يبدو أن قطار التطبيع الذي ركبته الإمارات العربية المتحدة مع الكيان الصهيوني وتلتها فيه مملكة البحرين قد فقد قوة الدفع وتوقف في استراحة قد تطول في انتظار ركاب إضافيين بفعل صحوة شعبية عربية عارمة ورسمية في عدد لا بأس به من الأقطار العربية، وموقف فلسطيني غاية في الوضوح عندما وصف خطوات التطبيع بالخيانة لفلسطين والقدس والمسجد الأقصى الذي باركنا حوله، ولآمال وتطلعات الأمة العربية في التحرر من نير التبعية لاستعمار الولايات المتحدة والخضوع لإملاءات المحتل الصهيوني الطامع في السيادة على المنطقة.
قطار التطبيع بدأ برئيس دولة الإمارات ثم بملك البحرين وبشر دونالد ترامب وبنيامين نتنياهو بأن دولتين أو ثلاثة ستلتحقان بالركب ثم رفع سقف التوقعات إلى سبع دول وهلل ترامب وتابعه نتنياهو ولا أدري من هو تابع للآخر على الحقيقة للخرق الذي أحدثاه في الجسد العربي والإسلامي والأفريقي، واستعجلا الاحتفال بتوقيع الاتفاق في البيت الأبيض، واختارا يوما لا ينسى في تاريخ الإجرام الصهيوني وعملاء الكيان الصهيوني هو الذكرى الثامنة والثلاثون لمجزرة صبرا وشاتيلا التي ارتكبها الجيش الصهيوني وعملاؤه ضد المدنيين العزل في مخيمي صبرا وشاتيلا في بيروت فقتلوا النساء وبقروا بطون الحوامل وأعدموا كبار السن ونكلوا الأبرياء العزل لثلاثة أيام متتالية حتى افتضح أمرهم وضج العالم من هول الجريمة التي تستظل تلاحق الكيان الصهيوني وقادته حتى تتحقق العدالة لضحايا الشعب الفلسطيني واللبناني يوما ما.
حفل التوقيع على اتفاق التطبيق الذي أعده ترامب كحملة انتخابية له كان باهتا ومفتعلا وقول الأسئلة الصريحة متى كانت هناك حرب بين الإمارات والكيان الصهيوني حتى يوقعا اتفاقية سلام وتطبيع وأين هي الحرب بين ملك البحرين ونتنياهو حتى أن وزير خارجية ملك البحرين لم يجد وثيقة ليوقع عليها ثم إن الإهانات والتعالي الذي أبداه ترامب ونتنياهو على عبدالله بن زايد الحائر والتائه وتابعه أثناء مراسم التوقيع أخجلت حاكمي الإمارات والبحرين الناجيين من الفضيحة المباشرة والاحتقار بعدم حضورهما شخصيا لتلك المراسم ولعلهما توقعا حصول هذا الأمر فأحجما عن الحضور لكن الراجح أن ردة الفعل الفلسطينية والشعبية العربية الرافض والمندد بخطوتي التطبيع الإماراتية والبحرينية وتدحرج الرفض الشعبي في كلا البلدين العربيين "فرمل" اندفاعهما في إرضاء نزوات ترامب ونتنياهو في سعيهما لحل مشاكلهما المتراكمة بمسرحية التطبيع.
نعتقد أن حاكم الإمارات وملك البحرين أدركا أنهما وقعا في فخ ترامب قبل أن يدركا أخطار الخطوة التي أقدما عليها على دولتيهما ونظامي الحكم العائلي فيهما لكنهما انساقا وراء عظمة فارغة وتضليل ممنهج ووعود أمريكية وإسرائيلية بالحماية والأمن والرفاهية.
وأحيط هؤلاء الحكام بزمرة أو بطانة من المستشارين والنخب السياسية والمثقفين والمرتزقة فسولوا لهم أنهم يدخلون التاريخ من أوسع أبوابه ويصنعون تاريخا للشرق الأوسط يجتمع فيه المال الخليجي مع الخبرات العلمية في الكيان الصهيوني وأنسوهم واقعهم وتاريخ منطقتهم وجغرافيتها ودولها المركزية.
