ما هي كلمة السر التي كرّست فتح كقيادة لا تنافس في المشروع الوطني الفلسطيني أثناء حقبة المنفى الطويل، ثم ما هي كلمة السر في أن حركة حماس نافست فتح وتغلبت عليها انتخابيا في المكان الذي هيّأته فتح لنفسها كحالة انتقالية تفضي لو سارت الأمور كما كان مقدرا لها إلى دولة.
ثم ما هي كلمة السر التي جعلت الفصائل فعّالة في المنفى وأقل فاعلية على أرض الوطن، مع أن المنطق السليم يقول العكس.
أبدأ بفتح... كلمة سرها أنها لم تتعامل مع نفسها ومع الآخرين كفصيل أو حزب؛ بل كتيار شعبي تعددي ضمّ في إطاره الفضفاض كل الاجتهادات الفكرية التي كانت سائدة في منتصف وأواخر القرن الماضي، كان فيها إخوان مسلمون، حتى أنهم لكثرتهم كادوا يختمون الحركة الوطنية بطابع إسلامي، وكان فيها ماركسيون لينينيون، قسم منهم انتحل الولاء للاتحاد السوفياتي وقسم آخر انتحل ولاء للصين، مع أن الحقيقة قالت في حينه إن الدولتين العظميين لم تأبهان بمن انتحلهما وقدم نفسه على أنه حليف لهما، وكان في فتح تيار قومي رموزه بعثيون سابقون كان عمدتهم فاروق القدومي الذي وصل إلى أعلى المراتب الفتحاوية والفلسطينية متخليا عن ولائه التنظيمي لحزبه ولكنه لم يتخلى عن جذوره الفكرية.
هكذا كانت فتح منذ البداية، إذا فهي تيار شعبي تلتقي كل الاجتهادات حتى المتعارضة منها تحت اسمها الذي كان مفتوحا على جهات الأرض الأربعة.
أما حماس التي نشأت بينما كانت فتح في منتصف العمر، فقدمت نفسها منذ البداية على أنها قيادة التيار الإسلامي الذي فشل الإخوان المسلمون والتحريريون من جعله قطبا في الثورة الفلسطينية المعاصرة، فجاءت حماس لتسد هذه الثغرة وتطرح إلى جانب الفكر الإسلامي اجتهاد ثورة وطنية.
إذا حماس والحالة هذه ليست مجرد حزب مؤطر ومنغلق على أدبياته، بل طورت أمرها لتكون تيارا شعبيا وثوريا ووطنيا اعتنق المقاومة المسلحة، واستقطب كثيرين من غير الإسلاميين في هذا الاتجاه، وحين يتحول أي تشكيل إلى تيار شعبي فهذه هي الوصفة المضمونة لإطالة العمر في قيادة السلطة أو المعارضة.
أما الفصائل التي ولدت من أحشاء أحزاب يسارية أو قومية، فقد حصلت على شرعية بالغة القوة والديمومة من خلال شرعية البندقية وفعلها الوطني التحرري، غير أنها لم تستطع إثبات حضورها الجماهيري كمنافس لفتح في حقبة الثورة المسلحة، مع أن فرصها الموضوعية في ذلك كانت متوفرة وخصوصا للجبهة الشعبية التي كانت القطب الآخر في مكونات الثورة الفلسطينية.
وبتوالد طبيعي أو تلقائي، نشأت فصائل صغيرة وتمكنت من العيش على شرعية البندقية والفراغات التي كانت تنشأ بين الكبار.
هذه هي الخريطة بألوانها الطبيعية، وحين يثور السؤال لماذا انقلبت الأمور رأسا على عقب حين عادت فتح والفصائل إلى أرض الوطن؟
في نقدها لذاتها والذي نادرا ما يحدث؛ اعترفت فتح بأن اندماجها المطلق في شؤون السلطة المستجدة أثّر كثيرا على تفردها في التفوق القيادي الذي كان في زمن المنفى.
أما حماس، فقد كانت عارفة بقانون الحياة الذي منح للإسلام السياسي فرصة حياة ونمو، وفرها الفشل المتعدد للأممية السياسية التي انهارت بانهيار الاتحاد السوفييتي والقومية السياسية التي تلاشت في غياب رمزها الأكثر سطوعا في حينه جمال عبد الناصر.
الساحة الفلسطينية الضيقة وقليلة عدد السكان وكثيرة الاجتهادات والتوجهات والأجندات، كونها استثمار سياسي مغرٍ لمن هم في داخلها أو في محيطها، دفعت أثمانا باهظة لأمرين لم تحسن قيادات العمل الوطني استثمارهما إيجابا، الأول تأثير الأجندات المحيطة المتصارعة على الحياة السياسية الفلسطينية بما يخدم أصحاب الأجندات أكثر بكثير مما يخدم القضية الوطنية، والثاني عدم تطور القوى ذاتيا واعتمادها على صيغة " الكوتا" التي تمنحها مزايا دون جهد يذكر، لهذا فإن ما نعانيه الآن من عصف لهذه المؤثرات الخارجية والداخلية سوف يتواصل ولا خلاص منه إلا بارتداد من كل القوى والفصائل إلى الوطنية الفلسطينية التي هي الضمانة من أن لا تذوب الحياة السياسية في الاستقطابات المسيطرة على المحيط كله.