ليس من باب الصدفة أن يتم الإعلان عن توقيع اتفاقية "السلام" وتطبيع العلاقات بين دولة الإمارات، ودولة الاحتلال في الثالث عشر من أيلول الجاري ذات الموعد الذي تم التوقيع فيه على اتفاقية أوسلو بين منظمة التحرير ودولة الاحتلال، ففي الإعلان عن ذات التوقيت معاني كثيرة ورسائل سياسية أكثر تحاول الولايات المتحدة إرسالها في أكثر من اتجاه في الوقت الذي تتواصل الاحتجاجات، والأصوات المعارضة للاتفاق الإماراتي الإسرائيلي على المستوى المحلي الفلسطيني، وعلى المستوى العربي والدولي، وبعد الموقف السياسي الواضح للقيادة الفلسطينية برفض هذا الاتفاق، رغم ما رافق ذلك من تبريرات إماراتية واهية لها علاقة بتأجيل خطة الضم، وهي ليست موضوعنا بأي حال من الأحوال.
اللافت للنظر في هذا الإعلان عن أواسط أيلول للتوقيع بعد هبوط أول طائرة إسرائيلية في مطار دبي بشكل رسمي وعلني، وما رافقها من زيادة الوفد الأميركي الإسرائيلي للإعلان عن رزمة من اتفاقيات التعاون المشترك في مجالات اقتصادية وأمنية، وتوسيع قاعدة الاستثمارات المشتركة ضمن مشاريع تعكس التعاون الجديد ما يثير الانتباه هو إصرار إسرائيل دولة الاحتلال على كي الوعي العربي والفلسطيني بعد 27 عاما على أوسلو بأن عرى التماسك العربي تنهار واحدة تلو الأخرى، وأن على الفلسطينيين أن يواجهوا مصيرهم وحدهم فإما أن يأتوا إلى المفاوضات على ذات القاعدة "السلام مقابل السلام" أو مواجهة موجة قوية من تطبيع العلاقات مع العالمين العربي والإسلامي ويفوتهم بذلك الانضمام لقطار التسوية دون اكتراث بإحقاق الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني التي طالما تغنى بها العرب، ونصت عليها مبادرة السلام العربية لا خيار آخر هذه هي الصورة التي تحاول رسمها في اذهان الجميع في ذكرى الاتفاق الشهير أوسلو الذي لم يعد قائما بفعل إجراءات الاحتلال ليس حديثا وإنما منذ لحظة توقيعه بعد مفاوضات سرية سبقت الإعلان عنه وبين ما كشف النقاب عنه بعد مفاوضات سرية سبقت اتفاق الامارات ايضا، حيث يثبت الواقع القائم مدى الاستخدام الشكلي ليافطة أوسلو للتغرير بالعالم، والترويج للسلام المزعوم وفق الرواية الاسرائيلية، وبما يخدم مصالحها فقط بينما على الارض الصورة مغايرة تماما تسعير للاستيطان اجراءات تهويد يومية في القدس تغول في محاولات تصفية القضية الوطنية، والمزيد من التغلغل في عمق العالم العربي .
لقد كان صحيحا بما لا يدع مجالا للشك أن أوسلو هو طريق يقود " إما إلى الاستقلال أو إلى جهنم" وهو يقود نحو الهاوية بتصميم وإمعان حكومات الاحتلال المتعاقبة التي تريد منه القشور، والشكل للإبقاء على صورتها أمام العالم بينما المضمون هو بمقدار ما يخدم سياساتها في استدامة الاحتلال، وتكريس الاستيطان الاستعماري، وهو الثابت في كل ما جرى، ويجري بحيث أصبحت عناصر اللعبة مكشوفة تماما بأن عملية أوسلو هي أكبر عملية (نصب) تعرض لها شعب في التاريخ على الأقل المعاصر، مع إدراك القيادة الفلسطينية، وقناعتها التي توصلت إليها ولو بعد حين بأن طريق أوسلو لن يقود لاعادة الحقوق، وان السلطة الفلسطينية ليست بوابة للحرية والاستقلال، وان الطريق لذلك ليست بالامنيات، ووضع الخيارات كلها في سلة المفاوضات التي لا طائل منها سوى استمرار نهب الارض، وطمس الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، وأن الاحتلال استخدم نشوء السلطة وما تلاها من اجل تحقيق اهداف خبيثة إحدى أهم ثمارها بالنسبة له هو حالة الانقسام الداخلي الجغرافي والسياسي، اضافة للتباينات الاقتصادية والاجتماعية التي خلفها على تركيبة المجتمع الفلسطيني، ونشوء وضع تعزز منذ الانتفاضة الثانية اصبحت الارض الفلسطينية فيه مقطعة الاوصال، واشبه بمعازل وجيوب مترامية الأطراف في بحر المستوطنات الجاثم فوق صدور الشعب الفلسطيني، ومحاولة ضرب التمثيل الفلسطيني ووحدة قضاياه المختلفة، فتوزعت بين الداخل والشتات، والضفة وغزة وكل ساحة منها يراد لها ان تصبح ساحات تختلف فيما بينها حول القضايا والشعار الجامع، وحتى الهدف، ولسنا بصدد تقييم مسيرة اتفاق اوسلو ايضا لان الحديث عنها يطول .
