لن يفهم السيد الأبيض الكلمات العتيقة هنا..
في النفوس الطليقة بين السماء وبين الشجر ..
فمن حق كولومبوس الحر أن يجد الهند في أي بحر،
ومن حقه أن يسمي أشباحنا فلفلا أو هنودا،
وفي وسعه أن يكسر بوصلة البحر كي تستقيم وأخطاء ريح الشمال،
ولكنه لا يصدق أن البشر سواسية كالهواء وكالماء خارج مملكة الخارطة!
وأنهم يولدون كما تولد الناس في برشلونة،
لكنهم يعبدون إله الطبيعة في كل شيء
... ولا يعبدون الذهب..
محمود درويش، خطبة "الهندي الأحمر" ما قبل الأخيرة، أمام الرجل الأبيض
كان العام 2020 عاما حافلا بالأحداث والصدمات للفلسطينيين، والتي تركت آثارا، على ما يبدو، وجودية وخيمة. عند تأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية، قبل خمسة وعشرين عاما، بموجب اتفاقيات أوسلو-واشنطن المرحلية، تم تحديد أنظمتها الأمنية والاقتصادية والحوكمية. اليوم، وبعد عقدين وبضع، نرى هذه الأنظمة تترنح إثر الصدمات المتوالية وما استجد من أزمات اجتماعية واقتصادية لم نشهد لها مثيلا من قبل. فقد ألمت جائحة كوفيد-19 بفلسطين عقب سنوات طويلة مثقلة بأجواء من التوتر السياسي، ومستويات نمو اقتصادي ضعيف، وأزمات اجتماعية مزمنة كانت الفئات الاجتماعية الضعيفة والمهمشة والفقيرة الخاسر الأكبر فيها.
برغم أن كافة دول العالم وشعوبها، ومنها فلسطين، تعاني من الأزمة الحالية وهو ما يحدث للمرة الأولى، إلا أن الوضع في فلسطين يشكل حالة فريدة من نوعها كونها دولة بلا سيادة، ترزح تحت الاحتلال العسكري الإسرائيلي منذ أمد طويل، وما ينطوي عليه من زحف متواصل للمشروع الاستعماري الاستيطاني. وكان سجل أداء السلطة الوطنية الفلسطينية خلال ربع القرن هذا متباينا، فقد أضعفته التناقضات المتأصلة والتي رافقت جهود بناء مؤسسات الدولة في ظل الحكم الاستعماري خلال العقد الماضي خاصة، وبناء "اقتصاد وطني" برغم استمرار التبعية الهيكلية للاقتصاد الإسرائيلي بنفوذه الواسع. فمؤسسات الدولة الفتية مكبلة بحدود ما تسمح به ترتيبات الحكم الذاتي، والهجمة الاستعمارية على القدس الشرقية وباقي أراضي الضفة الغربية والفصل الجغرافي (المفروض بالقوة) والانقسام السياسي بين الضفة الغربية وقطاع غزة (الاختياري).
وقد كشف الوباء الأخير والإغلاقات التي فرضت على الأراضي الفلسطينية منذ آذار 2020 للحد من انتشاره، عن هذه التصدعات/الفجوات في مختلف القطاعات الاقتصادية، والتي كان لها تأثيرات اقتصادية كلية شاملة طالت الاستهلاك، والإنتاج والاستثمار، وجلبت هزات أثرت على قطاعات اقتصادية أو مناطق جغرافية فلسطينية بعينها. فكان أكثر المتضررين من هذه الأزمة المتسارعة في أولى حلقاتها صغار المنتجين، والذين يعملون لحسابهم الخاص، وعمال المياومة (سواء الذين يعتمدون على وظائف في القطاع الخاص أو في إسرائيل)، والأمهات العاملات، والخريجين الشباب، والأسر الفقيرة التي يتوقع أن تزداد عددها من حوالي 200 ألف الى ما يقارب 300 ألف هذه السنة. أما موظفو القطاع العام، فقد بدأوا يشعرون بتأثيرات الأزمة منذ حزيران عندما بدأت الحكومة الفلسطينية بترشيد الإنفاق العام بشكل واضح، منضمين لصفوف جميع من أصبحوا مهددين بفقدان مصادر رزقهم أكثر من ذي قبل. والآن مع تصاعد التوتر السياسي بعد إعلان الحكومة الإسرائيلية الحالية نيتها ضم مساحات جديدة من أراضي الضفة الغربية المحتلة عاجلاً ام آجلاً، أصبحت جدوى السلطة الفلسطينية والغاية من إنشائها على المحك، وهو ما ينذر بانهيار أوسع خلال الأشهر القادمة، خاصة إذا اشتدت الأزمة الصحية-المالية المزدوجة.
