مناقشة اتفاق التطبيع بين الإمارات العربية المتحدة والكيان الصهيوني برعاية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بطريقة عقلانية بعيدة عن الانفعال والعاطفة والأحكام المسبقة ومن منطلق مواطن فلسطيني وعربي حريص على قضيته وأمته وحتى الأنظمة التي تحكم برقاب ومقدرات شعوبها؛ يخلص إلى نتيجة واضحة تؤكد أن الإمارات العربية المتحدة ولنقل بالتحديد حاكمها ومستشاريه قد جانبهم الصواب في ركوب هذا المركب الصعب وولوج باب القضية الفلسطينية التي تقول الأدبيات العربية والإماراتية إنها قضية العرب الأولى، وإن المبادرة العربية للقمة العربية في بيروت عام 2002 تقول بأن التطبيع مع إسرائيل هو أمر لاحق لاعتراف إسرائيل بالحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني وإقامة دولة فلسطينية في حدود الرابع من حزيران 1967 عاصمتها القدس، وهو ما تقول به الإمارات حتى بعد الاتفاق الثلاثي مع إسرائيل، وتضيف إلى ذلك رفضها لما استجد من قضايا سياسية بعد قمة بيروت كخطة الضم الإسرائيلية إحدى تفرعات صفقة القرن التي رفضها العرب في أكثر من قمة ورفضها الفلسطينيون بكل تصميم ووضوح رغم ما جره عليهم هذا الرفض من عقوبات سياسية ومالية من الإدارة الأمريكية وإسرائيل ومن بعض الأشقاء العرب للأسف الشديد.
وتتمثل عدم صوابية الاتفاق الإماراتي كونه يتعارض مع مصلحة دولة الإمارات العربية المتحدة أولا ومع مصلحة الشعب الفلسطيني ثانيا، وخروج عن الإجماع العربي الهش أو ورقة التوت التي ما زالت تستر عورات بعض الحكام العرب الذين ينتظرون الإشارة من البيت الأبيض ليتقدموا الصف مصافحين اليد الإسرائيلية الملوثة بدماء شعب فلسطين أطفالا ونساء وشيوخا وشبانا، والتي تعمل بشكل حثيث على تهويد المسجد الأقصى والقدس مسرى نبي العرب والمسلمين وتصادر مئات الدونمات مما تبقى من أرض فلسطين كل يوم قبل الاتفاق وبعده.
تتعارض مصلحة الإمارات مع الاتفاق مع الكيان الصهيوني في تركيز إسرائيل على الجانب الأمني من الاتفاق أولا، ولذلك كانت أول زيارة لمسؤول إسرائيلي للإمارات بعد الاتفاق ليوسي كوهين مسؤول الشاباك، ما أثار حفيظة إيران وتعقيد علاقتها المعقدة أصلا مع دول الخليج بتواجد إسرائيل الأمني بالقرب من مضيق هرمز والمياه الإقليمية الإيرانية، ما دفع إيران إلى القول إنه لم يعد بيننا وبين الإمارات حسن جوار بعد الآن، بعد أن تجاوزت الخطوط الحمر للأمن الجماعي في الخليج بعد توقيع الاتفاق. ومما لا شك فيه أن علاقة الإمارات وحسن الجوار مع إيران أهم بكثير من أي علاقات مع إسرائيل التي لا تحترم الاتفاقات أو العهود، إضافة إلى أن إيران جار شاءت دول الخليج العربي أم أبت لهذه الدول وللوطن العربي.
وبهذا الاتفاق جعل حاكم الإمارات من بلده ساحة صراع بين إسرائيل وإيران وهذا أمر ليس في مصلحة الإمارات.
وتربطنا بإيران مصالح استراتيجية رضينا أم أبينا، وهي شقيق لنا في الدين والأخوة الإسلامية وليس من مصلحة أي عربي استعداء إيران أو التآمر عليها سواء حكمها الشاه أو الإمام. ولا نسمع من إيران غير التأييد للقضية الفلسطينية وتحرير القدس كالإمارات وغيرها من العرب، وإذا كانت هناك خلافات حول ما يسمى تدخل إيران في شؤون بعض الدول العربية؛ فإن هناك تدخلات إماراتية أيضا في شؤون بعض الدول العربية وفي تحريض عربي متواصل على قلب الحقيقة في من هم أعداء الأمة العربية عندما يجعلون من الكيان الصهيوني صديقا وحليفا استراتيجيا ومن إيران عدوا استراتيجيا، ولا يأبه بنيامين نتنياهو عندما يصف اتفاقه مع الإمارات بأنه اتفاق من موقع قوة وكأنه خاض حربا مع الإمارات وانتصر عليها وهو يفرض شروطه عليها.
ثانيا: يتعارض الاتفاق مع مصالح الإمارات الاقتصادية والمالية، ذلك أن إسرائيل تعاني من أزمة اقتصادية حادة بسبب جائحة كورونا ووصل عدد العاطلين عن العمل إلى نحو مليون عاطل وانخفض دخل كل مواطن في الكيان بنحو 17 ألف دولار، وهي بحاجة إلى سيولة نقدية لتحريك عجلة اقتصادها المتباطئ وتنظر إلى أموال الإمارات بعين طامعة ولديها من المشاريع الأمنية والفضائية والكورونية والتربوية والسياحية ما تستفيد منها إسرائيل دون أي فائدة تذكر لدولة الإمارات ومواطنيها.