تطور الفهم للاتفاق الذي استشعر فيه الرئيس الراحل ياسر عرفات حجم الخطر الداهم تجلى واضحا خلال محادثات كامب ديفيد مع ايهود باراك، وإغلاق الطريق على أية مساع مع التعنت في المواقف الاحتلالية القائمة على الاحتفاظ بالقدس، وإنهاء قضية حق العودة، والإبقاء على المستوطنات حيث الحل الاسرائيلي الممكن هو فقط عبر بوابة الأمن فجاء الرد على فشل قمة البيت الأبيض بالانتفاضة الثانية التي نعيش ذكراها هذه الأيام أيضا القيادة أحاطت نفسها بالشعب في محاولة للخلاص، وايقاظ العالم ان القضية الوطنية لم تحل، وان الاحتلال يسعى لتأبيد وجوده على انقاض حقوق الشعب الفلسطيني، القيادة استخلصت أن النوايا الحسنة، والاتكال على النوايا وحدها لا تفيد في ظل موازين القوى القائمة، والتحالفات الدولية التي تبدلت كثيرا منذ مطلع التسعينات وما بعدها، وجاءت كل المحطات التي يعيشها الشعب الفلسطيني ولا يزال لتؤكد استحالة الوصول لأي اتفاق سلام وفق محددات دولة الاحتلال، وان ردم الهوة بين الموقف الفلسطيني القائم على الشرعية الدولية وقراراتها في إنهاء الصراع، والتمسك بالحقوق غير القابلة للتصرف بما فيها العودة، وتقرير المصير هي كبيرة، وتتسع باستمرار ايضا مع استمرار السعي لإنهاء القضية برمتها من قبل الاحتلال، ومجمل صورة المواقف الفلسطينية التي اتسمت بالوضوح اكثر باتجاه الخروج من المازق بما فيها قرارات المجلسين الوطني، والمركزي لمنظمة التحرير وصولا لقرار ايار الماضي بالتحلل من جميع الاتفاقيات السياسية والامنية والاقتصادية مع دولة الاحتلال، والتي جاءت ترجمة عملية لانهاء التعاقد مع اوسلو الذي كان يفترض ان ينتهي في ايار1999 بانتهاء المرحلة الانتقالية انذاك، وانهاء ملفات الحل الدائم التي نسفتها اسرائيل جميعها واحد تلو الاخر من طرف واحد بدعم اميركي يتواصل حتى يومنا هذا، وان كان بشراسة اعلى .
