الأحد  24 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

بعد مئة عام... إلى الخلف دُر

أسرة التحرير

2020-09-30 08:47:42 AM
بعد مئة عام... إلى الخلف دُر
أرشيفية

 

100 عام مرت من تاريخ العرب وكأن الزمان توقف على تاريخ زائف من الثورات والتحرر والاستقلال وقيام دول ذات حدود وسيادة وشعب حر سيد.

نتذكر اليوم 1 أيلول 2020 إعلان لبنان الكبير قبل 100 عام عندما ظهرت دولة لبنان في أيلول 1920 تحت الوصاية الفرنسية التي وضعت النظام الطائفي للبنان فعاش مئة عام من الصراع الداخلي والصراع الخارجي على أرضه التي سميت دولة لبنان وشعب لبنان الذي لم ينعم بالراحة والأمن والاستقرار إلا بضع سنوات بين أزمة وأخرى، وكأنها فترة هدنة بين طوائف وعشائر لبنان المتصارعة.

طبع الفساد وانعدام الأمن وغياب الدولة لمئة عام من عمر لبنان كغيره من الكيانات العربية طيلة هذه العقود العشرة، وظلت الذهنية الطائفية والعشائرية والمذهبية تتحكم بمصير هذه الكيانات الهلامية التي تدعي أنها دول مستقلة ذات سيادة تحتفل باستقلالها عاما وراء عام، وتردد الأناشيد وتعزف السلام الوطني وتحرك مشاعر شعوب تواقة للحرية والاستقلال الحقيقي والتقدم في كل المجالات كغيرها من الأمم التي بات اللحاق بها اقتصاديا وتكنولوجيا واجتماعيا وسياسيا بعيد المنال.

بعد مئة عام على لبنان الكبير، يخرج رأس النظام ليعترف صراحة أن النظام أي الحكم في بلده أصبح مولدا للفتنة ويحتاج إلى مفهوم جديد لإدارة شؤونه، وأن النظام الطائفي بات عائقا أمام بقاء الدولة اللبنانية والعيش المشترك.

إذن، ما هو مطروح اليوم هو بقاء لبنان من عدمه، لذلك نجد إيمانويل ماكرون في بيروت ليذكر اللبنانيين أن فرنسا الأم الحنون التي اختارت لهم النظام الطائفي المولد للفتنة وعدم الاستقرار قبل مئة عام لم يعد صالحا، ولديه وصفة أخرى تنقل لبنان من صراع الطوائف والمذاهب إلى مئة عام قادمة من الصراع في دولة مدنية لا تملك اليوم من مقومات الدولة سوى الاسم الموصوف بالدولة المدنية المفلسة، التي يجب أن تخضع للوصاية الدولية ولا بأس أن تكون الوصاية لفرنسا الأم الحنون.

الوصاية الفرنسية الأولى لم تنجح في خلق لبنان محايد من الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني بالتحديد، ولعل الحياد الذي ينادي به البطريرك الراعي ويدعمه الوصي الفرنسي الجديد في السر والعلن تنجح في محاصرة حزب الله الظاهرة المقاومة للأطماع الإسرائيلية في الجنوب اللبناني ومياه لبنان والسيطرة على مقدراته والتمركز على أعالي جبال حانين ووضع دمشق تحت التهديد الدائم.

حال لبنان اليوم هو ملخص للوضع العربي من المحيط إلى الخليج، وذكرنا بثورة العشرين في العراق وبالثورة العربية الكبرى قبلها بعد 5 سنوات وثورة سعد زغلول في مصر والتي جاءت ضمن مخطط واحد للمنطقة رسمته اتفاقية سايكس بيكو الإنجليزية الفرنسية ووعد بلفور ثم اتفاقيات ما بعد الحرب العالمية الأولى وفرض الوصاية على الدول أو لنقل أشباه الدول التي أعلنت استقلالها وظهور المملكة العربية السعودية.

فهل كانت هناك ثورات عربية ودول عربية متحررة من الاستعمار أم كان هناك تواطؤ لزعامات طائفية وعشائرية ودينية لبست ثوب القومية والعروبة والإسلام وتواطأت مع الحركة الصهيونية في تنفيذ وعد بلفور واتفاقية سايكس بيكو وسرقة فلسطين وإنشاء الكيان الصهيوني وتكريس القطرية العربية وتهميش دور الشعب في إدارة شؤونه واختيار قياداته والحفاظ على استقلاله الموهوم اقتصاديا وسياسيا وثقافيا.

من المئة عام الماضية وقد نستثني بضعة عشر عاما جرى فيها إحياء الروح القومية العربية ومعاداة الاستعمار الغربي سرعان ما جرى إجهاضها وتعميم التبعية للغرب الاستعماري من جديد.

