في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم الجمعة 25/9/2020 الذي ألقاه عن بعد بسبب جائحة كورونا؛ حاول الرئيس أبو مازن في كلمة مقتضبة مكثفة أن يصور المشهد الحاصل في ظل تداعيات كبيرة تعصف بالقضية الوطنية، ومحاولات إنهائها في سعي محموم من الإدارة الأمريكية، ودولة الاحتلال وهو ليس بالأمر الجديد مع ارتفاع منسوب الشراكة بينهما لتذويب القضية الفلسطينية ضمن ما يجري من ترسيم للمنطقة العربية، والعمل العلني المكشوف في مؤامرة خطوطها باتت واضحة المعالم بمشاركة أطراف عربية أيضاً.
الخطاب الذي تساءل الرئيس عباس في بدايته عن الجديد الذي قد يحمله في طياته هذه المرة بخلاف الخطابات التي ألقاها سابقاً من على ذات المنبر لتناول ذات المأساة التي تتعمق فصولها بفعل إجراءات الاحتلال اليومية لتكريس حل الأمر الواقع من طرف واحد، وفرض هذا الحل أمام وعلى مرأى ومسمع العالم كله دون أن يحرك ساكناً لإنصاف الضحية، وتحقيق العدالة المنسجمة مع قوة قرارات الشرعية الدولية حيث على مدار72عاماً يتلظى الشعب الفلسطيني، ويكتوي بنار الحقد، والكراهية، والعنصرية المترافقة مع الأطماع التوسعية تغذيها ايديولوجيا قائمة على إنكار، ونفي الحقوق وطمسها فيما الصورة الأخرى تشير إلى ثبات الشعب الفلسطيني فوق أرضه منذ أكثر من ستة آلاف سنة، ورفضه التعاطي مع الصيغ، والمشاريع الهادفة لتصفية حقوقه متشبثا بها، ومدافعا أمينا عن هويته الوطنية.
الخطابات السابقة التي اتسمت بالصراحة، والوضوح، وغلب عليها طابع المناشدة، والمطالبة بالتدخل لرفع الظلم اتسمت أيضاً بتعليق آمال على إمكانية تحقيق السلام المنشود، والعمل على إيجاد حل عادل يفضي إلى تحقيق الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني في عودة لاجئيه، وتقرير مصيره، واستقلاله الوطني في دولة تكون القدس الشرقية المحتلة عاصمتها، لكن محتوى الخطابات السابقة وإن استندت للغة الحقوق إلا أنها بقيت في دائرة عقد الأمال، والتوقعات العالية بتحقيق السلام حصريا عبر طاولة المفاوضات لكن هذه المرة تضمن الخطاب استخدام مفردات جديدة أو لغة جديدة إن جاز التعبير منها الحديث المباشر حول الدعوة لمؤتمر دولي كامل الصلاحيات، ومثال آخر أكثر وضوحا في كل الخطابات السابقة كان الحديث يدور عن المقاومة الشعبية (السلمية) باعتبارها الشكل الأمثل، والأنسب لتحقيق دحر الاحتلال بينما في هذا الخطاب قال الرئيس نصاً " سوف نستمر في انتزاع مكانتنا الطبيعية بين الأمم، وفي ممارسة حقوقنا التي كفلتها الشرائع الدولية، بما في ذلك حقنا في مقاومة الاحتلال وفقاً للقانون الدولي" رابطاً ذلك في استمرار العمل على بناء مؤسسات الدولة، ومحاربة ما أسماه "الإرهاب الدولي" حقنا في مقاومة الاحتلال ليست مفردة مجردة في القاموس السياسي الفلسطيني، ولكن العودة لها يعني جديدا قد حصل يحتاج لترجمات جدية على أرض الواقع.
ارتفاع نبرة الخطاب ليس فقط باعتقادي نابع من صياغات بلاغية في النص، وجزالة المعنى إنما برأيي هي توجهات لمرحلة جديدة تنسجم مع التوجهات الجديدة في الخطاب السياسي الفلسطيني الآخذ بالتبلور خلال الفترة الماضية التي يجب أن تتلائم مع السلوك أيضا وليس تغيرا كتلك المفردات المستخدمة التي تكدست طوال العقود الثلاثة الماضية دون أن نجد أي معنى أو تعبيرات أو صدى لها لدى دولة الاحتلال من بينها أيضاً إضافة للمقاومة السلمية مصطلحات مثل "الطرف الآخر" أو "الجانب الآخر" حاولت أوساط كثيرة استثمارها لتغيير ثقافة مرحلة، واستبدالها لزرع ثقافة أخرى مغايرة لا ينسجم مع الحالة المعاشة لأن الاحتلال لم ينته حتى الآن، وما زالت مرحلة التحرر الوطني بكل ما تتطلب من تصليب جدران البنية الثقافية، والوطنية، ومدلولات استخدام والتعاطي مع الكلمات لها الكثير من التأثير على أوساط مختلفة منها أيضا استخدامه الاستيطان الاستعماري بوصفه جريمة حرب بموجب القانون الدولي.
