أمر واحد لفت نظري أكثر من غيره وأنا أتابع الحفل الذي نقلته تقنية الفيديو من بيروت، هو أن الرئيس محمود عباس بصحة جسدية وذهنية جيدة سمحت له بإدارة اجتماع طويل جدا سمع فيه ما لا يحب أن يسمع.
وحسب معرفتي بالرئيس عباس، فإن صبره وسعة صدره سجلا قياسيا غير مسبوق في حياته السياسية، وأقدر أن تكراره لجملة "شكرا على هذه الكلمة الطيبة" جاءت مجرد مجاملة اضطرارية، فهو لا يحب تسعين بالمائة مما سمع، وإذا كان بوصفه المسؤول الأول عن الحالة الفلسطينية، هو من سيرعى تطبيق الأفكار والوفاء بالطلبات، فلا مغالاة لو قلت إنه يحتاج إلى ثلاثة أعمار فوق عمره كي يطبق بعضا مما سمع.
كانت كلمة عباس الأكثر واقعية والأدق تعبيرا عن موقفه، إذ أعلن أمام سدنة الحرب الفعليين حماس والجهاد، وسدنة الحروب الافتراضية ممن تبقوا أنه ما يزال عند نظريته الثابتة التي مهما تغيرت لهجته إلا أن مضمونها لن يتغير.
"أنا مع السلام، مع المقاومة السلمية، مع مرجعية دولية للمفاوضات وليس أمريكية منفردة"
أما ما قاله الآخرون غير ذلك فيفترض أنه دخل من الأذن اليمنى ليخرج من اليسرى، وكفى الفصائل مأثرة السمع الصبور لهم.
صديقي الآخر إسماعيل هنية..
كان بارعا كعادته في دهن كلامه بطبقة سميكة من الزبدة والعسل فقد منح الرئيس عباس كمّا هائلا من المجاملات والإطراء ولنقل هذه هي الزبدة، وطلب منه أن يعتمد المقاومة المسلحة إلى جانب السلمية وهذا ما لا يحب أبو مازن سماعه وحتى النقاش فيه، وكذلك ترداده لحكاية إبريق الزيت المتعلقة بالمنظمة، فهو يعلن أن حركته متمسكة بها كبيت جامع للفلسطينيين ذلك بعد إصلاحها وقد تستغرق الورشة المنوط بها هذه المهمة سنوات وسنوات ما دام من سيقوم بذلك لجان مشتركة قد تتشكل اليوم أو غدا ولكنها أيضا قد لا تعمل.
ولقد لفت انتباهي وأنا أشاطر الرئيس عباس فضيلة الصبر على سماع ما سمعته كثيرا من قبل، الكلمة المختصرة والمصاغة بعناية التي ألقاها زياد النخالة أمين عام حركة الجهاد الإسلامي، الذي التقيته مرة واحدة في القاهرة قبل عدة سنوات يوم التقيت بصديقي المغفور له رمضان شلح، كان لقاء طويلا خرجت منه بمعادلة حكمت تقويمي للراحل رمضان إلى ما لا نهاية… "كلما اختلفت معه زاد احترامي له".
ما بدأ به النخالة وما اختتم، كان بالجملة وبالتفصيل وبالسطور وما بينها عصي على أن تهضمه معدة عباس رجل المقاومة السلمية والمفاوضات وصاحب نظرية تعديل المرجعيات وليس إدارة الظهر للمفاوضات.
لقد تابعت الخطب بتركيز شديد لعلني أكتشف فيها جديدا لم أسمعه من قبل، فلم يكن في ما سمعت أي جديد سوى أن الحفل الساهر الذي نقلت التكنولوجيا الحديثة وقائعه من عاصمة المجد الغابر بيروت إلى عاصمة متاعب الحاضر رام الله، كان يشبه حفل تأبين تقال فيه أبلغ الخطب لتنسى بعد أن يعود كل خطيب إلى مكمنه في الدولة التي تستضيفه، ويظل من هم على الطرف الآخر من الكاميرا يكابدون كل يوم معضلة جديدة لا تحلها الكلمات مهما كانت بليغة، وموضوعيا نملك أن نقول إلى اللقاء في الحفل القادم.