في زمن العولمة والرقمنة، أطلت علينا التكنولوجيا المالية بأنماط جديدة غيرت الكثير من العادات المالية الروتينية التي نعيش. اجتماعياً ومنذ ثورة الـ dot-com سواء من خلال مواقع الإنترنت أو الجيل الثالث وما بعده، أصبح العالم بمتناول أيدينا، صغيرنا وكبيرنا على حد سواء، وأصبح الذكاء الاصطناعي الصديق الوفي الذي يعرف جميع أنماط حياتنا، ما نحب وما لا نحب. عرّضنا أنفسنا طوعاً للمنصات العالمية المربوطة "بإنترنت الأشياء"، وبنفس السياق أصبحنا مستقلين كأفراد كل في عالمه الخاص المتاح بين يديه 24/7 بفضل تغطية الإنترنت (75% تقريبا في فلسطين). واستمرت الثورة الرقمية إلى حد استشعار الحاجة للخدمات المالية من خلال هذا التطور، فاليوم يوجد ما لا يقل عن 3000 موقع تسوق / تجارة عبر الإنترنت / التواصل الاجتماعي وهي أداة أعطت للجميع الحق بفتح المتاجر الإلكترونية والبيع والربح بالأخص للنساء ومن هم ضمن تعريف البطالة، فهذا اجتهاد شخصي يجب تشجيعه أفقيا وتوفير بيئة مالية حاضنة وضامنة لحقوق جميع أطرافه.
وإذا ما طبقنا التسلسل الهرمي للفضول لدى الإنسان، سنرى أن قوة الطلب -على ما هو جديد- تأتي من أكبر شريحة في فلسطين وهي فئة الشباب الذين ازدادت حاجاتهم وتنوعت، حيث بدأوا يطالبون بخدمات مالية بدون عناء الوصول إلى المؤسسات المالية، فقد استطاع الذكاء الاصطناعي من الوصول إلينا.. وهنا يكمن أول مفترق طرق بالغ الأهمية في الثورة الرقمية، فهذا التحول الكبير في الخدمات المالية والمصرفية يستشعره من يسمع نبض السوق ويدرس نمط سلوكه. وبالطبع النقيض هو من قرر البقاء خارج معادلة تسخير التكنولوجيا المالية كأداة لرفع الحصة السوقية والتي فعلا أخافت من هم ضد التغيير، أخافتهم بسلاسة وسرعة فهمها من فئة كانت لوقت طويل في الصفوف الخلفية وهم الشباب، فبدلا من اعتمادها، أصر البعض على تجنبها والتوسع بالتفرع والتعيين وموازنات مصاريف رأسمالية اّلت بالنهاية إلى ارتفاع تكلفة الأعمال وتناسبها العكسي مع الربحية وعليه الحصة السوقية بالطبع.
سأتحدث هنا عن واقعنا الفلسطيني وحاجة انتقالنا بمفهوم المال وعملته من النقد الورقي إلى النقد الرقمي. من مال في الجيب أو المحفظة إلى رصيد لدى البنك أو لدى جهة اّمنة أخرى. فبالمعدل اليومي؛ 3.5 من بين كل 10 أفراد من الشعب الفلسطيني يحصلون بطريقة أو بأخرى على الخدمات المالية سواء أكان ذلك على شكل حساب بنكي، أو تعامل مع شركة تأمين، أو شركة إقراض متخصصة أو شركة تأجير تمويلي، فجميعها مجتمعة شكلت في نهاية عام 2018 ما نسبته 35% مما يسمى الشمول المالي وهي نسبة جيدة إذا ما قورنت بالمحيط العربي، ولكنها أقل من طموحنا الوطني للوصول بالنسبة إلى 50% في العام 2023.
اليوم وبعد سنتين من إقرار الاستراتيجية أعلاه والالتزام بمؤشرات أداء رئيسة ( KPIs ) لتطبيق هذه الاستراتيجية، ماذا نرى على الأرض؟ هل ازدادت نسبة الشمول المالي؟ ماذا فعل المشرع؟ هل فتح السوق للإبداع أم وضع الضوابط لتفادي الانحراف بالخطأ؟ كلاها مدارس لها ما لها وعليها ما عليها، فمنحنى التعلم "العالمي" واضح بخصوص التشريع والتشجيع. وبالنتيجة فما زال الجزء الأكبر من الموظفين يقوم بسحب الراتب نقدا من خلال 550 صراف اّلي لتسديد المشتريات / والمدفوعات نقدا، وبقية (غالبية) الموظفين والعاملين منا تتعامل بالمال النقدي دون الحاجة إلى المصارف، وهذا هو تحدينا الأكبر في الشمول المالي، لا سيما وأنه يؤثر طرديا على الاستقرار المالي وهو خط أحمر. نحن نتعامل بعملة ليست عملتنا ولا نسيطر على إصدارها بل تداولها وهذه فرصة أيضا للإبداع ، هنا تكمن المشكلة بغياب الإرشاد بالبديل الاّمن أولا والتعود على النمط الجديد ثانيا. تقول الاستراتيجية الوطنية للشمول المالي إن نسبة الإقصاء المالي (غير المتعاملين لأسباب عدة) هي 65% كما في تموز من عام 2018 . والرؤية هي الوصول إلى هذه شريحة المهمشة ودمجها بالنظام المالي. سؤالي هنا: إن أكثر من 25 عاما من الاستثمار بالخدمات المالية الكلاسيكية "المصارف" قد أفضت إلى نسبة شمول تصل إلى 35%، فهل من شك بأن الحل سيكون غير كلاسيكي؟! بالطبع لا وإلا لم تكن هناك استراتيجية تقول بأن الشمول المالي ليس من مسؤولية المصارف فقط وأنه يجب تشجيع خدمات الدفع الإلكتروني والإقراض المتخصص ومتناهي الصغر وأدوات التأمين التكنولوجي Insure-Tech وغيرها من أدوات التكنولوجيا المالية الرافعة لنسبة الشمول المالي.
