الحدث - سوار عبد ربه
خمسة أشهر مضت ولم يتقاضى محمد سلمان سوى ما نسبته 50% من راتبه عن كل شهر، إذ يعمل محمد كمدرس في إحدى المدارس التابعة للسلطة أو ما يعرف بمدارس الأوقاف في مدينة القدس. بنصف راتب لن يتمكن محمد من مواجهة غلاء المعيشة ولا سد احتياجات أسرته الأساسية، ناهيك عن المصاريف الثابتة المفروضة على المقدسيين كضريبة السكن (الأرنونا) التي تهدف إلى التضييق على المقدسيين لإجبارهم على ترك مدينتهم، تنفيذًا لسياسة التطهير العرقي التي يمارسها الاحتلال بصمت في المدينة المقدسة.
يقول سلمان، الذي يعيل أسرة مؤلفة من ستة أفراد من بينهم طالبة جامعية واثنان آخران في مدرسة خاصة يصل قسط الطالب فيها إلى ما يعادل راتبا كاملا، "فكرت مرارا بنقل أبنائي من المدارس الخاصة إلى الحكومية كلما تعذر عليّ توفير القسط المدرسي".
في موازاة ذلك، يصف المعلم ضياء هذه المرحلة بأنها الأسوأ على الإطلاق، فقد مرت عليه أيام دون أن يتوفر في جيبه أي مبلغ يذكر.
ويضيف: الراتب في الأساس متدني والمصاريف كثيرة، وفي السابق كان بإمكان بعض موظفي الحكومة العمل بدوام جزئي أو مسائي أما اليوم ومع تفشي الوباء فمن الصعب إيجاد وظيفة بديلة.
لكن إحدى المعلمات، التي رفضت الكشف عن اسمها، تؤكد أنها وعائلتها مهددون بالطرد من منزلهم بسبب عدم قدرتهم على دفع إيجاره، حيث تعمل هي وزوجها في قطاع التعليم التابع للسلطة، ولم يتقاضوا رواتبهم لشهرين متتاليين، وبعدها صرف لهم فقط نصف راتب.
وتتابع: "أصبحنا نستدين من أهلي وأهل زوجي كي نتمكن من إتمام المصاريف الضرورية، ولكن إلى متى؟".
وتتشارك معهم معاناة الراتب المعلمة عزة سلمان وهي أم لطالبين جامعيين، وتقول إن الجامعات لم تتعاون معهم في هذا الشأن، كما عملت أسرتها على توفير الكثير من الاحتياجات والمتطلبات حتى الأساسية منها، وبالنسبة للجانب الترفيهي في حياة العائلة فأصبح شبه معدوم، وألغيت النزهات والمطاعم والتجمعات العائلية ولمات الأصدقاء.
بدوره، قال مساعد الأمين العام لاتحاد المعلمين –فرع القدس منيف الخطيب إن: "المعلم المقدسي يعيش اليوم أزمة حقيقية بسبب تدني الدخل، والحياة المقدسية غالية عموما، والالتزامات كثيرة من حيث السكن والمواصلات، والمتطلبات أكثر مما نتخيل، وبالتالي أي اقتطاع بسيط من الراتب سيؤثر".
ويضيف الخطيب: الشغل الشاغل للمعلمين اليوم هو كيفية تأمين قوت عيالهم، إما من خلال عمل إضافي أو بأي طريقة أخرى متاحة".
ولفت مساعد الأمين العام لاتحاد المعلمين في القدس إلى دور الاتحاد في رفع صوت المعلمين لجميع من هم في موقع صنع القرار، موضحا "أنهم ناشدوا كل المعنيين في الحكومة باستثناء معلمي القدس من موضوع أنصاف الرواتب، بالإضافة إلى وزارة شؤون القدس ووزارة المالية والتربية والتعليم والمحافظة، وكنا نرى وعودا لم ينفذ منها شيء وهذا كله أثر بشكل كبير".
وفي هذا الشأن يوضح نائب محافظ محافظة القدس عبد الله صيام، أن رواتب المعلمين ليست محجوزة رغبة، أو بسبب مسعى في تأخيرها، فالراتب مهم جدا لكل إنسان، ولكن الظرف الفلسطيني المعقد وهذه الضغوط التي يخضع لها شعبنا الفلسطيني وقيادته، من أجل تحقيق مكاسب سياسية هي العائق في مسألة الرواتب.
ويضيف: "نحيي الصمود الكبير لكادرنا وموظفينا بشكل عام ولمدرسينا في مدينة القدس، الذين يواجهون عقوبة مركبة، لأن وضعهم أصعب من وضع غيرهم ووضع نظرائهم من المعلمين. وإن كان هناك من سبيل لاستثنائهم وتعزيز دورهم فنحن مع هذا الموضوع بشكل كبير، بل ونطالب به بكل صدر رحب، وأكد أن الأمور ستفرج وستحل كل هذه الأزمات".