على الرغم من صلاحياتها المحدودة، حاولت الحكومة الفلسطينية من المركز إدارة خطة الاستجابة للجائحة الصحية العالمية، والتي تشعبت مصادرها واتسع نطاق انتشارها إلى مناطق جغرافية عدة. كانت الجهات الحكومية، مثل وزارة الصحة والأجهزة الأمنية، قادرة على لعب الدور المركزي اللازم بتنسيق وتنفيذ إجراءات مكافحة هذا الوباء وضمان امتثال المدنيين بالتدابير الوقائية. لكن الأراضي الفلسطينية المحتلة المجزأة وسيطرة السلطات الإسرائيلية على حركة التنقل والعبور بين الأراضي الفلسطينية وإسرائيل وداخل أراضي الضفة الغربية نفسها، قد أثرت سلبا على ذلك وحدت من فعالية أداء الأجهزة المركزية. لذا، وفي المحصلة، يعتمد النجاح في اتخاذ القرارات اليومية وإدارة الأزمة وجهود احتواء الوباء على دور أبناء الشعب والمجتمع الفلسطيني وجهودهم (رأس المال الاجتماعي) على المستوى الإقليمي (المحافظات) والمحلي (المدن، والمخيمات، والقرى).
من متابعتنا للمشهد السياسي والاقتصادي والاجتماعي منتصف العام 2020، يلوح بالأفق مساران رئيسيان للعمل ضروريان وممكنان لتجنب تردي الأوضاع أكثر مما هي عليه.
أولا، يجب أن نعترف أنه لن يكون بالإمكان القضاء على الوباء، والتعافي من الركود الاقتصادي ما لم يتم وضع خطة استجابة صحية واجتماعية واقتصادية متينة ومتسقة، تضمن تضافر كافة الجهود لوضعها موضع التنفيذ. أظهرت التجربة الفلسطينية حتى الآن أن غالبية الناس لن تلتزم بالتدابير الوقائية وإجراءات العزل بشكل طوعي (حتى في المركز، رام الله، حيث تتواجد الأجهزة الحكومية بكثافة)، ولن تتعافى الأسواق دون دعم بقدر الموارد القليلة المتاحة، والتحفيز والتسهيل من قبل الحكومة المركزية والمحلية. في الواقع، تصاعد الموجة (الأولى) من الإصابات الجماعية بالفيروس في تموز 2020 ما هي إلا إنذار باحتمالية تفشي العدوى بشكل أوسع مع حلول موسم الشتاء وحتى أوائل العام 2021 (ما يزال يتراوح العدد الإجمالي للإصابات بين 400-500 يوميا).
برغم الآمال المعقودة بداية العام 2020 بأن يأخذ منحنى الركود الاقتصادي شكل حرف V (هبوط حاد وتعافي سريع)، إلا أن التوقعات الأكثر واقعية للركود تدلل على ركود على شكل الحرف L (دون تعافي في المنظور القريب (أو حتىK )، أي تعافي للبعض وكساد للآخرين)، وهو ما يعني ضرورة العمل لضمان جاهزية نظام الصحة العامة، ودعمه وتمكينه من مكافحة انتشار الفيروس بتوفير الموارد الكافية وبمشاركة القطاعين العام والمدني. مع ضرورة معالجة التداعيات الاقتصادية والاجتماعية، والتي لا تقل أهمية عن ذلك، إن لم يكن من خلال تدابير إغاثية، فليكن بإعادة تنظيم الطريقة التي يتكيف بها المجتمع وتوزيع العبء حتى تتمكن الأسر من التكيف مع هذه الأزمة طويلة الأمد، وهو أمر يجيده الشعب الفلسطيني. باختصار، لن يكون بالإمكان التعافي من هذه الأزمة دون استجابة وعمل دؤوب لمواجهة الآثار المباشرة للضغوطات الصحية والاقتصادية على الفئات الاجتماعية الأكثر ضعفا والقطاعات الاقتصادية الأكثر أهمية.