لقد كان لإقرار نظام المدفوعات في العام 2007 أثر كبير في أتمتة الحركات المالية وتطور المقاصة ونظام التسويات بين البنوك بما يشمل الصرافات الآلية. وقد أعلنت سلطة النقد الفلسطينية واجب الوصول لجميع الصرافات الآلية للمصارف من قبل جميع معتمدي الجهاز المصرفي بغض النظر عن أحجام المصارف وعدد الصرافات لكل منها. كما وأقرت عمولة اختيارية لكل معاملة ( المفتاح الوطني 194) مما ساعد في نشر استخدام بطاقات السحب الآلي ( ATM Cards ) والتي فرضت سلطة النقد صدورها لكل حساب شخصي وبالمجان لنشرها على أوسع نطاق. مثل هذا الإجراء قد رفع عدد البطاقات في المصارف والاعتماد على المال البلاستيكي للوصول إلى الأرصدة من خلال الصرافات الآلية. وتعتبر هذه مبادرة ممتازة ولكنها منقوصة إذ كان من المفترض أن يتبع هذه المبادرة دمج نقاط البيع بالمحلات في المفتاح الوطني أيضا، ولكن ذلك لم يتم وقد كان ذلك خطأ بالتقدير، مما دفع العامة إلى السحب من الصراف الآلي وتسديد الدفع نقدا، وهذا قد لجم من نطاق فوائد المال البلاستيكي..! وفي سياق الاعتماد الخجول والبطيء نسبيا للتكنولوجيا المالية في فلسطين إذا ما قورنت بحاجة المجتمع لها وردات فعل السوق المستهدف لأدواتها، نرى أن قلة منا بدأت بتسديد الفواتير من خلال بطاقات الائتمان والخصم الصادرة من المصارف من خلال عدد محدود من نقاط البيع، وهذه خطوة جيدة ولكن لماذا يسمح بفرض عمولة على الدفع الإلكتروني ولماذا يتذرع البائع / المستفيد بتعطل جهاز نقطة البيع؟! إلى حد وضع يافطة تقول "دفع الفواتير نقدا فقط" لماذا؟ السبب هو غياب التنسيق بين منظم شركة خدمات الدفع ومنظم مزود الخدمة "المفوتر"، فأين التنسيق بين الوزارات المعنية وسلطة النقد؟ أليست تسمى استراتيجية وطنية؟ فأين مصلحة الوطن؟ الذي حصل هنا أن المعاملة / الفاتورة قد سددت نقدا "بالطبع بدون عمولة إضافية للدفع النقدي"، مع أن التنفيذ تم من خلال نظام مدفوعات –خاص- متقدم يخاطب المفوترين ويتمم التسوية بكفاءة… أما المبلغ المستلم فبدلا من تنفيذه على نقطة البيع فهو يسدد نقدا وعند إيداعه في المصرف تفرض عليه عمولة إيداع نقدي وبالتالي فقد عدنا للمربع الأول. مطلوب رقابة وتكامل بالتشريع الموجه لاستخدام المال الرقمي بدل المال النقدي. نحن هنا نكافئ من هم ضد التكنولوجيا المالية ونطمس معالم بزوغها. وهنا تكمن الحاجة للبيئة المطلوبة للنجاح أو ما يسمى ecosystem.
