كنت أحاول أن أكتب عنه، منذ أسبوعٍ تقريبًا، وأنا أتردد، أقول في سري لا، لا ضرورة للكتابة، لكنه مستفز جدًا، يأخذ بناصيتي لأكتب، وجهه الغريب، بملامحه الجافة، بجلسته الثابتة، في المكان ذاته، أسبوع كامل، وأنا أراه مكانه، لا يبرحه، ما بين الساعة الواحدة والنصف إلى الساعة الثانية مساءً، أمرُّ عنه، أتأمله جيدًا عن بعد، هو ذاته، بملابسه ذاتها، بقميصه الفيسفوري المفتوح بالكامل من الأمام.
في اليوم الأول، وأنا في غاية العصبية؛ بسبب تأخري عن ابنتَيَّ في المدرسة، حتى صراخ ابنتي الصغرى في يومها الأول في الصف الأول، ببكائها اللحوح، لم يمزِّقْني كثيرًا رغم مرارة المشهد، وهي تصرخ وحيدةً في المدرسة، تلتجئ إلى أختها ابنة الصف الثاني. لا مشكلة في ذلك، فالأطفال يبكون، ويصرخون، فليعبِّروا عن غضبهم بالبكاء، كل ذلك لا ضير فيه. فأمام ذلك الرجل الشاب الوقور الخشن، الناشف الملامح الخارجية، أقف عاجزًا، أسبوعٌ كامل مَرّ،َ وأنا أحاول الكتابة، لكنَّ القلمَ يقول لي: لا، لا تكتب، فهؤلاء الناس لا تكتُبُهُم الأقلام، بل إنهم هم مَنْ يكتبون الحياة، ويرسمونَها على بيادرِ قلوبِهم المليئة بِالغِلالِ والخيرِ، رجلٌ رهيب، عظيم، غريب، له هيبة خاصة.
في المرة الأولى مررتُ عليه يجلس في ركنٍ من شارع لا يمرُّ منه إلا أبناء الذوات، بسياراتهم الفارهة، وبدلاتهم الأنيقة، يسحبون خلفهم أبناءً لم تحبسهم الحياة في قماقم الفقر، هنيئًا لهم ولأولادهم، وبارك الله في أموالهم وعيالهم. المشهد المؤلم أنّ ذلك الرجل رأيته يتناول إفطارًا في وقت الغداء، كان يفرش أمامه ثلاثة أو أربعة (جاطات)، بالتأكيد أنها كانت ممتلئة بالحمص والفول واللحم وأشياء أُخرى، ولا شكَّ أنّها كانت مزيَّنةً مُرصَّعةً بتصليحاتٍ تحثُّ العين إليها، لكنها الآن بين يديه، انتشلها من صندوق قمامةٍ من أمام أحد المحلات الفخمة، كان يأكل البقايا ببقايا ما ظلَّ في روحه من حياة. حاولتُ فعل شيء، لكن الدهشة ألْجَمِتْني. واصلتُ طريقي، ولكنَّ اللُقَمَ المتبقية المتسارعة إلى شدقيه ظلت ماثلة أمامي.
في اليوم الثاني، كان رابضًا مكانه، فَعَلى ما يبدو أنه يعمل في الشارع ذاته، كان جالسًا بلا صحون ولا دهون، مررت عنه، رددت التحية عليه، فردَّ بمثلها أو أقل، شجَّعني للحديث معه. لكنني واصلت السير خطوات، ثم توقفت، مددت يديَّ إلى جيبي، وأخرجت ما فيه النصيب، عندما رآني أقترب منه، انتفضَ ورفَض، شعرتُ بالإحراج، حاولتُ معه مرة ثانية على استحياء، فردَّ بالحرف الواحد:" توكل على الله يا حج، أنا عيني شبعانة. الله معك". لم أدرِ بماذا أجيب، أكملت طريقي، وأنا أفكِّرُ بهذا الملاكِ الجسدِ المُسجّى على رصيفِ الحياة.
لم يقبلْ مساعدتي المتواضعة، ليس لأنَّه في غير حاجة، بل لأنَّه أيقنَ أنَّ العفَّةَ أسلوب حياة، ولأنَّه آمنَ بأنَّه من "الذين يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف". وأنا أعترف الآن بأنني كنتُ جاهلًا حين مددتُ يدي إلى كرامته التي لم يسمح لي بخَدْشِها. إنَّ يدَهُ التي قصرت عن أن تمتدَّ لقروشي القليلة، كانت أطوَلَ من أعمارِنا وأبراجِنا وأهرامِنا، وكانت بسمته الخبيئة في عينيه الذابلتين، أجمل بكثيرٍ من ضحكاتنا الغاضبة في حفلاتنا الصاخبة.
لقد كنتُ فقيرًا إليه، وكان غنيًّا عنّي، حين زجَرَني بأدبٍ مُنظَّم، وعندها عرفتُ معنى الغنى الحقيقي، والقناعة المليحة، مقابل الدناءة القبيحة، التي يستبيحُ المتَّصفونَ بها حُرُماتِ الآخرين وأموالهم وأقوالهم، حين يلوكونَ الناسَ قدْحًا وردْحًا، وحين يسلِّطون عيونهم على ما ليس لهم، فيكونون بذلك أفقَرَ خلقِ الله، فقرُهم كامنٌ في جوارِحِهم، وفِي الربع الخالي من عيونِهم المليئة طمعًا وهلعًا من سعادة الآخرين، الذين يشرئِبّون إلى ما لم يفتْ طمعًا ويبيتون على كل ما فاتَ متحسِّرين نادمين، أولئك الذين يتربَّصون لِلُّقَمِ في الطرقات، ويتصيدون المحارم والشهوات، الذين لم يجدوا القناعةَ في بيوتهم، فحاولوا عبثًا خارجَه، لكنَّهم ظلوا خاسرين خاسئين، ولَم يلتفتوا لمثلِ أولئك الذين شبعت عيونهم قبل بطونهم، فكانوا حلاوةَ الزمن المُرّ، وموسيقا الفرح في مواسم الجمال، أولئك سليلو ابن شدّادٍ حين قال:"ولقد أبيتُ على الطَّوى وأظلُّه حتى أنالَ به كريمَ المَأْكَلِ".
يا لها من حلاوةٍ ما بعدها حلاوة، وأنتَ تؤمنُ راضيًا مرضيًّا، بأنَّ قناعتك في ما لكَ، وأنَّ ما في يدِ الآخرين ليسَ مالَك! وما أجملها من سعادةٍ وأنتَ تتعالى إلى فضاءات العفَّةِ روحًا وجسدًا، ترى قناعتك كنزك الحقيقيّ! وتفرضُ حبّك على القلوب التي تسجدُ احترامًا أمامَ هذا الطَّودِ المتسامي عن كلِّ الشوائب والذنوب!