نحن اليوم على أعتاب مقايضات إقليمية للتكيف مع واقع جديد تفرض فيه إسرائيل كوكيل أصيل للولايات المتحدة ودول الغرب الاستعماري في حدود ودور غير الحدود والدور الذي قامت به إسرائيل منذ قيامها عام 1948، حدود المشروع الأصلي للحركة الصهيونية،  حدود إسرائيل من الفرات إلى النيل، واليوم وبعد مئة من نهاية الحرب العالمية الأولى نعيش نفس ظروف ما بعد الحرب العالمية الأولى أي ما قبل مئة عام، إذ أن ملامح الدول العربية التي برزت بعد الحرب العالمية الأولى ووضع مؤتمر سان ريمو (1920) حدود الكيانات العربية المنسلخة عن الدولة العثمانية المهزومة بغياب عربي كامل وكرس تجزئة بلاد الشام والعراق وفرض الانتداب عليها وتجاهل مصالح العرب، فوضع سوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسي والعراق والأردن وفلسطين تحت الانتداب البريطاني وألزم بريطانيا بتنفيذ وعد بلفور بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين وتتنازل فرنسا الوصية على سوريا عن الموصل للعراق، وكانت قبل ذلك ضمن الفضاء السوري مقابل حصة من نفطها.

قرارات مؤتمر سان ريمو مثلت خيانة للعهود التي قطعتها دول الحلفاء للعرب وأهمها الاستقلال مقابل الوقوف مع الحلفاء في الحرب العالمية الأولى ضد دول المحور بما فيها الدولة العثمانية.  وتنكر الحلفاء بل رفضوا نتائج المؤتمر السوري العام وهو أول هيئة برلمانية ممثلة لسوريا العثمانية، والذي أعلن فيه الاستقلال التام لسوريا بما فيها فلسطين والنداء بفيصل بن الشريف الحسين بن علي ملكا على المملكة السورية ورفض وعد بلفور، ولكن لم تدم مملكة فيصل الأول لأكثر من أربعة أشهر إذ هزمت القوات الفرنسية بقيادة الجنرال غورو القوات السورية في معركة ميسلون وطردت الملك فيصل وأخضعت سوريا ولبنان للوصاية الفرنسية، وليذكر غورو العرب والمسلمين أمام قبر صلاح الدين بأنه قد عاد في إشارة إلى الحروب الصليبية واستعمار بلاد الشام قبل تسعمائة عام.

واليوم يقف الرئيس الفرنسي ماكرون بعد مئة عام ليقول في بيروت ها نحن يا غورو لتجديد الوصاية مئة عام أخرى.

أما ثورة العشرين في العراق (1920) الذي كان يعرف ببلاد ما بين الرافدين، فقد رماه مؤتمر سان ريمو في حضن الإنجليز الذين حكموه حكما مباشرا لكنهم وجدوا رفضا شعبيا وعشائريا في كل العراق من أقصى شمال الموصل إلى الخليج العربي (عرب وعجم وأكراد سنة وشيعة ومسيحيين وأزيديين) توحدوا في ما مواجهة الاستعمار البريطاني في ثورة حقيقته تجاوزت أن تكون تمردا عشائريا ضد الاحتلال وأصبح الاحتلال البريطاني المباشر للعراق مكلفا للبريطانين فلجأوا إلى حكم العراق من خلال حكومة تحكموا بها ومن خلالها بكل مفاصل الحياة في العراق، فعينوا إلى جانب كل وزير عراقي مستشارا بريطانيا يدير شؤون الوزارة، ذلك أن العراقيين الذين ثاروا على الوصاية البريطانية لم يكونوا يملكون مشروعا سياسيا، فجاء الإنجليز بذلك المشروع وفرضوه على العراقيين ونادوا بالملك فيصل الأول ملكا معترفا به من بريطانيا ملكا على العراق وفرضوا الوصاية على العراق. وهكذا ظل العراق تحت الوصاية البريطانية ولم ينته هذا النفوذ حتى بعد انقلاب عبد الكريم قاسم في 14 تموز 1958 على الملكية.