بعيدا عن جلد الذات وعملا بالانتقاد البناء المحفز، نقول إن التكنولوجيا المالية تقف على حجري أساس: الأول هو سلسلة العرض ( Supply Chain ) وهنا نتحدث عن طرف البائع بالمعادلة، مثلا كتطبيق على الهاتف النقال من شركات الكهرباء والاتصالات وغيرها من مزودي الخدمات العامة يعطي المواطن / المستخدم كافة المعلومات التي تخص رقم اشتراكه / عداده من الاستهلاك إلى الفواتير المسددة وغير المسددة، الأعطال، الشكاوى وغيرها من الخدمات. بالمقابل هناك المشتري / المستخدم أو سلسلة الطلب ( Demand Chain ) وهذا الطرف بحاجة إلى الإحساس بالأمان والثقة بما هو جديد والإرشاد والتطمين من ملاءة هذه الأدوات وبتشريع مساند لنجاحه. بهذه الطريقة انتشرت أدوات التكنولوجيا المالية في بلدان العالم وهذا ما التزمت به كل من سلطة النقد وهيئة سوق رأس المال بالاستراتيجية المذكورة من متابعة وإعلام العامة إلى أين وصلت مؤشرات الأداء الرئيسة لقياس النمو في نسبة الشمول المالي. فأين نحن اليوم؟ إن المتابعة هي أساس النجاح.
إذا ما تعمقنا قليلا بدراسة سلوك سلسلة الطلب، نستشعر الأموال البلاستيكية -من غير معتمدي البنوك- عند شحن بطاقات المياه والكهرباء في بعض المدن وخصوصا الريف، لمن ليس لديهم اشتراك أو بمعنى آخر خدمات مسبقة الدفع لتعبئة خزان المياه أو لإنارة البيوت، تماما مثل شراء كرت دقائق وحزم من شركات الاتصالات الخليوية ( Prepaid ) وتلك جميعا أدوات تكنولوجيا مالية "دفع إلكتروني" منها البدائي الذي علمنا الثقة بهذه البطاقة / النظام واّخر متوسط بفتح حساب بالمصرف والتعامل بالبطاقات والشراء من المواقع الإلكترونية التي وفرت الوقت والجهد، والآن حان دور الأدوات المتقدمة التي تشمل أيضا الشريحة المغيبة من غير معتمدي المصارف الذين يطالبون بخدمات "بنكية" بدون الإصرار على فتح حساب ببنك مثلا. هذا التطور في عقلية شريحة كبرى هو أساس النجاح، لأنها الخيط الأول في سلسلة الطلب، وهو مفتاح النجاح لأدوات التكنولوجيا المالية. وعليه، فيجب أن تجاريه تطورات أدوات الدفع والتشريعات لحماية الريادة في التكنولوجيا المالية من كل المناحي سواء كانت من المستثمر، من المستفيد أم من المستخدم نفسه.
بالنهاية نقول: نتحدث عن المال الرقمي، والذي هو تعبير يفهمه الشباب وستفهمه طبقة غير معتمدي المصارف Unbanked كملاذ اّمن سهل وسريع لتعاملاتهم وبدون أخذ هامش مخاطر أكبر. الآن في عام 2020 ومع التطور التكنولوجي السريع نطالب بنفس الدعم من المنظم للتكنولوجيا المالية والبناء على ما تم تأسيسه قبل أكثر من عقد وبنفس درجة الحماس والإصرار على اعتماده من قبل الجميع سواء من خلال التشجيع –قبل التشريع- والعمولات وغيره. المطلوب اليوم هو تحديد عملة المال في فلسطين أهي النقدية أم الرقمية؟
إن مفهوم المال كأداة تداول، حافظة للقيمة ووحدة حساب، لم يتغير وقد قرأته التكنولوجيا المالية بذات السياق ولأن المجتمعات طلبت حق للجميع بالخدمات المالية وعدم احتكارها بمكان اسمه مصرف أو بمؤسسة مالية، فقد تحور مفهوم المدفوعات مثلا من دفع إلى انتقال للمال من نقطة أ إلى نقطة ب وهذه هي المحطة الثانية بالتحول. فالأساسيات تقول إن التعامل بالمال بدأ بنظام المقايضة ونتذكر ذلك من اسم عملة أجدادنا "الثاقل / الشاقل" بمعنى مثقال وهي أداة قياس قيمة السلعة المتبادلة. فالمال اليوم ليست له قيمة إلا إذا كان مقابل سلعة وهذا يعيدنا لرؤية كارل ماركس في كتابه "رأس المال" الذي تحدث فيه عن قيمة للعملة من خلال علاقتها بالسلعة، وحرية انتقال العملة مقابل محدودية انتقال السلعة وهكذا في دورة لا متناهية، نلاحظ رجوع التكنولوجيا المالية للأساسيات والبناء إلى بساطة القواعد. وبالتالي نقول بأن المال مثلما هو الورقة النقدية ذات القيمة الشرائية ( Fiat Money) فهو أيضا رصيد في بنك، أو في بطاقة بلاستيكية في جيبك أو محفظة إلكترونية في هاتفك النقال ( Digital Money )، كلها مناطق اّمنة وأدوات دفع مضمونة ومراقبة ومقبولة لتداول "انتقال" هذا الرصيد بين الأفراد والمنشآت والشركات. مفهوم جديد نحن بحاجته وهو انتقال المال الرقمي بدل كلاسيكيات دفع المال النقدي.