ثالثا: تشويه صورة الإمارات العربية النقية وصورة الشيخ زايد- زايد الخير كما يقول العرب الذي كان جامعا للأمة العربية ومحبا لها. ولقضاياها وفي مقدمتها القضية الفلسطينية والتي لم يبخل عليها يوما، ويقدر له الشعب الفلسطيني مواقفه وعروبته الأصيلة ويعتب بل ويغضب من اتفاق أبنائه من الكيان الصهيوني من وراء قيادة الشعب الفلسطيني والتفريط بحقوق هذا الشعب المرابط حول المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله ويعاني يوميا من سياط المحتل ورصاص جنوده وتدمير ممتلكاته ونهب أرضه.
ولم تتوقف وسائل الإعلام الإسرائيلية التي يزودها بالمعلومات المشوهة يوسي كوهين وغيره من المسؤولين الأمنيين الإسرائيليين من بث الأخبار المسمومة والمشوهة للماضي العربي وصورة حكامهم، فتكشف وتدعي أن رجال الموساد ومنذ الستينات يقيمون اتصالات مع نظرائهم في دول الخليج وغيرها من الدول العربية، وأن هذه الاتصالات لم تقتصر على جيل الشباب من حكام الخليج وغيرهم وهي تصورهم كأنهم ورثوا التطبيع وخيانة القضية الفلسطينية أبا عن جد لا يرف لهم جفن ولا يتحرك لهم ضمير ولا يردعهم دين، خاصة وأن لديهم من المفتين من يحرم الحلال ويحل الحرام وفق رغبة السلطان.
رابعا: المساس بمكانة الإمارات العربية واحترامها بين دول وشعوب المنطقة رغم ما يصدر عنها من تجاوزات في بعض سياساتها التي تثير خلافات وتعارضات غريبة وشعبية ورسمية.
وبخروج الإمارات عن الإجماع العربي حول القضية الفلسطينية في حده الأدنى وهو مبادرة السلام العربية، تعطي دولا عربية الحق في التخلي عن نصرة الإمارات إذا ما تعرضت لا سمح الله إلى عدوان أو تهديد من جار أو بعيد، فالغطاء العربي مهما كان رثا ومشكوكا فيه يستر العورة عند الحاجة ولا تقف أحوال الشعوب والدول عند فترة محددة من الزمن وإنما هي حركة مستمرة تصعد دولة وتهبط أخرى وتقوى إمبراطورية وتحلل أخرى.
خامسا: المساس بوجدان شعب الإمارات الذي تربي على نصرة المظلوم والانتماء لقضايا العرب وفي مقدمتها القضية الفلسطينية ومقاومة التطبيع مع العدو، واهتزاز ثقة شعب الإمارات بحاكمه ومستشاريه رغم تصريح ضاحي خلفان الذي يستند إلى أنه دخل بيوت كل الإماراتيين ولمس منهم تأييد الاتفاق مع إسرائيل. ورغم تصريحات أنور قرقاش أن الاتفاق يحفظ حقوق الشعب الفلسطيني وحل الدولتين والأقصى والقدس ويوقف الضم الإسرائيلي لأراضي الضفة.
فلا حاجة إلى شرح طويل، فقد قالت القيادة الفلسطينية إنه خيانة للقدس والأقصى والقضية الفلسطينية ولم تخرج القيادة الفلسطينية بموقف حاد وواضح ومعارض لموقف دولة عربية منذ زمن بعيد وهي في هذا الشأن مهادنة وحريصة على العلاقات مع الدول العربية الشقيقة وتجامل في كثير من التفاصيل، ولكن عندما يصل الأمر إلى حد خيانة القضية الفلسطينية تقول كلمتها. ولم نشاهد مثل هذا الموقف للقيادة الفلسطينية إلا عام 1979 عندما وقع المغدور أنور السادات اتفاق كامب ديفيد مع الكيان الصهيوني وقام بزيارة الذل والعار للقدس المحتلة وصلى تحت حراب الاحتلال في المسجد الأقصى. وظلت خطوة السادات في التطبيع معزولة شعبيا بشكل مطلق ويكاد السفير الإسرائيلي لا يجد عقارا لمقر السفارة في كل مصر، وظل التطبيع مقتصرا على حكام مصر في حدوده الدنيا، فلم يزر حسني مبارك إسرائيل طيلة فترة حكمه التي امتدت ثلاثين سنة، وندد كثيرون من العرب والمصريون والفلسطينيون بترحيب الرئيس عبد الفتاح السيسي بالاتفاق الإماراتي الإسرائيلي كأول رئيس عربي يرحب بالاتفاق رغم إدراكه لما جره كامب ديفيد من ويلات على مصر وعلى القضية الفلسطينية ووحدة الموقف العربي من رفض الاعتراف بالكيان الصهيوني وفتحه الباب أمام الحكام العرب للهرولة صوب تل أبيب والتفريط بحقوق شعب فلسطين.