وفي الأزمات المالية السابقة التي عاشتها السلطة الفلسطينية، كان قطاع التعليم في القدس يحصل على استثناء، لإدراك السلطة حجم المسؤوليات والالتزامات الواقعة على عاتق المواطن المقدسي، غير أن الأزمة الحالية عمقها أكبر من سابقاتها، حسب وصف صيام.
وأكد نائب محافظ محافظة القدس على أن عمق الأزمة ليس فقط من ناحية الزمن بمعنى أنه مضى عليها عدة أشهر، ولكن أيضا من حيث حجم الحصار الواقع على ماليتنا وقيادتنا ومجتمعنا، من أجل أن يمس بثوابته الوطنية، كذلك طول مدتها ووجودها في ظل جائحة كورونا التي أثقلت العبء على مؤسساتنا وأفرادنا والكل الفلسطيني، وهنا يكمن اختلاف الأزمة الحالية، فالعقوبة جاءت في ظل وضع استثنائي اسمه حالة الطوارئ".
ويتفق كل من مساعد اتحاد المعلمين، ونائب محافظ محافظة القدس على أن قطاع التعليم في القدس مستهدف من قبل سلطات الاحتلال التي تعمل على محاربة المنهاج الفلسطيني والمدرسة الفلسطينية والمعلم الفلسطيني، مع تأكيدهما على أهمية وضرورة بقاء هذه المدارس في المدينة المقدسة واستمرار التعليم فيها بالمنهاج الفلسطيني.
في سياق آخر يؤكد مساعد أمين عام اتحاد المعلمين -فرع القدس: "التعليم في مدارس الأوقاف أو ما يعرف بمدارس السلطة الفلسطينية في القدس تأثر بشكل كبير في ظل انقطاع الرواتب، فالمعلم الذي لا يتلقى دعما سيبحث عن بديل آخر، وأصبحت مدارس المعارف وبلدية الاحتلال والمدارس الخاصة تستقطب جزءا من معلمينا وبالتالي أصبحوا يطالبون بإجازات من غير راتب كي يتمكنوا من إعطاء حصصهم في مدارس أخرى، وهذا ما أفقدنا كثيرا من الكفاءات وأثر على عطاء هؤلاء المعلمين".
في المقابل اعتبر نائب محافظ القدس، صيام، أن العصب الأساسي للتربية والتعليم والكادر التعليمي ما زال موجودا، ولم يحدث أي خلل يذكر في هذا السياق، وبحسب معلوماته: "الأمور تسير بشكل جيد بالالتزام بهذه المهنة الكريمة".
وأصدر اتحاد المعلمين الفلسطينيين بيانا مساء الأربعاء الموافق 23 من الشهر الجاري، بعد إعلان عدد من المعلمين الإضراب في مدينتي الخليل وبيت لحم بسبب الأوضاع المعيشية التي يعيشونها في ظل عدم صرف الرواتب كاملة من قبل الحكومة.
وطالب الاتحاد في البيان، بصرف راتب شهر أيلول كاملا في بداية شهر تشرين أول وصرف 50% من راتب شهر آب خلال الأسبوع القادم وصرف كامل المستحقات فور تحويل المقاصة دفعة واحدة.
وجاء في البيان مطلبا مخصصا لمعلمي القدس نص على: "العمل السريع على معالجة جميع قضايا المعلمين في العاصمة القدس الشريف".
وقال الاتحاد إن تخبط الحكومة في إدارة الأزمة المالية وتصريحاتها المتضاربة تجاهها خلقت احتقانا عاليا لدى المعلمين، الذين لا يملكون قوت يومهم أو تكاليف ذهابهم إلى أماكن عملهم.
واقع التعليم في مدينة القدس
تواجه مدارس الأوقاف في القدس وطلبتها تحديات كثيرة تضاعفت هذا العام بسبب استمرار قرار الاحتلال إغلاق مكتب مديرية التربية والتعليم الفلسطينية في القدس من جهة، وأزمة كورونا والتعليم الإلكتروني من جهة أخرى.
وأشار نائب محافظ القدس إلى أن المدارس حاليا تعاني من أزمة جائحة كورونا في ظل الإغلاق وعدم انتظام الدوام ودخول عنصر النظام غير الوجاهي عبر التقنيات الإلكترونية، والمدارس بشكل عام والقدس كلها تنصف بأنها من المناطق الأكثر عرضة للإصابات وبالتالي هناك عبء على المدرس بأن يقوم بمهمته مع طلابه، في ظل ظروف قد لا يكون جميع الطلاب مستعدين لها، ويتابع: "وضع المدارس ليس بالوضع السار، ولكن في إطار رؤيتنا لامتحان الثانوية العامة السابق وكيف حققت التربية والتعليم في مدينة القدس إنجازا، نشعر أننا يمكن أن نراهن على كادرنا التعليمي لإنجاح المسيرة التعليمية رغم كل الظروف".
