السينما من بعيد جدا، فيسرعون مدججين بمختلف أنواع الهراوات ويشرعون في إخراجنا بالضرب والرفس والركل والشتم، ثم إشعال الإنارة وإنهاء العرض قبل الوقت المحدد. بالتأكيد، يحفظون جيدا ملامح عرَّابي المباريات داخل، قصد منعهم من العودة إلى السينما لفترة تطول مدتها أو تقصر، حسب التحريات الدقيقة بخصوص مستويات حجم الجرم.
أيضا، داخل القاعة نفسها، وبجانب حكايات الجرذان ومباريات الكونغ فو. هناك تجربة أخرى مختلفة، لابد من ذكرها. أقصد ازدهار مواسم الاستمناء الجماعي، بمناسبة عروض أفلام البورنو أو ''لامور'' بلهجتنا آنذاك، التي شكلت مرتكزا ثالثا، ضمن الثالوث المقدس بالنسبة لأبناء الحي :كاراتيه، هندي، أو التاريخ والجغرافيا، مثلما دأبنا على نعتهما تفكها، نظرا لارتباطهما العضوي، ثم أفلام الجنس. مع ذلك، لاينبغي أن يحلق خيالنا حاليا بعيدا، ويعتقد المستمعون بأنه بنفس ملحمية ما يتداول حاليا أو بذات زخم إمبرياليته الهائلة، بل فقط مشهد بطل وبطلة، تميزهما غالبا قامة طويلة ونحافة أقرب إلى نتائج سوء التغذية منها إلى الأجسام الطرية والمثيرة، بتسريحتي شَعْر مدرسية تعكس رومانسية سنوات السبعينات، بناء على شعار :''مارسوا الحب، ولاتمارسوا الحرب". نصف عاريين، يتبادلان قبلات سطحية على طريقة المبتدئين. هنا، يتوقف المشهد، ولايصبو نحو المبتغى المنشود بالتطلع إلى المنطقة المحظورة، حتى نكتشف ماينبغي اكتشافه. ترى المتفرجين سكارى، كأن على رؤوسهم الطير، يسود صمت مطبق، ولاهسيس، ولاوشوشة تنساب في الأفق، فالجميع مشدوه بكل تفاصيل حواسه الحية والميتة نحو الشاشة/اللذة، ولايخترق صمت الأموات، سوى ازدياد فاضح لإيقاعات ارتفاع وتيرة الاحتكاك الميكانيكي بالأجهزة القضيبية، مع اقتراب تحقق الانتشاء الجنسي، حيث لايكترث أحد بوجود الجميع.
لحظة تتسع أبعادها المفارقة، إذا تصادف الحدث مع زحمة نساء يوم الأربعاء، فرصة لاتتكرر كل آن، بالنسبة لشباب الحي، كي يحتفوا شبقيا وسط جبرية الازدحام والتزاحم، فيتعمدوا، جيئة وذهابا، الاحتكاك بمؤخرات النسوة القادمات للتسوق، منهم من يقضي وطره بسلاسة وسلام، في حين يتعثر حظ آخر، فتتضايق من سلوكه سيدة ما، وتقرر فضحه أمام خلق الله بالزهيق والصراخ. أما نحن الصغار، فكنا نسرع إلى المرحاض العمومي، كي نتابع، من جهة سلوكات الجرذان، ونعاين أوزانها، وإذا كان الجو حارا نرتمي في الحوض المائي الذي يتوسط المرحاض العمومي، لكن ونحن ننتعش بطراوة الماء، سنتلصص من جهة أخرى بسخرية، على عري الكبار وبالأخص الكهول، وهم يفرغون أحشاءهم داخل بيوت في غاية النتانة والقذارة ونصف مغطاة، قبل خروجهم بعورات وأجهزة مكشوفة إلى الصهريج للتوضأ…
(3)
ولجت الغرفة، كان أبي مسجى تحيط به أمي وجدتي وخالي محمد. عيناه بالكاد مفتوحتين، وقد تسمر نظره نحو السقف. الفم مفتوح مع غرغرة حشرجة. لاحظت جدتي تسكب قطرة عسل، لتليين فصل الروح عن الجسد مثلما فهمت بعد ذلك. الوقت زوالا، هكذا استمر الصراع من أجل البقاء، أربع ساعات تقريبا، لأني أذكر صبيحة ذلك اليوم وأنا أهم للمغادرة نحو المدرسة، لاحظت بذكائي الطفولي أن أبي يلح علي بملاحقة متكتمة، لم أعهدها من قبل، كأنه أراد اصطحابي أو إخباري بشيء ما، لكن لسانه لم يسعفه. صار حقيقة تلفظه شحيحا، يعبر أكثر بسيمياء وجهه، لاسيما حاجبيه و تقوسها الحاد حين الغضب. نظرة مختلفة تماما، تضمر مغزى معين، لم أستوعبه إلا بعد سنوات، وشرعت ذاكرتي بين الفينة والثانية، تجذبني من أذني قصد استعادة الوقائع، لكن مثلما أريدها أنا.
في الليلة الأخيرة قبل صباح الرحيل، هيأت أمي للعشاء طبق أرز بالحليب و الزبدة والعسل، أمدته بصحن فلم يأبه، ثم عاودت الكرَّة بملعقة ممتلئة وضعتها في فمه، لكنه أزاحها جانبا ممتعضا. شرع يهذي بكلام، غير مفهوم لم نفرز منه سوى كلمة واحدة :سنسافر.