في العام 1920، وبعد سنتين من انتهاء الحرب العالمية الأولى، التي فقد فيها الفرنسيون مليون وأربعمائة ألف جندي؛ اكتشفت الحكومة الفرنسية أن هناك الآلاف من جثث الجنود الذين لم تستطع وزارة الدفاع التعرف على هوياتهم، إما بسبب التشوهات، أو لعدم وجود أي أوراق أو مستندات تدل على هوية الجندي المقتول، أو أن عائلته قتلت في الحرب. وعليه قررت الحكومة أن تقوم بدفن مثل هؤلاء الجنود في مقبرة جماعية، على أن يتم دفن إحدى الجثث في ضريح دون أن يشار إليه بأي من الأسماء، وسمي الضريح باسم "قبر الجندي المجهول". واختارت فرنسا أن يكون موقع القبر عند قوس النصر وسط باريس. وخرجت عاصمة النور يوم 11 نوفمبر/ تشرين 2، عن بكرة أبيها لتحتفل بدفن جنديها المجهول الذي كتب على قبره:
- "هنا يرقد جندي فرنسي، ضحى بروحه فداءً للوطن 1914-1918".
وفي نفس اليوم، وفي احتفال وصف بالرسمي تم دفن "الجندي البريطاني المجهول" داخل كنيسة "ويستمنستر الملكية"، التي يدفن فيها ملوك وعظماء الإمبرطورية التي لم تكن الشمس تغيب عنها. وتم نقش الكلمات التالية:
- تحت هذا الحجر يرقد جثمان جندي بريطاني غير معروف اسمه ورتبته، أُحضِرَ الجثمان من فرنسا ليدفن مع عظماء هذه الأرض... (حوالي 100 كلمة).
ومن الجدير ذكره، أنه في العام 1923 تم وضع شعلة مضاءة فوق ضريح الجندي الفرنسي المجهول. وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية أضاف الحلفاء إلى الضريح درعا من البرونز وسيفا ناريا تخليدا لذكرى تحرير باريس من النازية. وبدأت الدول الأوروبية التي أضاعت أبناءها في تلك الحرب، تحذو حذو الفرنسيين وتقيم نصبا لجنودها الذين قتلوا وظلت جثثهم مجهولة الهوية في أهم وأجمل الأماكن وسط عواصمهم.
ومع أن الحرب العالمية الثانية ألقت بعشرات الآلاف من جثث الجنود الروس والسوفييت مجهولي الهوية، إلا أن القيادة السوفيتية ظلت بعيدة عن فكرة تكريم جنديها المجهول، بالمعنى الاستعراضي حتى نهاية العام 1966، عندما وصلت إلى موسكو يوم 3 كانون أول/ ديسمبر جثة جندي سوفيتي مجهول الهوية كان قد قُتِل عند "الكيلو 41" من حدود مدينة موسكو، أثناء المعارك التي جرت دفاعا عن المدينة، ليدفن في قبر يليق ببطولات أمثاله، عند أسوار الكرملين الغربية، في "حديقة الكسندر" الجميلة. ومع أن ذاك اليوم البارد تزامن مع الذكرى ال 25 لمعركة موسكو؛ إلا أن مئات السيارات العسكرية سارت أمام النعش الذي رفع على عربة مدفع. وخرج سكان المدينة عن بكرة أبيهم لوداع بطلهم المجهول وسط صمت رهيب، جعل صوت بكاء النساء والرجال يُسمعُ طوال الطريق حتى مثوى البطل الأخير الذي افتتح رسميا يوم 9 أيار 1967، في الذكرى ال 22 لاستسلام ألمانيا وسقوط برلين، ونقش على الضريح الكلمات التالية:-
الطريف ذكره أن زعيم الدولة السوفيتية آنذاك "ليونيد بريجنف"، تقدم إلى الضريح ليشعل من وسطه النار الخالدة، وما إن اقترب الرجل ووضع شعلته على فوهة فتحة الغاز، حتى هبت النار وأحدثت صوتا، كادت أن توقع بالرجل أرضا.
ما حدث عند بلدة "بيتا"، الواقعة جنوب نابلس قبل أيام، من تكريم بإعادة دفن لرفات جندي أردني "مجهول"، ظل مدفونا تحت شجرة تين طيلة 53 عاما، بعد أن أعدمته القوات الإسرائيلية التي احتلت الضفة الغربية عام 1967، رميا بالرصاص عند أطراف تلك البلدة، جعلني أتساءل وأقول:
- هل ما زالت هناك قبور مبعثرة في أنحاء الأراضي الفلسطينية لجنود وأبطال عرب أو فلسطينيين ما زالوا "مجهولين" ينتظرون منا التكريم؟
ترى ماذا عسانا أن نكتب بعد 53 عاما على الضريح أو الأضرحة التي أمامنا أو التي سنكتشفها والتي روت بدمائها أراضي كل فلسطين؟