قتلت الشرطة المصرية ثلاثة صيادين غزيين بعد يومين من إلقاء الرئيس السيسي خطابه أمام الجمعية العامة. إنها على ما يبدو قوة التطبيع التي قلصت الهم الفلسطيني وتفهته إلى حد أن الدم ذاته أصبح مباحا على نحو سافر.
يمكن القول إن السعودية هي من يهب القوة لحكم السيسي لفعل ما يشاء بالنظر إلى نبرة القوة الواضحة التي ميزت خطاب الملك السعودي في الجمعية العامة للأمم المتحدة. ولعلها المرة الأولى مرة في حياته السياسية التي توشك مع حياته البيولوجية على الانتهاء التي يتحدث فيها الملك سلمان بجرأة تامة ضد إيران داعياً إلى مواجهتها بالقوة ومنعها من حيازة السلاح النووي. أما حزب الله الذي يعيث فساداً في لبنان وسوريا والمنطقة كلها فلا بد من نزع سلاحه. من الواضح أن الملك يقف بعزم وإصرار ضد خطة الرئيس الفرنسي ماكرون لتشكيل حكومة في لبنان. ها هو لبنان "الغلبان" يدفع ثمن انتفاخ القوة السعودية في مواجهة القوة الفرنسية من جهة والتركية من جهة أخرى بفضل الدعم الإسرائيلي الضمني والصريح. ولقد وصلت الجرأة بالملك -أو من كتب له خطابه- حد القول إن انفجار مرفأ بيروت الشهر الماضي وقع "نتيجة هيمنة حزب الله الإرهابي التابع لإيران على اتخاذ القرار في لبنان بقوة السلاح".
ثم أردف بشجاعة إسرائيلية واضحة: "إن تحقيق ما يتطلع إليه الشعب اللبناني الشقيق من أمن واستقرار ورخاء يتطلب تجريد هذا الحزب الإرهابي من السلاح".
بعد ذلك جاء الكلام التكميلي المعتاد المفتقر للجدية والموجه للاستهلاك بخصوص محاولات التوسط في سلام بين إسرائيل والفلسطينيين. هنا أكد سلمان أن مبادرة السلام العربية لعام 2002 هي أساس "حل شامل وعادل" يضمن حصول الفلسطينيين على دولتهم المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية.
بالطبع تختلف "رؤية" قطر منذ أن أصبحت بلدا له مطامح إقليمية كبيرة عن رؤية السعودية. هنا نجد التوجه المهجن ما بين الرؤية التركية/الإخوانية وما بين النزعة الليبرالية/الخليجية التقليدية. هنا لا بد من الإصرار على مواجهة أكبر عدو للأمة الإسلامية الأخوانية ألا وهو النظام السوري الذي تكبدت خزينة الدولة مئات المليارات من الدولارات من أجل إسقاطه. كان الحلم أن تصبح دمشق والقاهرة -من قبلها- أفلاكا عثمانية تديرها قطر بالنيابة عن السلطان المنشغل بالكثير من الملفات الكونية.
في هذا السياق بدأ الأمير تميم بحديث عابر عن الحق الفلسطيني في دولة، لكن الأهم بالطبع هو سوريا. فقد "أصبحت مأساة الشعب السوري واستمرار معاناته فضيحة كبرى وعارا على الإنسانية. إن ما يزيد هذه الكارثة الإنسانية خطورة هو غياب رؤية واضحة لحلها مع استمرار أعمال القتل والتدمير والتشريد وتجاهلها دوليا.
ندرك جميعا أن المسؤولية الأساسية عن الإخفاق في فرض الحل السياسي الذي نفضله جميعا في سوريا يعود أساسا إلى عجز مجلس الأمن والدول الكبرى عن حماية المدنيين، واتخاذ القرار اللازم لوقف إراقة الدماء ناهيك عن استمرار تعنت النظام السوري، ورفضه لكافة المبادرات الإقليمية والدولية في ظل تخلف الدول الكبرى عن القيام بواجب ردعه بالقوة.
قضية فلسطين أسهل بالطبع: "هناك إجماع دولي على عدالة قضية فلسطين، وعلى الرغم من هذا الإجماع يقف المجتمع الدولي عاجزا ولا يتخذ أية خطوات فعالة في مواجهة التعنت الإسرائيلي والاستمرار في احتلال الأراضي الفلسطينية والعربية إلى جانب فرض حصار خانق على قطاع غزة، والتوسع المستمر في سياسة الاستيطان، وفرض سياسة الأمر الواقع، وذلك في انتهاك فاضح لقرارات الشرعية الدولية، وحل الدولتين الذي توافق عليه المجتمع الدولي".
