عندما كنّا نكتب الشّعر أنا وملهمتي الشّاعرة، كنّا نكتبه أوّلا منفصلين، بصمت، تشعر بحفيف المعنى يمسّها دون أن يكشف عن وجه الحبّ فيه، وهي كانت مسرورة أنّني أواري في القول ولا أصرّح. لقد كانت بالفعل خجولةً، وترتبكُ من فعل الحبّ وتحمرّ وجنتاها، وسرعان ما تختفي أو تمتنع عن الحديث.
ملهمتي هذه أيضا كانت تكتب الشّعر، ولم تكن تكتبه لي، كانت تكتب للمطلق الرّوحيّ، لا لشيء إلّا لتكتب شعراً. شعرها وقت ذاك كان قاسيا ولا يعطي معنى أو دهشة، وكانت قصائدها طويلة وطوباويّة وغريبة اللّغة، والصّورة ذهنيّة بحتة.
على الرّغم من ذلك، كنتُ أقرؤها بتمعّنٍ، أحبّ طريقتها في البناء، جملها محدّدة الإيقاع، واضحة المعالم، وإن كانت لا تقبض على معنى مدهش أو واضح، تغرق في الغرابة والاغتراب والّتيه والتّصوّف. كان ثمّة شعر يسكنها، وتضجّ نفسها ببركان من الشّعر، ولكنّها كانت تقهر طيورها وتسارع إلى قَصّ أجنحة قصائدها، فتخرج ماشية متألّمة، تحاول الطّيران، فلا تستطيع.
قصائدي لها صارت أكثر جمالا، صرت أشعر أنّها تلقم طيوري الحَبّ، وتساعدها على التّحليق، أمّا هي فكانت تميت طيورها أو تكاد. مكثنا على ذلك زمناً طويلا حتّى طلبت منها أن تعامل طيورها اللّغويّة تلك كما تعامل طيوري. "عليكِ أن تعتني أكثر بها، فهي تحتاج إلى التّحليق لترى الفضاء، وتنعم بالنّور والجمال الإلهيّ. لِمَ تحبسين إلهك فيها، ولا تريدينها حرّة. أيّ شاعرة ديكتاتوريّة وجنرال أنت!". ضحكت قليلا ربّما بهاءين لا أكثر، وصمتت طويلا. لعلّها الآن تفكّر بي أكثر ممّا تفكّر في طيور القصيدة.
انتظرتها أيّاما لتقول على مسامعي قصيدة جديدة، لم تُحِدث فيها أيّ خلق لغويّ. لم أشعر بالخوف تجاه تلك "السّكتة الشّعريّة" المؤقّتة؛ لما أعرفه عنها من حبّ الشّعر وانتماء جماليّ له. أخذت طيورها بالتّقافز أمامي تمشي بفرح، أنظر إلى وجه القصيدة، أصبح تفاحة ناضجة، والفكرة أفضل حالا، والمعنى خارجاً لتوّه من قفص الأسر، مع أنّه شاحب قليلا، إلّا أنّ ابتسامة العافية تكسو ملامحه.
تابعتُ إطلاق طيوري في ساحتها، لا أملّ، كنت أزيد لها جرعة الحبّ لتطير حمرة الخجل من على وجنتيها، وتحلّ ابتسامة الرّضا والنّشوة، صارت القصيدةُ فرحتَها ونشوتها وصارت قصائدها أشدّ عودا. أخذتْ تكتب الحبّ لي، وعلى طريقتي. إذن لقد نجحتُ، أو نجحنا أو نجحتْ.
تقدّمت عليّ خطوتين، الأولى أنّها كانت قادرة أكثر منّي على قتل طيورها المعتلّة، فأيّ قصيدة ضعيفة لم تكن لتتردّد لحظة واحدة في إعدامها، ولم تكن تلجأ إلى وضعها في مصحّة اللّغة، فإنْ لم تكن طيراً محلّقا فالتّخلص منها واجب أخلاقيّ وشعريّ. وقد حدث هذا التّطهير الجماليّ أمامي مرّات كثيرة. يا لجرأتها! ورباطة جأشها! إنّها شجاعةٌ وأنا جبان.
وأمّا الأخرى، فكانت تقف على شفتيّ، وتتفقّد القصيدة قبل خروجها، وإن شعرتْ أنّ ذلك المخلوق مشوّهٌ حجرت عليه، وأطبقت عليه القفص الصّدريّ ليموت مختنقا حيث هو؛ لأنّه لا يصلح للحياة. إنّها تجبرني على "قتل حبيباتي". بالفعل كانت جنرالا، رحيمة بي، قاسية على الطّيور المشوّهة، لا تعرف يداها النّحيلتان السّمراوان كيف تعتني بمرضى الشّعراء.
الآن، هي شاعرة تطلق طيورها لتحلّق عالياً، وتلحق بها طيوري تعانقها في الأعالي، يقف أحدنا بجانب الآخر ننظر بشهوةٍ صانع حاذق حيث طيورنا تدفع باب السَّماء وترسل للشّعراء والشّاعرات رسائلها. ننظر معا إلينا، وننهي مشهد التّأمّل ذاك بابتسامة وقبلة رضا وارتياح عاطفيّ مستقرّ. إنّها شهوةُ أنْ نكتب معا قصيدة جيدة صالحة للنّشيد، فكأنّنا سمعنا جبران وهو يخاطب ملهمته الحبيبة ميّ زيادة: "بعض الاختبارات لا تحدث إلّا إذا اشترك بها اثنان في وقت واحد".