لم تتوقف هذه البطانة عن التغرير بحاكمي الإمارات والبحرين وغيرهما من حكام الدول العربية والتدنيس على الشعب العربي بدعوى الواقعية وأن إسرائيل أمر واقع، وينكرون على الشعب الفلسطيني حقه في وطنه تحت مقولة أن الحق لا قيمة له ما لم تسنده قوة وكأن نضال الشعب الفلسطيني المتواصل منذ مئة عام وآلاف الشهداء والجرحى والأسرى ليس تعبيرا وتجسيدا لقوة وإرادة شعب فلسطين في الدفاع عن حقوقه واسترداد أرضه وكأن أيضا القوة الكامنة في الأمة العربية وشعوبها وبعض دولها لا أثر لها ولا تدخل في مواجهة المشروع الصهيوني الذي نراه للوهلة الأولى يتمدد ويكاد يرسي شراعه على شواطئ الخليج وشمال سوريا والعراق وجنوب السودان ومنابع النيل.
وليست محاولة إلقاء اللوم على الشعب الفلسطيني وقيادته والتذرع بالانقسام وتحميله المسؤولية عن انقضاض العرب عن دعم القضية الفلسطينية سوى محاولة من بعض مثقفي السلطان لتبرير هروب الحكام العرب من واجبهم القومي والسير في طريق التطبيع المشين مع المحتل الصهيوني وخضوعهم لقرار واشنطن، فالانقسام وإن كنا لا نبرره أبدا بل ندينه وندعوا بإلحاح إلى معالجة آثاره على الوحدة الوطنية الفلسطينية التي طبعت مسيرة النضال الوطني الفلسطيني، لم يؤثر على مقاومة الشعب الفلسطيني للاحتلال بشكليه العسكري أو السياسي إذا نظرنا إلى ما تحقق خلال سنوات الانقسام المشؤومة بشكل مجرد وعملي.
فقد تطورت القدرات القتالية لفصائل المقاومة وشكلت رادعا لاعتداءات العدو المحتل من جهة وتعزيز مكانة فلسطين سياسيا ودبلوماسيا وقانونيا من جهة أخرى، وظل التأييد الدولي لحقوق الشعب الفلسطيني في تعاظم وتمكين من مواجهة صفقة القرن ومحاولات الضم وفرض السيادة الإسرائيلية وهو اليوم يواجه الخرق الصهيوني الأمريكي للجسد العربي المتمثل بالتطبيع الإماراتي البحريني مع الكيان الصهيوني كما يواجه رمزه من المثقفين المطبعين الذين يحاولون تزييف وعي الأمة بتصوير المحتل الغاصب لأرض فلسطين كصديق في المنطقة وشريك اقتصادي وحليف عسكري وتكنولوجي يجلب الرفاهية للمنطقة وشعوبها.
ثمة دور مميز ومطلوب للمثقف العربي في التصدي لتلويث الوعي العربي لكن بعضا منهم باتوا يسجنون في عالم الأسرلة والمال وهم قلة قليلة ولكنها مقززة لكن عندما يرى الحاكم العربي نفسه أنه الوطن والشعب ويتساوق معه المثقف لمنفعة شخصية هنا يتم تضليل الشعب وتغييب وعيه وقلب أولوياته ومن ثم الاستخفاف به واستعباده وتجريده من كل قيمة، ألم يقل فرعون حاكم مصر لشعبه كما ورد في القرآن الكريم "ما علمت لكم من إله غيري" وهذا للأسف ما يقوله حكام العرب منذ فرعون وإلى اليوم وغدا، ولم يعطي القرآن الكريم عذرا للشعب عندما صور العلاقة بين الحاكم والمحكوم وتخلى المحكوم عن حقوقه وخضوعه لإرادة الحاكم المطلقة بقوله تعالى "فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين"، وإذا عدنا لأعذار المثقفين الذين يتشبهون بمفتي السلطان ويلقون كل اللوم على الفلسطينيين منذ النكبة إلى اليوم ويتهمونهم ببيع أرضهم والتكسب من قضيتهم ومناضلي الفنادق والفاسدين والمنقسمين على أنفسهم كل ذلك يأتي خدمة لحاكم يخشون سطوته أو طمعا في ماله أو حرصا على علاقات حاكم بلده بدولة ممولة رغم وضوح الخيانة والتخلي عن قضايا الأمة والمشاركة في حصار الشعب الفلسطيني مع الاحتلال الإسرائيلي بإغلاق الحدود وتقييد حركة المواطن الفلسطيني أو بقطع المساعدات المالية عنه.