بالطبع يعرف الأمير الشاب الكليشهات الشائعة التي لا بد من قولها كلما ذكرت القضية الفلسطينية دون أن يكلف ذلك أكثر من "فكة" تدفعها قطر لغزة بمباركة إسرائيل. إذن "السلام العادل والمنشود لا يمكن تحقيقه إلا من خلال التزام إسرائيل التام بمرجعيات وقرارات الشرعية الدولية والتي قبلها العرب وتقوم عليها مبادرة السلام العربية"، متهما إسرائيل بمحاولة "الالتفاف عليها والتصرف كأن قضية فلسطين غير موجودة".
واعتبر الأمير أن "أية ترتيبات لا تستند إلى هذه المرجعيات لا تحقق السلام ولو سميت سلاما، وقد تكون لها غايات أخرى غير الحل العادل لقضية فلسطين، وغير تحقيق السلام الشامل والعادل والدائم".
وأشار أيضاً إلى أن "بقاء قضية فلسطين من دون حل عادل واستمرار إسرائيل بالاستيطان وخلق الوقائع على الأرض دون رادع، يضع أكبر علامة سؤال على مصداقية المجتمع الدولي ومؤسساته".
إذن منطقياً لا بد من دعوة المجتمع الدولي وخاصة مجلس الأمن إلى "القيام بمسؤوليته القانونية وإلزام إسرائيل بفك الحصار عن قطاع غزة وإعادة عملية السلام إلى مسارها من خلال مفاوضات ذات مصداقية، بحيث تقوم على القرارات الدولية وليس على القوة، وتتناول جميع قضايا الوضع النهائي، وإنهاء الاحتلال خلال مدة زمنية محددة وإقامة دولة فلسطين المستقلة على حدود عام 1967 . انتهى العرض. وبهذا الشكل ننهي هذه الجولة من الألعاب المعتادة المتصلة بقضية فلسطين.
يمكن أن نلاحظ بسهولة أن الكلام الذي صدر عن ملك السعودية وأمير الكويت ورئيس مصر وأمير قطر متشابه تماما إلى حد التماثل. وهو عبارة عن بلاغة لغوية مستعملة منذ ثلاثة عقود على نحو رائج في الإعلام والمحافل السياسية على السواء. وهناك كلام عام حول دعم القضية الفلسطينية وفق مبادرة السلام العربية 2002 ووفق الشرعية الدولية. من هنا لم يكن مفاجئاً قول مساعد وزير الخارجية الأمريكية لشؤون الخليج العربي، تيموثي لاندركينغ، إن واشنطن تعتقد أن بإمكانها إقناع قطر بالتفاهم مع إسرائيل، مشيرا إلى أن الحكومة القطرية لها سجل طويل في التعامل مع الجانب الإسرائيلي. هذا السجل الذي تحدث عنه لاندركينغ هو الذي يمكن المبعوث القطري إلى غزة السفير العمادي من الدخول والخروج محملا بالحقائب المليئة بالدولارات ليتم توزيعها عينيا على الأصدقاء في حركة المقاومة الإسلامية حماس.
أما النظام المصري القوي حد قتل الصيادين المشار إليه أعلاه فإن همومه تتركز حول ملف السد وملف ليبيا أولا وثانيا وثالثا، فلسطين بالنسبة له قضية يمكن "الدردشة" بخصوصها بدون عصبية ولا انفعال:
"إن كنا ننشد حقا تنفيذ القرارات الدولية.. وتحقيق السلام والأمن الدائمين فى منطقة الشرق الأوسط فليس أحق بالاهتمام من قضية فلسطين التى مازال شعبها يتطلع لأبسط الحقوق الإنسانية وهو العيش فى دولته المستقلة جنبا إلى جنب مع باقى دول المنطقة.
لقد استنزف الوصول إلى هذا الحق أجيالا واستنفد العديد من القرارات إلى حد بات يثقل الضمير الإنسانى. ولا سبيل للتخلص من هذا العبء وفتح آفاق السلام والتعاون والعيش المشترك إلا بتحقيق الطموحات المشروعة للشعب الفلسطينى فى إقامة دولته المستقلة.. وعاصمتها القدس الشرقية لكى يعم السلام والأمن كل شعوب المنطقة.
