تتعدد الدراسات والتحليلات لظاهرة التطرف الديني في الوطن العربي وبشكل خاص بعد ظهور الحركات الاصولية المتطرفة كداعش وغيرها ونموها وسيطرتها على أجزاء واسعة من أراضي بلاد الشام . كان لابد من البحث معمقاً عن أسباب سرعة نمو هذه الحركات وتعاظم قوتها العددية والمادية، وبلا شك فأن الموقف من هذه الأحداث يتفاوت في الشارع العربي بين الرافض لها والمتخوف منها وبين المؤيد لفكرها ونشاطها اعتقاداً أنها تمثل الملاذ والجواب، وهناك جزء بين الطرفين يؤيد الفكرة استراتيجياً ويرفض الأسلوب مرحلياً ، ولإعطاء هذا الموضوع حقه تقتضي الأمانة العودة بدراسة موضوعية الى البدايات، تاريخ استعمال العنف والقوة في نشر الديانات والتعامل مع كل من يعارض الفكرة بالقوة والتعامل مع الاخر كعدو يجب ابادته وليس التفاهم معه ، وهذا ما حصل عند دخول القبائل اليهودية الأولى الى فلسطين ، وكما تدعوهم التوراة ، وهكذا تعاملت الكنيسة مع كل معارضيها ومنتقديها وأقامت محاكم التفتيش وقتلت حتى العلماء والمفكرين ، وكذلك كان في التاريخ الإسلامي وخاصة في المعارك مع العديد من القبائل والمعارضين وابادت قرى بأكملها عندما كان ممكن التفاهم والتحاور معهم ولكن تم تجاوز هذه العقلية عند العديد من المجتمعات وخاصة في اوروبا عندما تم فصل الدين عن الدولة وتم بناء مجتمعات مدنية عصرية تسعى نحو الحداثة والتطور من خلال الحوار والتسامح استناداً الى مبادئ الحرية والديمقراطية واحترام حقوق الأنسان والتعدية الفكرية والعرقية والدينية . ولكن للأسف لم يتم تجاوز هذه الاشكال في المنطقة العربية بما فيها اسرائيل وخاصة لأن الدين بقي هو المهيمن وهو الذي يشكل الهوية الأولية والأصلية للمجتمع على حساب الهوية القومية ، وبناء عليه ورغم نجاح تجربة دول الجوار الأوروبية في مجال فصل الدين عن الدولة الا اننا في هذا الجزء من العالم اوغلنا أكثر في هيمنة الفكر الديني على كافة مناحي الحياة وخاصة على المناهج التعليمية والتي في اعتقادي هي السبب الرئيسي لتكون الأرضية العنصرية الرافضة للتعددية والحوار وعملت على بناء الهوية الدينية على حساب الهوية الوطنية .
لقد عاش مشرقنا العربي تجربة قيادة القوميين له على مدار أكثر من نصف قرن وقد كان ذلك في العراق أو سوريا أو حتى فلسطين ولكن للأسف لم تستطع هذه القوى ايجاد حلول لمشاكل شعوبها الأساسية من فقر وجهل وبطالة، ولكن على العكس فقد تفاقمت الأزمات الاقتصادية والاجتماعية على مر العصور ووصلت الأمور الى ما وصلت عليه الان من فوضى ودمار وخراب وطيلة هذه الفترة كانت الجماهير العربية تعتقد أن الامل يكمن في الحركات الإسلامية والتي ستجلب الحلول حال وصولها الحكم ، وكانت الصدمة في مصر وتونس عندما فشلت هذه الحركات في تحقيق الأحلام الشعبية بل لم يرى المواطن العربي أي اختلاف بين الأنظمة السابقة والحركات الإسلامية التي وصلت الحكم .
ان تجارب التاريخ تعلم ان المستوى الاجتماعي والاقتصادي والثقافي لأي شعب لا يأتي طفرة بل هو نتيجة تراكم تجارب وممارسات توصل المجتمع الى هذا المستوى أو ذاك ، ومما لا شك فيه ان مناهج التعليم وخاصة في مستويات المدارس تلعب دوراً اساسياً في بناء المواطن وبالتالي المجتمع عامة . وللأسف الشديد فأن المناهج التعليمية في الوطن العربي عامة وفي فلسطين خاصة لا ترتقي الى الحد الأدنى من المستوى العلمي والحضاري والأخلاقي لتنشئة جيل القرن الحادي والعشرين. إن الإبقاء على هذه المناهج والاعتماد عليها في تنشئة ابناءنا لهو خطر كبير على مستقبل هذه الأمة فهناك مواد اساسية تساعد على تطور العقل وانفتاحه على الآخر كالفن والرياضة والموسيقى ومادة المواطنة وهي الاهم.
إن موضوع الخدمة المدنية لمن ينهي الثانوية العامة قضية في غاية الأهمية فهي تصقل الشخصية الوطنية وتعزز روح العمل الطوعي والجماعي ولا اعتقد ان هذا يتناقض مع اي اتفاقيات ، ان الفهم المغلوط للعلمانية عند الغالبية العظمى من شعوبنا العربية تجعل الحديث عن هذا المفهوم خطراً وهو نوع من المحرمات . ان الوصول الى العلمانية تعني بناء مجتمع مدني تحكمه الأنظمة والقوانين المدنية وهي متساوية لكل مكونات المجتمع ولا تنتقص من دور الدين ابداً بل هي تحترمه وتبجله ولكنها لا تسمح للمؤسسات الدينية التدخل في أمور الحياة العامة لتكون بديلاً لمؤسسات الدولة ، ان الخطوة الطارئة المطلوبة الان من صناع القرار في فلسطين قضيتين جوهرتين : أولأً : اعادة النظر في المناهج التعليمية وبشكل خاص التركيز اكثر على مادة المواطنة وتعريف الطلبة خاصة بتاريخ الديانتين الإسلامية والمسيحية وخاصة كون المسيحية ديانة فلسطينية المنشأ وتفعيل مادة الفن والرياضة والموسيقى على حساب المواد التي لا تسمح بالتفكير والإبداع أو الاجتهاد .
ثانياً : احترام قانون الخدمة المدنية بدل الخدمة العسكرية الممنوعة من أجل العمل على صقل ودمج الشابات والشباب الفلسطيني في مجتمعهم وخلق روح المواطنة والمحبة والتسامح بدل التعصب والانغلاق .
من هنا ستكون البداية لربما استطعنا أن نفعل شيئاً بدل انتظار المجهول عملاً بالقول المشهور : "افضل ألف مرة أن نضيء شمعه من أن نلعن الظلام" .