استعراض الرئيس أبو مازن لمحطات كبيرة مد فيها الشعب الفلسطيني يده للسلام متطرقا لإعلان الاستقلال العام 1988، وما تبعه من مؤتمر مدريد، وصولاً إعلان المبادئ في أوسلو ليضيف أنه كرس حياته لتحقيق هذا الهدف النبيل لكن ماذا كانت النتيجة؟ الحقيقة المرة كما جاء في الخطاب "تنصلت دولة الاحتلال من جميع الاتفاقيات الموقعة معها، وقوضت حل الدولتين" هذا هو أحد الاستخلاصات الهامة.
خطاب الوضوح والجرأة بعيداً عن المجاملة وضع ركائز العمل على ضوء المتغيرات التي تشهدها المنطقة من هرولة البعض العربي للتطبيع المجاني مع الاحتلال، والقفز عن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وقرارات الإجماع العربي حتى مبادرة السلام العربية 2002، إدراكاً مع حجم المسؤولية الملقاة على عاتق الشعب، وقيادته في ظل مشاريع، ومؤامرة لا تقل خطورة لما جرى إبان النكبة العام 1948 وهو ما يتطلب اتخاذ قرارات لا يجوز تأجيلها أو الإبطاء في تنفيذها في اجتماع الأمناء العامين المرتقب منها ملف المصالحة التي باتت تتطلب خطوات ملموسة جدية لتحقيقها لاستعادة الوحدة قبل فوات الأوان، وترسيم ذلك بالتأكيد على عدة عناوين أساسية أولها أن لا يكون أي تراجع عن قرارات التاسع عشر من أيار الماضي بالتحلل من الاتفاقيات، والأمر الآخر يتمثل بإنجاز الوحدة الوطنية لإعادة بناء نظام سياسي قادر عن الصمود من جهة، ومواجهة المؤامرة التي تحاك لتصفية القضية من جهة أخرى إضافة لتصعيد أشكال الفعل الشعبي الميداني، والمقاومة الشعبية مهما اختلفت المسميات القيادة الموحدة او غيرها لكن الأساس الأهم هو وضع مقومات للعمل الشعبي، واتساعه وصولاً لانتفاضة شعبية شاملة تتسلح ببرنامج سياسي متفق عليه، وأدوات واضحة تسمح بانخراط أوسع فعاليات شعبنا في العمل، واستعادة روح المبادرة، والإبداع الشعبي مستلهمين نماذج سابقة لا سيما الانتفاضة الأولى العام1987 والعمل على توحيد النظام السياسي عبر الانتخابات العامة، والشراكة التي تضم جميع المكونات .
أنهى الرئيس خطابه بأن بيع الوهم بإمكانية التعايش مع الاحتلال أو الرضوخ للإملاءات الأمريكية الإسرائيلية التي تحاول فرض حلها، وتجاوز الشعب هي كلها مصيرها الفشل الذريع، وإن طريق السلام الذي نفهمه ويتمسك به الرئيس والقيادة يمر فقط بالاعتراف بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف معرباً عن تقديره بأن صناعة الأمل، والحياة لن تتوقف حتى نصل الى حقوقنا المشروعة في الدولة المستقلة وعاصمتها القدس ضمن مسار سياسي مغاير يمكن أن يتحقق السلام هذا لسان حال الرئيس في خطابه بديلاً لمسار التطرف والعنصرية، وسياسات التطهير العرقي، ومشاريع الضم، والتطبيع، والإجراءات أحادية الجانب البديل هو تطبيق القرارات الدولية المستندة للحق، ومنظومة العدالة، والسلام صوناً للكرامة الانسانية من اجل واقع افضل للجميع فيه الاستقرار، والأمل للاجيال المتعطشة للحرية بديلا لويلات الحروب والدمار .