بالرغم من ترحيبه باعتراف دول عربية بإسرائيل، وإقامة علاقات، وتوقيع اتفاقيات ثنائية معها ووصفه الأمر بأنه وعد "بالأمل بالمستقبل" إلا أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لم يخفي حقيقة راسخة لا أحد يمكنه تجاهلها تتمثل بانعدام إمكانية السلام والاستقرار في الشرق الأوسط قبل أن يحصل الفلسطينيون على حقوقهم، مؤكدا من على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها السنوية الخامسة والسبعين المنعقدة في نيويورك أن ما يجري لن يقود للسلام! وهل السلام في متناول اليد مع الانحدار المخيف، والسقوط الكبير في الحالة الدولية على ضوء رؤية البيت الأبيض باعتقاد الكثير من دول العالم فإن السلام المنشود أصبح بعيد المنال .
زعماء العالم الذين تناوبوا لإلقاء كلماتهم عبر التقنيات الحديثة، ولم يستطيعوا المشاركة بسبب جائحة "كورونا" أكدوا بدورهم أيضا على محورية القضية الفلسطينية باعتبارها لب وجوهر الصراع في المنطقة مع تفاوت يمكن تسجيله هنا وهناك بفضل المستجد المتمثل بهرولة بعض الدول لإقامة علاقات مع دولة الاحتلال على حساب الحقوق الفلسطينية، والإجماع العربي تلك الكلمات بضمنها كلمة الرئيس ماكرون الذي أشار فيها لمفردات جميلة إلا أنها بقيت عاجزة عن تغيير الواقع المؤلم المعاش فالهيمنة، والإذلال نقيض العدل، والكرامة ولا يمكن تعويض الإنسان، وجبر الضرر الواقع عليه بسهولة مع بقاء الأسباب التي قد تؤدي لعودتها أي الاحتلال، وإيضا هي معانٍ غير محسوسة لا يمكن مقايضتها بالمال تلك بعض الإشارات التي حملها الخطاب للرئيس ماكرون، وهذا موقف ليس بالجديد لفرنسا التي حملت العديد من مواقفها السابقة وقوفها لجانب الحقوق الفلسطينية ضمن إطار نظري عام لا يتعدى مواقف كلاسيكية تعودنا عليها من معظم دول القارة العجوز تحديدا الدول النافذة فيها بينما على أرض الواقع لا تغيير يذكر يمكن تسجيله لصالح الفلسطينيين الذين يرون أنهم باتوا وحدهم فعلا في مواجهة سياسات الضم باعتبارها إحدى ترجمات، وأوجه صفقة القرن التي تحاول القفز عن الحقوق المشروعة بل، وطمس القضية الفلسطينية، وإنهائها بالكامل.
وأن يلتقط ماكرون مسألة الحقوق بوصفها إحدى طرفي المعادلة، ونقيضها المال بالمقابل باعتباره الطرف الآخر لذات المعادلة التي لا تستقيم، وأن يحاول رسم معالم صورة لواقع مرير زاخر بالمعاناة ما زال يعيشها الشعب الفلسطيني يوميا مع تصاعد صنوف العذاب، والجرائم المتواصلة ضمن مخططات تكريس واقع الاستيطان الاستعماري، ونهب الأرض، وتطهير شعب باكمله عرقيا منها، هذه المعاناة مستمرة منذ 72 عاما يفترض أن يحاول العالم وضع رؤية لنهاية مغايرة لها بإنهاء معاناة الشعب الفلسطيني المتمثلة أولا بالاحتلال بكل أشكاله، وتحقيق حق تقرير المصير وفق الشرعية الدولية وقراراتها .
ولا يخفى على السيد ماكرون الذي يتوجب عليه الانتصار لمبادئ الثورة الفرنسية، وقيم العدالة ما قدمه الشعب الفلسطيني طوال سنوات طويلة بل عقود من المفاوضات التي صبت فقط في خدمة الاحتلال واستدامته بدل العمل على إنهائه، وهو أي ماكرون يعلم جيدا ما قدمه الشعب الفلسطيني من تنازلات في سبيل الوصول لحل ينهي الصراع في هذه المنطقة رغم اختلال موازين القوى لصالح دولة الاحتلال، وضعف الإرادة الدولية لتكون المحصلة في نهاية المطاف المزيد من الابتعاد عن فرص تحقيق السلام العادل، والدائم طالما لم يحصل الشعب الفلسطيني على حقوقه، وهو اليوم في ظل المشاريع المطروحة أحوج ما يكون لهذه الإرادة الدولية الحقيقية لإعادة تصحيح مسار طويل، وشائك من مفاوضات عبثية خذله العالم فيها، ولم يصحح الظلم التاريخي الواقع عليه - بل أصبحنا في وضع أكثر بعدا عن تحقيق أهدافه الوطنية وطموحاته في ظل الوضع على الأرض، ومع التحولات التي يشهدها الإقليم، والعالم، وتفرد الولايات المتحدة بزمام الأمور، وتحكمها بمعظم عناصر حل الصراع في المنطقة، ووقوف أوروبا والعالم موقف المتفرج أو المتذيل بالأحرى للموقف الأميركي، والموافق ضمنا على رؤيته للحل.