لم يسلم الشعب الفلسطيني وقيادته من تجريح هذه الزمرة الفاسدة من المثقفين عندما وقع المغدور أنور السادات اتفاقية كامب ديفيد أو عندما تختلف القيادة الفلسطينية مع أي نظام عربي يحاول المس بالقضية الفلسطينية وقدسية الثورة الفلسطينية ومحاولة احتواء القرار الفلسطيني ويتكرر المشهد اليوم مع زمرة ضالة من الصحفيين والسياسيين في الإمارات وأماكن أخرى من العالم العربي يطبلون ويزمرون للتطبيع والتبعية للكيان الصهيوني ويبررون لأولياء النعمة خيانتهم لدينهم وتاريخهم وقوميتهم وأوطانهم وشعوبهم.
"الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات فمن وقع في الشبهات وقع في الحرام"، حديث صريح للرسول عليه السلام، وهؤلاء المدافعون عن التطبيع بعضهم يدخل باب الحرام دون مواربة فينحازون للحاكم وتغدو الأمة العربية والإسلامية وأخرون يسلكون طريق الشبهات بدعوى الواقعية وطاعة ولي الأمر وعدم المس بقادة الدول العربية وعدم الفصل بين الحاكم وشعبه كما أسلفنا، وهم للأسف يقعون في الحرام عن إدراك، ولا أعني بالحرام أنهم سيعذبون على أفعالهم في الآخرة فقط ولكن يقعون في خانة العملاء للمحتل والخونة لكل القيم الإنسانية وحق الشعب العربي الفلسطيني في وطنه ويجب عزلهم ومقاطعتهم والتشهير بخيانتهم.
الشعب العربي يدرك متى يكون الحاكم حريصا على مصالح شعبه وأمته التي ينتمي إليها ومتى يكون عميلا للخارج مفرّطا بمصالح شعبه وأمته، ولا نخال أحدا لا يدرك الموقف الرسمي والشعبي المنسجم الذي اتخذته الكويت في رفض التطبيع مع الكيان الصهيوني والحرص على حقوق الشعب الفلسطيني الثابتة ومركزية القضية الفلسطينية، هذا الموقف لم يتزعزع ولم يتغير مع الظروف والأحوال المتغيرات التي شهدتها المنطقة منذ أكثر من نصف قرن.
والأمر نفسه يمكن قوله عن موقف الجزائر شعبا وحكاما وأحزابا وكذلك تونس والعراق وسوريا واليمن والمغرب
ومواقف كتلك التي اتخذتها الكويت والجزائر وتونس من التطبيع إضافة إلى موقف القيادة الفلسطينية والشعب الفلسطيني في تخوين التطبيع دون مواربة ربما يساهم في وقف الانهيار العربي الرسمي ولحم المطبلين والمزمرين للتطبيع، فالدول السبع أو الثماني التي بشر بانضمامها ترامب لمسيرة المطبعين باتت تعيد حساباتها في حدوى التطبيع مع المحتل الإسرائيلي وهل حقا تستطيع إسرائيل تأمين الحماية للأنظمة من غضب شعوبهم وتوفير الرفاهية لهذه الدول كما تدعي وباتت في حيرة من أمرها، وهل تسير في خط التطبيع الإماراتي البحريني أم تتوقف بانتظار نتائج الانتخابات وما يطرأ على السياسة الأمريكية من تغييرات في العالم وخاصة في الشرق الأوسط، وما هو الثمن الذي ستدفعه الدول المطبعة مع الاحتلال في حال تركت لمصيرها وهو أمر متوقع ذلك أن خطوات التطبيع والتسارع الذي تشهده جاء لخدمة هدف انتخابي أمريكي استخدمت فيه الإمارات والبحرين وهما دولتان تتمتعان بالأمن والاستقرار والرفاهية أكثر من الولايات المتحدة وإسرائيل ولم تجلب لهم خطوة التطبيع غير عدم الاستقرار وفقدان الأمن والهيبة والمحبة التي كان الشعب العربي يكنها لدول الخليج وبخاصة لشعب الخليج الطيب المعطاء القومي والمسلم النقي. خمسة أو ستة أسابيع سيمارس ترامب فيها مختلف الضغوط على عدد من الدول العربية والإسلامية والأفريقية لتلحق بقطار التطبيع، ليس من أجل أمن ورفاهية هذه الدول ولكن من أجل الوصول إلى البيت الأبيض، فهل يركب هؤلاء الحكام قطار ترامب أم ينتظرون القطار التالي فلربما كان أكثر أمنا ورفاهية بغض النظر عن قائده.