وأنا أسير يوم أمس في أحد شوارع المدينة، حيث ناغريةٌ تلفحُ القلوب قبل الوجوه، كانت الأرصفةُ المظللةُ مكتظةٌ بمن أعياهم الوقت، أو أرهقهم الانتظار، ومن بين أولئك كان شابان وسيمان يتكئان على عقدين من العمر، يلبسان ملابسَ عَمَلٍ جيدة المظهر، وعلى ما يبدو أنَّ حوارًا ساخنًا كان يدور بينهما، حيث في لحظة مروري عنهما، قال أحدهما لرفيقه: "بعرَف إنّو كذاب. بس إفْرِضْ كان صادقْ هالمَرَّة؟". لم أتوقف لأسمع الجواب، وتابعتُ سيري إلى حيث كنتُ قد ركنتُ سيارتي، فلا مجال للوقوف ولا للتسكُّع في مثل هذا القيظ. ولكنَّ الجواب تَبِعَني، إذ لم أَكُنْ مُسْرِعًا، وأنا مُثْقَلٌ ببعضِ مشترياتٍ أحاولُ التخلصَ منها بالوصول إلى السيارة:" بس هو كذاب عادي جدًّا". العبارة ظلَّت ترنُّ، وإيماءات الشاب التي كانت تحملُ كثيرًا من الدلالات، وانتكاسة رفيقه الذي يبدو عليه الإحباط واللامبالاة، وربَّما شمس الظهيرة ساهمت هي الأخرى بذلك الطنين الذي ظلَّ يهاجم أُذُنَيَّ.
العبارةُ المَقولةُ ربَّما يسمعها كثيرٌ من الناس، وربما تُطبَّقُ على أرض الواقع بقراءاتٍ عشر، ولكنَّ الأمر يحتاج إلى وقفةٍ في موضوع الكذب. فهل هناك أسوأ من أن يَصِمُك الناس بالكذب، ويرفقون أمام اسمك أو قبله صيغة المبالغة (كذاب) بالتنكير والتعريف؟ لماذا نكذب؟ وعلى من نكذب؟ وما حاجتنا للكذب؟ أسئلةٌ ظلَّت تدور في رأسي الدائرة، وإجاباتٌ كثيرةٌ لم تكتمل، وأحاديثُ وآياتٌ وأمثالٌ وحِكَمٌ، ومحاكمُ انتصبت أمامي بِقُضاةٍ غِلاظٍ قُساةٍ لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يُؤمرون، وصورةُ تلك الشخصية الغائبة الحاضرة؛ شخصية الكذاب الذي وصفه صديقنا الشاب الوسيم ب(كذاب عادي جدًّا)، فعلى ما يبدو أنَّه اسْتُهْلِكَ كَذِبًا، ولم يعُد هناك ما يُثير الغرابة في كَذِبِه، دون أن يدرك أنَّ "حبل الكذب قصير"، لكنَّ الناسَ قصَّروه باكتشافهم له، وطوَّلوه بالسكوت عليه.