ويستعرض مدير مكتب التربية والتعليم في القدس سمير جبريل في ورقة بحثية حول واقع المدارس التابعة لوزارة التربية والتعليم العالي، واقع مدارس الأوقاف الإسلامية، مؤكدا أن "أبنيتها عبارة عن بيوت سكنية لأنها غير مؤهلة لاستيعاب الطلبة بأعداد كبيرة وصفوفها مكتظة، وتفتقر إلى الساحات والملاعب والقاعات والمسارح المدرسية وهي من الركائز الأساسية للمدرسة، كما أن نصف المباني تقريبا مستأجرة وتزيد إيجاراتها السنوية عن نصف مليون دينار أردني، فضلا عن صعوبة الحصول على رخص بناء بسبب الشروط التعجيزية التي تفرضها بلدية الاحتلال من جهة، ومن جهة أخرى سيطرة البلدية على الأراضي المخصصة في المخطط الهيكلي للمنفعة العامة".
ويضيف أن الكثير من المدارس لا تتوفر فيها المرافق التعليمية اللازمة، إما لضيق المكان أو لعدم توفر الإمكانيات، كما أن هذه المدارس تعتمد في نواحي الصيانة أو التأهيل أو الترميم على عدد من المؤسسات، بالإضافة إلى أن رواتب المعلمين منخفضة جدا.
وفي القدس مرجعيتان لقطاع التعليم، الأولى تتمثل في وزارة التربية والتعليم الفلسطينية التي تضم ما نسبته 47% من مدارس القدس، والثانية تتمثل في "وزارة التربية والتعليم الإسرائيلية" وبلدية الاحتلال في القدس، وتضم ما نسبته 53% من مدارس القدس، ويبلغ العدد الإجمالي للمدارس في القدس المحتلة 155 مدرسة.
وتعمل المدارس التابعة للاحتلال على استقطاب الطالب الفلسطيني لما تقدمه من مغريات سواء من ناحية جودة التعليم أو المباني الفخمة التي تخصصها لهذا الغرض.
ما علاقة أموال المقاصة بأزمة الرواتب؟
بدأت أزمة أموال المقاصة في آذار 2018 عندما صادق الكنيست الإسرائيلي، بالقراءة الأولى، على مشروع قانون يتيح لحكومة الاحتلال احتجاز جزء من أموال الضرائب الفلسطينية (المقاصة) تعادل تلك التي تقدمها السلطة كمخصصات لعائلات الأسرى والشهداء كعقوبة للسلطة على استمرارها في دفع مخصصات لعائلات الأسرى والشهداء.
الرئيس الفلسطيني محمود عباس قال في حينها إنه لن يستلم أموال المقاصة "ولو كان عندنا فقط عشرون أو ثلاثون مليون شيقل وهي ما يدفع لعائلات الشهداء سندفعهم لعائلات الشهداء".
وتصاعدت الأزمة بين السلطة الفلسطينية و"إسرائيل" في ظل نوايا الأخيرة تطبيق مخطط الضم في الضفة الغربية، وهو ما دفع القيادة الفلسطينية إلى إعلان وقف التنسيق الأمني والتحلل من الاتفاقيات الموقعة بين الطرفين، وهو ما فاقم الأزمة المالية للسلطة الفلسطينية، بعد "تعرضها للابتزاز في ما يخص أموال المقاصة"، الأمر الذي عبر عنه رئيس الحكومة محمد اشتية في أكثر من مناسبة.
وعائدات المقاصة، هي ضرائب يدفعها الفلسطينيون على وارداتهم من الخارج عبر منافذ تسيطر عليها "إسرائيل"، وتجبيها "الحكومة الإسرائيلية" نيابة عن السلطة، وتحولها إلى الخزينة الفلسطينية نهاية كل شهر بعد اقتطاع عمولة 3 بالمئة.
وتشكل المقاصة أكثر من 60% من إجمالي الإيرادات العامة الفلسطينية. وتعتبر المصدر الرئيس لتوفير فاتورة رواتب الموظفين العموميين.
وتبلغ فاتورة رواتب موظفي السلطة والمصاريف التشغيلية ما بين 120 إلى 150 مليون دولار شهريا، في حين تصل أموال المقاصة الفلسطينية من 200 إلى 240 مليون دولار شهريا.
وفقا لبيانات وزارة المالية، فقد أدت أزمتا المقاصة وجائحة كورونا إلى تراجع إجمالي الإيرادات بنحو 70 بالمئة، ورافق ذلك تراجع في المساعدات الخارجية بمقدار النصف.
وهذه ليست الأزمة الأولى التي تعيشها السلطة الفلسطينية بسبب توقف عائدات المقاصة، إذ أقدم الاحتلال على احتجازها لأكثر من 10 مرات منذ قيام السلطة الفلسطينية في 1994.
ولجأت الحكومة الفلسطينية في الأزمات السابقة، للاقتراض من البنوك المحلية كي تتمكن من تسديد جزء من التزاماتها، خصوصا رواتب الموظفين، التي تشكل المحرك الأساسي للاقتصاد، أو أجزاء منها على الأقل.