ثانياً، إذا تم السيطرة على فيروس كوفيد-19 عالمياً بحلول العام 2021 (كما هو متأمل)، من خلال إجراءات طبية أو تدابير الصحة العامة، فإن وتيرة، واتجاه، وحجم التعافي سيعتمد إلى حد كبير على مدى نجاح البرامج الإغاثية وبرامج الاستجابة في تحقيق هدفين رئيسيين: أن تستفيد أشد فئات المجتمع ضعفاً من شبكة الحماية الاجتماعية، وعدم تضرر القطاعات الإنتاجية الاستراتيجية في الاقتصاد الفلسطيني بشكل كبير لا يمكن إصلاحه. ربما لا يمكن لهذين المجالين العريضين في خطة استجابة اجتماعية واقتصادية في سياق محدودية الموارد بشكل كبير، تلبية احتياجات كافة قطاعات الاقتصاد وطبقات المجتمع التي تتصارع للتعامل مع الأزمة، خاصة مع تراجع الإيرادات العامة، والمساعدات الدولية، ودخل العاملين في إسرائيل، والتي تلعب جميعها دورا في استنزاف الموارد. لذا، يجب تحديد التدخلات ذات الأولوية لإغاثة الأكثر تضررا، ولتحفيز القطاعات الأخرى التي تعتمد مدخلاتها على رأس المال البشري والاجتماعي بشكل مكثف. في المرحلة القادمة، سيعاد تعريف الحوكمة الرشيدة في فلسطين بالإدارة الجيدة والتخطيط الواقعي والتنسيق متعدد المستويات والتواصل الفعال، وقبل كل شيء، التركيز على تنشيط الأسواق المحلية والطلب على الإنتاج المحلي والوظائف في الأسواق المحلية.
إن تصميم استراتيجية عملية ومستدامة للتعافي الاجتماعي والاقتصادي وتنفيذها في ظل استمرار البيئة السياسية المتقلبة، إن لم تكن بيئة معادية، ليس بالأمر المؤكد، وإن بدت معالم ومضمون هذه الاستراتيجية واضحة. مما يفاقم من هذا الوضع الصعب قلة الموارد وانخفاض الفعالية وتدني امتداد مؤسسات الحكم المركزية والمرهقة، والتي يعيقها كبر حجمها ومحدودية ولايتها وصلاحيتها، وعجز أو عدم وجود آليات للمساءلة الديمقراطية والشعبية وحتى على مستوى الخبراء. في الوقت الذي لا شيء يمكنه مساعدة فلسطين على تجاوز هذه الأزمة تماما وتقلد مكانتها المشروعة بين دول العالم، سوى سيادتها على أراضيها، ربما يتوجب إعادة النظر في مفهوم/مغزى بناء مؤسسات الدولة الفلسطينية تحت الاحتلال.
إذا كان حصول الفلسطينيين على السيادة قانونيا لا يزال أمراً مستبعداً، فعندئذ لا ضير من وضع تصور بديل لمسار يحافظ على مفهوم الدولة الفلسطينية يستمد جدواه من الممارسات اليومية المستقلة الواقعية والاجتماعية والاقتصادية والإدارية على مختلف مستويات الدولة، والتي تهيئ المشهد لممارسة السيادة والتنمية فعليا. وهذا يعني تعزيز قدرة شبكة مؤسسات "الدولة" بمفهومه الأوسع، وخاصة على المستويين الإقليمي والمحلي، سواء بتعبئتها للاستجابة لكوفيد -19 أو في مقاومتها الجماعية للاستعمار الإسرائيلي. هذا التركيز على مفهوم للدولة يتجاوز الحكومة والوزارات، يعني بدوره السعي إلى مزيد من اللامركزية في هيكلية وسلطات ووظائف الحوكمة الوطنية- أي شكل من أشكال ما يسمى "بالنشاط البلدي" (municipal activism) أو "التفكير من المنظور المحلي من أجل التأثير على المستوى الوطني". عندما يُفهم أن دولة فلسطين هي ناتج جميع الأنظمة والمؤسسات الموجودة حاليا- المدنية والحكومية، السوقية والتنظيمية، القانونية وغير الرسمية، الديمقراطية والتعددية، الاجتماعية والاقتصادية، الأسرية والشركات، الريفية والحضرية، الإقليمية والمحلية والمركزية - عندها يصبح قيام الدولة على أرض الواقع وحتميتها هدفا ملموساً أكثر. كما أن قدرة فلسطين كقوة جمعية قادرة على وقف أو حتى عكس التقدم الاستعماري الاستيطاني تزداد قوة، ما يعزز من إمكانية وضع تصور جدي لمسار التعافي والنمو والحكم السيادي.