لقد بات واضحًا أنَّ الكذب مرضٌ نفسيٌّ يصعب تفسيره بدقة، وهو يختلف من مرحلةٍ عمرية لأخرى؛ فالأطفال في سن الرابعة يكذبون، ثم تبدأ رحلة الكشف عن هذا الكذب وأضراره؛ فيكتشف الطفل نتيجةً لسلوك العائلة وطبيعة التربية أنَّ الكذب أمرٌ غير محمود، ومنهم من يصل إلى قناعة بأنَّ الكذب حرامٌ دينيًّا، ومنهم من يرى أنه عيبٌ اجتماعيًّا، وهذا عائدٌ إلى خلفية كل طفل. وفي الغالب تبدأ ظاهرة الكذب بالذبول والتلاشي تدريجيًّا لدى الطفل في الوضع الطبيعي. إلا أنَّ الطامَّة الكبرى عندما يكتسب الطفلُ هذه الصفة من والديه أو أحدهما اكتسابًا، فتنمو مع نمو عضلاته، إلى أن يصبح محترفًا في الكذب، لا "كذاب عادي جدًّا". فما أسبابُ الكذب لدى الكبار؟ وما طبيعتها؟
تشير معظم الدراسات المتخصصة في هذا المجال إلى أنَّ الكذب مرضٌ نفسيٌّ لا يمكن تفسير سلوك صاحبه بسهولة، وأنَّ الأشخاص الكذابين هم مرضى اضطراباتٍ نفسية، تعد علامةً من علامات اضرابات الشخصية مثل السيكوباتية والنرجسية. ولكن بعيدًا عن الدراسات العلمية والطبية والنفسية. ماذا عن تجاربنا وخبراتنا الحياتية مع الكذب وأهله؟ هل كنا مضطرين ذات يومٍ لنكذب؟ هل كُنا ضحايا الكذب؟ كم مرَّة غُرِّرَ بنا؟ كم تعرضنا لخيباتٍ وانكساراتٍ نتيجة الثقة الزائدة بأحدهم، ثمَّ كانت الصاعقة التي هدَّمت أبراج الثقة والصداقة والعلاقة؟ من شبه المؤكد أنَّ كلَّ واحدٍ فينا يحتفظُ بموقفٍ أو اثنين على الأقل، إما إنه كان فيها ضحيةً لكذّاب، أو كان جلَّادًا لضحيةٍ ما. ولكنَّ البعض قد يبرِّرُ أو يحاول أن يبرِّرَ لنفسه أنه كذب ذات يوم، حيث لم تضرَّ كذبته ولم تنفع، ولم تُحدِثْ حديثًا على قارعة الطريق، ولم تكنْ ذات صلةٍ بالتسبُّب بالضرر للآخرين، وإلحاق الأذى سواء بالفرد أو الجماعة، إلا أنَّ الكذب يبقى كذبًا مهما صغر أو كبر، وأنه لا سواد ولا بياض فيه، ولكنَّ الذي لا يجوز أن نبرره هو كذب الآخرين. فمتى رُحتَ تبرِّرُ للآخر كذبه المتواصل، وتسكت عنه خجلًا أو احترامًا مصطنعًا، أو نفاقًا اجتماعيًّا أو سياسيًّا، أو شعورًا بالرغبة بالتقيُّؤ مما سمعت وعرفت واكتشفت من الكذب والخداع، دون أن تتقيَّأ فعلًا في وجه الكاذب، فإنَّك تكون قد ساهمت في تطوير منظومة صديقك أو مسؤولك أو قريبك الذي يكذب تباعًا، وتبني معه أهرامًا من الوهم، حتى يسقط في غِيِّه وجهله ومرضه، ويخرج من ثوبه الواقعي، إلى ثوبٍ فضفاضٍ سيكون بالطبع أكبر منه، لكنه ثوبٌ في الوقت ذاته شفَّافٌ فاضحٌ لا يستر عورته، وليس له عُرًى يُستمسك بها.
إنَّه لَمِن غير الطبيعي أن نصل إلى مرحلةٍ نفترضُ فيها افتراضًا أن يصدقَ الإنسان، وأن يكون الطبيعي والمتوقع والمتعارف عليه أن يكذب. وما أقبحه من شعور، وأنت تستمعُ لحديث الكذاب، أنتَ له مصدِّق، وهو عليك كاذب! والأدهى حين يكون هذا الكاذبُ يستمرئ كذبه، ويُسوِّقُه بكل المنتجات، ويبيعه في (حارة السَّقّايين)، ثمَّ يكتشف بعد ذلك أنَّ بضاعته باتت فاسدة، ويكتشف كذلك أنَّه كان يكذب على أمه وأبيه، وأخته وأخيه، وصاحبته وبنيه، فلا يجد بعدها بيتًا يأويه، ولا قلبًا يحتويه. ماذا سيقول لنفسه عندئذ؟ الكاذب وحده يعرف ما يجب أن يقوله، لكنه يتطاولُ على ذاته، فينكرُ ويتنكر، حتّى يُدَمِّر ويتدمَّر. هذا وضعُ كذّابٍ عاديٍّ جدًا. فما بالكم بكذابٍ محترف؟ أو كذابٍ يضلِّلُ أُمةً، ويقتلُ شعبًا، ويخونُ الأمانةَ والرسالة، ونحنُ نصفِّقُ له تمجيدًا، وننعته بصاحب البطولة والرسالة؟ حمانا الله من الكذب والكذابين، وأبعدَ عنّا وعنكم شرورَهم.