لقد جاءت خطوة الإمارات أيضا لتفتح الباب أمام حكام عرب للاتفاق المذل مع إسرائيل، ولا يخفي دونالد ترامب وبنيامين نتنياهو أن عددا من حكام الدول العربية ينتظرون في الصف للاتفاق مع إسرائيل على غرار دولة الإمارات، وأن توقيت التوقيع يخضع لضرورات الحملة الانتخابية لدونالد ترامب ولبنيامين نتنياهو الذي يقف على رأس حكومة هشة مهددة بانفراط عقدها في أي لحظة.
والمهزلة التي شهدها السودان توجع قلب كل سوداني وفلسطيني وعربي عندما تسمع من الناطق باسم الخارجية السودانية كلاما غريبا يفاضل فيه بين أهمية تطبيع السودان وتطبيع مصر لعلاقتهما مع إسرائيل، قال هذا المسؤول سيكون السودان أهم بلد يطبع مع إسرائيل حتى أهم من مصر، لأنه سيكون تطبيعا من موقع الندية لما للسودان من موقع وما فيها من خيرات وثروات وكأنه يعرضها على إسرائيل. وقال إنه يدلي بهذه التصريحات بالتوافق مع مواقف رئيس مجلس السيادة الجنرال عبد الفتاح البرهان الذي اجتمع في مع نتنياهو سابقا، ويبدو أن ردة فعل القوى داخل السودان وخارجه على هذه التصريحات المستهجنة أجبر هذا الشخص على الاستقالة، خاصة أن وزير الخارجية السوداني قال إنه لم يبحث مثل هذا الأمر في وزارة الخارجية ولم يتخذ قرار في هذا الشأن ما دعا إلى استقالة الناطق. ولكن نقول إن لا دخان بدون نار ونأمل أن لا ينجر السودان أو غيره من الأقطار العربية التي رشحها ترامب ونتنياهو لإعلان خطوات مماثلة للخطوة الإماراتية إلى خانة المطبعين الخونة للقضية الفلسطينية والاقصى المبارك والقدس.
لقد ضحت خطوة الإمارات العربية بالإجماع العربي وبالجامعة العربية وبالتضامن العربي الذي ساند القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني ووجهت طعنة في ظهر شعب فلسطين والتضحية بنضاله الممتد منذ مئة سنة وتقديم فلسطين كاملة على طبق من دم الشعب الفلسطيني للمحتل الإسرائيلي، وكشفت اتفاقية الإمارات عجز الجامعة العربية وكذب التضامن العربي وعجز منظمة التعاون الإسلامي وزيف إسلام كثير من المسلمين الذين يدعوهم نتنياهو وترامب للصلاة في الأقصى المحتل الجريح، وقد حرم ذلك مفتى القدس وكل من لديه دين ويحتكم إلى شريعة. وتشمل زيارته الدول المرشحة للتطبيع السودان والبحرين إضافة إلى إسرائيل والإمارات.
لقد وقعت الإمارات في المصيدة الإسرائيلية، ولن تفلت منها حتى يمتص الإسرائيليون آخر قطرة من دم شعب الإمارات وثروتهم ولن يترك حكام الكيان الصهيوني الإمارات ترتاح يوما دون أن يصدر عنهم خبر أو تقرير عن بنود الاتفاق السري أو ملحقاته، وعلى حكام الإمارات أن يستعدوا من اليوم إلى نفي أو توضيح التصريحات الإسرائيلية أو الاستجابة إلى طلباتهم التي لا تقف عند حد خاصة في الشأنين الأمني والمالي.
شهران أو ثلاثة قادمان سيرهقان دولة الإمارات من الطلبات الإسرائيلية والأمريكية، ولكن ماذا سيكون عليه حال الإمارات إذا خسر دونالد ترامب الانتخابات، فالاستطلاعات توحي بذلك والديمقراطيون برئاسة جو بايدن غير مرتاحين لتصرفات الإمارات وانحيازها الفج لصالح المرشح الجمهوري الذي لا يحترم أحدا خاصة حكام دول الخليج، وهو نموذج للرئيس العنصري الذي أظهر عداءه للإسلام والأجانب واستخفافه بالحكام العرب والأنظمة العربية التي أطلقها ولا تزال ترن في آذان المواطن العربي الذي يرفض التجريح الأمريكي سواء من ترامب أو غيره للشخصية العربية حاكما أو محكوما، إضافة إلى جشعه وطمعه في الأموال الخليجية التي يراها سائبة. فأولى بالإمارات أن تتحلل من التزامات الاتفاق مع إسرائيل قبل فوات الأوان حفاظا على هيبة دولة الإمارات والإجماع العربي الضائع ومصالح شعب الإمارات حكاما ومحكومين ومصالح الشعب الفلسطيني وكرامة الأمة العربية وثروات الشعب الإماراتي والانعتاق من استعباد أمريكا وإسرائيل للإمارات ودول الخليج والمنطقة وعبثهما بأمن الخليج والمنطقة وعبثهما بأمن الخليج ودوله ومصالح شعوبه.