وبالعودة للاتفاق مع الامارات وفي نقاط الاختلاف والانسجام في اوجه التشابه بين الاتفاقين فان الجامع بينهما يبقى السعي لاختراق الوعي، وتسجيل نقاط اضافية جديدة لصالح المشروع الصهيوني على حساب القضايا العربية، ووحدة الحد الادنى من الموقف العربي، وفتح مسار جديد من التطبيع العلني العربي، ومد جسور التعاون المشترك لضرب كل جهد لمساندة القضية الفلسطينية لن تبدأ بالامارات ولا تنتهي بدول اخرى عديدة تحاول ان تقدم أوراق اعتمادها لدخول (نادي) العلاقات الاسرائيلية العربية دون الأخذ بالاعتبار للحقوق الوطنية او في ظل تنفيذ مخطط الضم للضفة الغربية، تدشن الإمارات مسار جديد يعتمد صيغة الفوضى الخلاقة المرتبطة بوهم الانعاش الاقتصادي، والازدهار وهذا هو الخطير هذه المرة لكنه بالجوهر يهدف لخلخلة الموقف العربي المتآكل اصلا لتمرير ما تريده إسرائيل المزهوة بالانجاز وسط سعي نتنياهو لتحسين صورته أمام خصومه بأنه الرجل القوي رغم عدم استقرار حكومته، ومعها ايضا رفع اسهم ترمب الساعي للفوز في الانتخابات المقبلة في الولايات المتحدة ضمن إنجازات يسعى لتحقيقها على صعيد السياسة الخارجية في أكثر من منطقة من العالم من بينها الشرق الأوسط .
الثالث عشر من أيلول سيكون يوما حزينا ايضا لاعادة عقارب الساعة، وتذكير الجميع بالخطيئة التي حملها أوسلو، والذي جرى اعلان انتهاء الالتزام به فلسطينيا يريدون ان يكون هذه المرة علامة فارقة في الوجدان العربي ككل في رسالة واضحة معناها انه في الوقت الذي يدفن فيه الفلسطينيون اتفاق اوسلو فإنه يبعث من جديد عبر بوابة دبي، والهدف إغراق المنطقة في وحل النزاعات المتصاعدة، وخلق تحالفات جديدة تلعب فيها اسرائيل دور الحكم، والشرطي، والحامي للعروش والأنظمة، والتسلل لتفاصيل المشهد لاظهار صورة اخرى لكن في الحقيقة الأمر الهام الذي ينبغي عدم نسيانه هو أن كل الاتفاقات مع الدول العربية لم تحقق الفائدة، ولا الازدهار لشعوبها بل تم استغلالها لمد جسور اسرائيل فيها تنهش، وتخرب الاستقرار الداخلي وتستغل مواردها، وثرواتها تفقد الدول معها معنى وجودها لتتحول لدول مستهلكة تعاني من أزمات متتالية مديونية عالية، وينتظرها خطر التقسيم الطائفي او الانهيار من الداخل، والمشهد العربي يتحدث عن حاله بشكل صارخ، ولا يحتاج للشرح والتوصيف .
العبرة ان الاتفاق الجديد لن يحمل الخير للإمارات، وهو بالتأكيد لن يحمل أي مردود للفلسطينيين على العكس من ذلك هو سيتخد وسيلة ضغط جديدة من اجل اجبارهم على قبول العودة للمفاوضات مع تكريس الأمر القائم، وخطة الضم في القدس، والأغوار، ومجمل الضفة الغربية، وهو ايضا يدق مسمار جديد آخر في خشبة التعاون العربي المشترك، والقضايا العربية ويدخل دول عربية اخرى يسيل لعاب حكامها للاشتراك في نادي العلاقات مع اسرائيل، وارضاء سيد البيت الأبيض لكنه بالنسبة للشعب الفلسطيني اتفاق مرفوض، ومؤامرة ستتضح عناصرها، وخيوطها خلال قادم الأيام، والشعب الفلسطيني لن يقبل بتصفية حقوقه او التفاوض باسمه او القفز عن حقوقه - هذه الحقيقة التي ينبغي على الجميع إدراكها، وان هذه الحقوق لن تكون بضاعة رخيصة في بازار التسوية، والمقايضة من أي طرف كان، الخطوة المنتظرة للرد على ما يجري يترقبها الجميع هي سحب الاعتراف بدولة الاحتلال، وتبني المقاطعة، وتنشيطها على المستوى العربي والاقليمي، واستمرار التمسك برفض اي مسعى من اي دولة كانت لاقامة علاقات مع دولة الاحتلال ضمن مسار جديد يعاد فيه الاعتبار للقضية الوطنية، وحالة التحرر الوطني، ولن يكون الانكسار أمام موجة التطبيع العلني والسري باي حال من الاحوال .
** عضو المجلس الوطني الفلسطيني