حدث ما حدث وسيحدثُ الكثير، ليس لأن الموقفَ العربي موقفٌ متخاذل ومتهاون؛ هذا جزء من الحكاية ومن القصة التي تعودُ جذورها إلى نشوء الدول العربية وتعدد أوطان العرب وتخندقهم داخل حدود الدولة المصطنعة بعد أن قسم الاستعمارُ المنطقة، وجعل مصير قادتها الجدد مرتبطًا بمصلحة الدولةِ التي كانت حاميةً أو منتدبةً- أي مستعمرةً- وكسر الامتداد الطبيعي لهويةِ شعوب يجمعها من الإرث الكثير ولا يُفرقها إلاَّ إيهامها برغبةٍ مصطنعةٍ من قادتها الجدد، بالتفرق. ولا يُمكن أن نعزو الهرولةَ العربية للتطبيع العلني ولتوقيع اتفاق سلام مع "إسرائيل"، إلى قصورٍ لحظي أو آني في السياسة العربية، ولا إلى فشلٍ وعيوبٍ في القيادات العربية الحالية، بل هي نتيجةٌ طبيعيةٌ من مخرجات عملية استعمارية حثيثة عمل رُعاتُها طوال عقودٍ طويلةٍ على توريث ثقافةِ القبول بالاستعمارِ بصيغتهِ الجديدةِ المولودةِ على شكل إسرائيل.
وحينَ بدأت تلك الوليدةُ الغريبةُ، أي إسرائيل، تُدرِكُ أهمية وقوة غربتها وغرابتها، أغرقت المنطقة بقيم "الغريب"، الذي يعيشُ في المكانِ، مكانهِ الجديد، لكن دون أن ينتمي إليه. والقادةُ العربُ الجُدد، مثل حليفتهم الجديدة إسرائيل، ناشئونَ مثلها، يروجونَ لقيم "الغريب" مثلها، حينَ لا يُمكنُ أن يُفاجئهم أو يفاجئه شيء، لا موتٌ طبيعي ولا شهادةٌ استثنائية، ولا عملية مكررة لهدم منزلٍ أو عملية نوعية لاعتقال أب، ففي هذه المشهدية التمثيلية يتساوى الموتُ وأشكالهُ، ويتساوى معنى الحرية مع معنى الزنزانة في قيمِ "الغريب" المتناسخة المكررة هي الأخرى في كل مكان من أمكنتنا المقسمةِ علينا.
فـ "الغريبُ" هنا، مثلهُ مثلُ "الغريب" في الجزائر، الذي شكل معالمه الروائية ألبير كامو، وأسماهُ ميرسو، على اسم منطقة فرنسية تُنتج النبيذ والجبن الفرنسي، كأنه يُريدُ أن ينقلَ جزءا من فرنسا عبر الغريب إلى الجزائر ليسكن قلبها العاصمة ويُمارس غرابته في هذا القلب حتى يُميتَه حيا، في محاكاةٍ غير مقصودةٍ من كامو لما فعلتهُ فرنسا الاستعماريةُ بالجزائر حين اعتبرتها إحدى مقاطعاتها ونقلت مواطنيها الفرنسيين الغرباء إليها ليعيشوا فيها كمواطنين أصلانيين. ولينقلَ كامو، والغريب معهُما قيم الغرابة والغربةِ للمكانِ وفيه، فإنه يجبُ أن يتم التأسيسُ لقيمِ التفاهة في الحياةِ العادية والسياسية. والتي تبدأ بفقدان الفرق بين موتٍ وآخر، فموتُ والدة ميرسو في إحدى دور إيواء العجزة، مثلُ إقدامهِ على قتل جزائري من سكان البلاد الأصلانيين، فلا مفاجأة في الأمرِ بالنسبةِ للغريب الذي تتساوى عنده قيمُ الموتِ، وينتمي في أخلاقِهِ إلى قيم اللامبالاةِ، ويُنمي شعوره الضائعَ لمعنى "الزمن" وأهميته.
أما نحنُ الفلسطينيين، فمن المفاجئ أن نتفاجأ، ومن المعيبِ أن نكونَ غير قادرين- وفي أقل تقدير على مدار الأعوام الأربعةِ الماضية- ألا نفهم أن ما حدث سيحدث، وسيحدث مثله أكثر، هذا لن يكون سوى جزء من تفاهةِ الحياة السياسية، التي انتقلت إلينا وغذيناها، والتي تأسست على قيم تحوِّرُ الواقعَ والحقيقة، وتُبجِّلُ الحركة السلبية في مقابل الحركة الحقيقية، وتقتضي أن يُصاب التفكير المنطقي السليم بالخلل وتقف حاجزاً ما بين السياسي/الوطني/المناضل الحقيقي وما بين المصلحة الوطنية التي اختار أن يُدافع عنها.
وذلك ما أحدثته تفاهةُ الحياة السياسية بالفلسطيني، الذي تحرك بين الثورةِ والدولةِ فضاع العنوان في الطريق لبيتِ الفلسطيني. إن استنزاف الثورة لأسس الدولةِ يماثلُه في القدرِ استنزافُ الدولةِ لقيم الثورةِ، لتبدو الأمور كأنها لعبةٌ قائمةٌ على الحركة باتجاهات متضادة، تشبِهُ لعبةَ الأطفال "السي سو" حيث يجب أن يكون أحدُ قيم الأوزانِ في الأعلى والآخرُ في الأسفلِ، لأن الثقلَ الموضوعَ يكونُ لصالحِ رفعِ أحدِ الثقلين وخفضِ الآخر، فالأكثرُ خفة يكونُ محمولاً لأعلى ومهيمناً هيمنةً ثقافيةً ومسيطراً سيطرة سياسية والأكثرُ ثقلاً يكونُ مربوطاً في الأسفل، وفي قاعِ النفسِ وفي قاع الوطنِ حتى يُنسى كأنَّهُ لم يكن.
وحتى وإن كانت لنا نظرة إيجابية وأكثر تفاؤلاً تعتبرُ أحد الثقلين القوة الرافعة للأخرى، فهو ما لن تسمح به تفاهةُ الحياة السياسية لأن العيش داخلها لا يسمحُ برفعِ وزنين في نفس الجهة ولا تسمحُ باستيعاب جزء من النقيض، فلعبةُ الحركة أيضاً لعبةَ مواقعٍ تغذيها تفاهة الحياةِ السياسية فتُستنفذُ من خلالها المعاني وتضيع الأوطان. وذلك ما يُفسر صراع فتح وحماس، وصراعات القوى داخل فتح لإضعافها وتقويض قياداتها المستقبلية وترويض قياداتها الحالية، والسماح بنشوء مراكز قوى كانت محسوبة عليها في خارجِ فلسطين أصبحت تديرُ دفة التحركات الاستراتيجية لبعض دول المنطقة.
تفاهةُ الحياةِ السياسية لا ترضَ للقطار أن يسيرَ على سكةٍ واحدةٍ في اتجاهٍ واحد، وعندما تتعدد سكك القطار، لا تكونُ الوجهةُ واحدةً، ولا المحطةُ النهائية متفقٌ عليها، فتدومُ وتستمر تفاهةُ الحياةِ السياسية!