ودخل العراق مرحلة جديدة قديمة من النشوة والثورة سرعان ما تخللتها نوبة من الانقلابات العسكرية والصراعات الحزبية وديكتاتورية الحكم التي خلخلت النسيج الاجتماعي وأبرزت الأبعاد الطائفية والمذهبية والقومية وتأثير رجال الدين وتأثير دول الجوار على الوضع في العراق، وكان الحدث والزلزال الأكثر تأثيرا على العراق ومستقبله واستقلاله احتلال الولايات المتحدة وحلفاؤها عام 2003 للعراق ليعود العراق إلى الوصاية متعددة الدول والقوى من جديد ويدخل مع هذه الوصاية العامل التركي الذي يتمدد من الشمال العراقي وصولا إلى الموصل طمعا في حصة من النفط بعد أن أعلن الرئيس التركي أكثر من مرة أن اتفاقية سان ريمو بعد مئة عام لم تعد نافذة وهو يتحالف مع أكراد العراق في مواجهة أكراد تركيا وسوريا ويماطل الأمريكان وحلفاؤهم في الانسحاب من الأرض العراقية ويراهنون على فرض الوصاية على الحاكم في بغداد والتحالف مع الأكراد في الشمال وتغذية النعرات الطائفية بين السنة والشيعة والدينية بين المسيحيين والمسلمين والأزيديين والقومية بين العرب والأكراد، ويلعب جيران العراق على نفس الأوتار وكأن أهدافهم تتوحد حول تقسيم بلاد ما بين النهرين الذين لم تعد المياه تجري في سوريا ومصر منذ مئة عام فسوريا ما يزال يتهددها التقسيم فهي البلد المجاور للكيان الصهيوني الذي يهيء نفسه للتمدد شمالا وشرقا وصولا إلى منابع النفط العراقي والسوري والخليجي وحتى منابع النيل، وشعب مصر كشعب سوريا والعراق كان يحكمه قبل مئة عام حكم الاستقلال والتخلص من الاستعمار البريطاني وظهر زعيم الأمة سعد زغلول عام 1919 بعد الحرب العالمية الأولى وجمع توقيعات أو توكيلات من الفلاحين الذين كانت تصادر محاصيلهم وأراضم للمطالبة باستقلال مصر وإعلان شعب مصر العصيان المدني الذي قوبل بعنف غير مسبوق من البريطانين ونفي سعد زغلول في اليوم الثاني من مصر إلا أن العصيان المدني حقق إنجازا تمثل في عودة زغلول من منفاه، غير أنه لم يستطع إلغاء الحماية البريطانية على مصر وشكل سعد زغلول أول حكومة برئاسته، ولكن ظلت مصر تغرق في مشاكل تلو أخرى والشعب يصبر ويصبر على ملكية فاسدة وإقطاعيين مستغلين لأرض مصر وعرق وشعب مصر.

وبعد 72 عاما من الاستعمار البريطاني، تم التخلص من الاستعمار ووقع الرئيس جمال عبد الناصر اتفاقية الجلاء في أكتوبر 1954 وحرر مصر من الفساد والطغيان وكان أول حاكم لمصر من أبنائها ودخلت مصر مرحلة جديدة من تاريخها لم تدم أكثر من بضع عشرة سنة لتعود إلى حضن المستعمر الأمريكي وتربط باتفاق الذل مع الكيان الصهيوني وتخسر موقعها ومركزيتها في القرار العربي ونفوذها في منظمة الوحدة الأفريقية وحركة عدم الانحياز وتطمع دول ماء النيل شريان حياة مصر وتفقد الجامعة العربية دورها المعنوي الذي كانت تستمده من مصر، وللأسف يصبح العملاق المصري الأسمر المارد الجبار حبيس قمقم حاكم دويلة الإمارات، ولعل الأردن أكثر الدول العربية تأثرا بالمشروع الصهيوني وتداعيات سايكس بيكو ووعد بلفور ومؤتمر سان ريمو. وتدرك الأردن اليوم تبعات صفقة القرن وقرار الضم الإسرائيلي لأراضي الأغوار وأجزاء من فلسطين وتراجع خطوط حل الدولتين رغم توقيع الأردن لاتفاق سلام مع الكيان الإسرائيلي دون المساس بالحقوق الفلسطينية.  فالمشروع الصهيوني الذي يطل برأسه ويمد أذرعه يقوم على أساس أن شرق الأردن بديلا للفلسطينيين وأن إنشاء إمارة شرق الأردن عن المملكة الأردنية الهاشمية جاء تعويضا عن خسارة الملك فيصل الأول لمملكة سوريا وتعويضه بالعراق، أما وقد توطدت أركان الكيان الصهيوني كما تظن الإدارة الأمريكية الحالية وبنيامين نتنياهو، فإن الأردن يتعرض إلى ضغوط سياسية واقتصادية نتيجة موقفه الرافض لصفقة القرن، وقدره أن يصمد فهذه الأيام من التاريخ العربي الرديء تشهد الأمة العربية فصلا جديدا وحرا متسارعا للأنظمة الحاكمة في بعض الدويلات الخليجية تجاه الكيان الصهيوني الذي انتقل من خانة العدو اللفظي لعشرات السنين إلى خانة الحليف الموضوعي لهؤلاء الحكام كما نشاهد ونتابع فصول اتفاق التطبيع الإماراتي  مع العدو الصهيوني برعاية أمريكية وإدارة متصهينة.

ويضرب هذا التحرك الخياني الإماراتي وغيره الذاكرة الجمعية الشعبية العربية التي ظلت في معزل عن محاولة حكام العرب تشويش هذه الذاكرة التي تقول بوحدة الأمة العربية وتحررها من التبعية للاستعمار القديم والجديد من المحيط وعروبة فلسطين والأرض الممتدة من المحيط إلى الخليج.

 ولكن هذه الذاكرة الجمعية بحاجة هي أيضا إلى حصانة ومناعة تستمدها من فكر مقاوم وممارسة للفكر المقاوم على الصعيد الشعبي، وتخليص الحكم من التبعية والهزيمة التي تسكنهم ويضيعوا ويضيعوا آمال أمة عزيزة كريمة.