إن على المجتمع الدولى تفعيل التزامه بتحقيق السلام..
والتصدى للإجراءات التى تقتطع الأرض
من تحت أقدام الفلسطينيين وتقوض أسس التسوية ... التي تبنتها القرارات الدولية وقامت عليها عملية السلام والتى بادرت إليها مصر سعيا إلى تحقيق السلام الشامل والعادل والدائم".
في مواجهة صيغة المبني للمجهول التي تميز كلام السيسي حول فلسطين ماذا كان بوسع قيادة السلطة الفلسطينية أن تقول؟
الالتزام من جديد بالمفاوضات أو البحث عن المفاوضات بغرض الوصول إلى تسوية تضمن الدولة الفلسطينية مع المطالبة بمؤتمر دولي يهدف إلى "إنهاء الاحتلال الإسرائيلي ونيل الشعب الفلسطيني حريته واستقلاله" الفعلي خلافاً لخطة الرئيس ترامب التي "رفضناها ورفضها معنا العالم أجمع، لمخالفتها قرارات الشرعية الدولية". لكن رئيس السلطة الفلسطينية لم يقدم بدوره إلا الاقتراحات المعروفة منذ سنوات. وعلى الرغم من لقاء الأمناء العامين، فإن مرجعية السياسة الفلسطينية ظلت هي هي. وهكذا دعا أبو مازن "أن يشرع الأمين العام للأمم المتحدة، بالتعاون مع الرباعية الدولية ومجلس الأمن في ترتيبات عقد مؤتمر دولي كامل الصلاحيات، وبمشاركة الأطراف المعنية كافة، ابتداء من مطلع العام المقبل"، مشيراً إلى أن "الهدف هو الانخراط في عملية سلام حقيقية على أساس القانون الدولي والشرعية الدولية والمرجعيات المحددة، وبما يؤدي إلى إنهاء الاحتلال ونيل الشعب الفلسطيني حريته واستقلاله في دولته بعاصمتها القدس الشرقية على حدود العام 1967". بالطبع هذه الأطراف التي يشير إليها الرئيس عباس هي أطراف رمزية لا قدرة لها على الفعل. ذلك أن مفاتيح الحق الفلسطيني أيا كان تعريفه تتمثل في إسرائيل أولا وأمريكا ثانيا. ولا بد أن أبومازن نفسه يدرك ضآلة الفرص المتاحة وهو يندد بالعلاقات الجديدة بين إسرائيل والبحرين والإمارات وما تحمله من نذر شبه مؤكد لعلاقات أخرى مع السودان وعمان والسعودية ودول أخرى.
هنا لا بد من الوصفة الفلسطينية المنتشرة الآن على نطاق واسع: التنديد بإسرائيل بسبب انتهاكها للاتفاقيات والقواعد والمعاهدات ومواثيق حقوق الإنسان ...الخ. أكد أبومازن أن "إسرائيل تنصلت من الاتفاقيات الموقعة معها كلها، وقوضت حل الدولتين من خلال ممارساتها العدوانية من قتل، واعتقالات، وتدمير للمنازل، وخنق للاقتصاد، وانتهاك لمدينة القدس المحتلة، وعمل ممنهج لتغيير طابعها وهويتها واعتداء على مقدساتها الإسلامية والمسيحية إضافة إلى عملها الآن على قتل آخر فرصة للسلام من خلال إجراءات أحادية هوجاء."
وإذا كان الختام هو زبدة القول حقاً، فإنها زبدة حامضة تماما تمثلت في انتقاد السلام الخليجي مع إسرائيل بسبب أنه يخالف مبادرة السلام العربية وأسس الحل الشامل باتباع وصفات القانون الدولي.
لكن ماذا يستطيع أبومازن أن يقول بعد أن ازداد الموقف الإسرائيلي قوة فوق قوة بحكم انحياز الخليج ومصر إليه على نحو سافر ومكشوف؟ وماذا يستطيع أن يقول وهو يعلم أن المحور القطري/التركي يتربص به ليختطف منه الأضواء ويهديها لحماس، بينما يتربص به معسكر الإمارات/السعودية ليأخذ زعامة السلطة كلها ويهديها لدحلان؟
بالطبع ليس هناك من مخارج واقعية لهذه المعضلة، ولا بد أن أي كلام عن الانحياز لمعسكر سوريا والمقاومة وإيران هو كلام خارج التاريخ بالنسبة لرام الله وغزة على السواء.