نحن نريد مفاوضات حاسمة نعم "حاسمة" والقيادة الفلسطينية مستعدة للشروع في مسار سياسي جديد لكن مغاير تماما عن السابق بوابته الشرعية الدولية، وليس صفقة ورؤية ترامب التي تكرس الهيمنة التي تناولها خطاب ماكرون، ونعم نريد مفاوضات حاسمة عبر مؤتمر دولي تحت مظلة الأمم المتحدة، وتوفير الحماية الدولية للشعب الفلسطيني من أجل تطبيق قرارات المنظمة الدولية، وليس السعي للعودة للتفاوض الثنائي المباشر من أجل التفاوض الذي أثبت فشله مرارا وتكرارا وهو الطريق الذي انتهى إلى غير رجعة ولا عودة إليه بعد قرارات القيادة الفلسطينية منتصف أيار الماضي، وبالاستناد لمجمل القرارات السابقة للمجلسين الوطني والمركزي لمنظمة التحرير، وبرأيي فإن حصر رؤية الحل وفق خطة ترمب نتنياهو لن يقود إلا للمزيد من التدهور، وعدم الاستقرار لأنها ببساطة تقوم على الهيمنة، والإذلال والعنصرية، الأمر الذي يتنافى مع منظومة الحقوق، والكرامة الإنسانية التي تناولها ماكرون الذي يحتم اليوم أكثر إيجاد إرادة دولية تتجاوز الحديث بوجهين، ونفاق سياسي للكيل بمكيالين ما بين الترحيب بصفقة القرن، واعتبارها منصة للحل، وما بين الحديث بذات الوقت عن حقوق الشعب الفلسطيني، وأهمية احترامها مسافات ساشعة من الألم والعذاب المتواصل لشعب يئن تحت وطأة أبشع احتلال في التاريخ المعاصر فالحقوق المشروعة هي النقيض لرؤية ترامب، واستبدال أسس الحل بصفقة القرن هو نفاق الهدف منه الوقوف في صف معاداة الشعوب في تقرير مصيرها، وخروج عن متطلبات الحد الأدنى لحل يؤمن الاستمرار والسلام.
نعم نريد حلا سياسيا للقضية الوطنية! ولكن للتذكير فإن فرنسا ديغول الحقوق، والمساواة، والعدالة التي يتزعمها السيد ماكرون اليوم لم تعترف حتى الآن بدولة فلسطين رغم محاولات أصوات في البرلمان، ورغم الحديث الجميل الذي نسمعه بين الفينة والأخرى وسط المراوحة في المكان لماذا لا نبدأ من هنا أي تصحيح المواقف بخطوات ملموسة؟ أم أن أوروبا لا تستطيع تجاوز سقف السياسية الأميركية!! نحن نحتاج لخطوات لإنصاف ولو جزء بسيط من ظلم متواصل لأوروبا وأطراف أخرى دور أساس فيه؟ لماذا لا يتم العمل فعلا على المباشرة بمراجعة، وإعادة النظر في اتفاقيات التجارة بين أوروبا، ودولة الاحتلال التي تنص بنودها على التزام دولة الاحتلال باحترام القانون الدولي مع إمعانها أي إسرائيل بانتهاك كل القوانين الدولية؟ ولماذا لا يتم وقف ملاحقة نشطاء حملات المقاطعة في فرنسا وغيرها من الدول الأوروبية في الوقت الذي نأمل فيه، والمطلوب العمل على تبني هذه الحملات بوصفها حقا مكفولا بالدستور الفرنسي ضمن حرية الرأي والتعبير؟ وليس شكلا من أشكال معاداة السامية كما تصفها الدوائر المقربة من الاحتلال، وهي "حملات المقاطعة" جزء من حركة التضامن الدولي مع حقوق الشعب الفلسطيني.
ننظر بالكثير من الاهتمام لموقف أوروبي تقوده فرنسا التي بإمكانها أن تلعب دورا هاما فيه يقوم على أساس الحقوق، والعدالة الدولية، وليس ذات المفردات الخاوية لذات السياسة العرجاء التي ثبتت فشلها فلا يمكن قبول المزاوجة بين غض الطرف عن جرائم الاحتلال، وخطاب دعم حقوق الفلسطينيين في الوقت نفسه، وهو أبدا لم يكن مجديا ولم يحقق أي فائدة سابقا ففرنسا التي تتدخل في الإقليم، وتحاول أن تحجز لها مقعدا على المسرح باعتبارها لاعبا أساسيا في الصراعات التي تشهدها المنطقة عبر تدخلات مباشرة وغير مباشرة، وتحاول ضمان مصالحها فيها بإمكانها أيضا أن تلعب دورا هاما في إطار رؤية دولية جديدة ونهج مغاير لخطة ترامب لحل الصراع تقوم على تمكين الشعب الفلسطيني من تقرير مصيره في إطار الشرعية الدولية، واحترام، وتطبيق قراراتها ذات العلاقة، وبالإمكان الضغط فعليا من خلال خطوات وازنة تجعل أيدي الاحتلال ليست مطلقة في مواصلة سياساتها- ما بين الذل، والأموال محطات التاريخ واضحة بأن الفلسطينين لم يقبلوا وهم لا يمكن أن يقبلوا هذه المرة أيضا إلا بالكرامة، والعدل وهم متمسكون بالسلام المنشود حتى يتحقق بعد استعادة حقوقهم المسلوبة غير القابلة للتصرف في وطن حر، وزوال الاحتلال انتصارا للعدالة، وقيم الحق فهل تقوى فرنسا على قيادة التوجه الدولي!! مع أطراف دولية أخرى روسيا الصين لبناء نهج مختلف يؤدي لإحقاق الحقوق.