قائل هذه الجملة (باللهجة النابلسية)، رجلا، كان من كبار رجالات الضفة الغربية، ممن لم يسع يوما أن يَكتب عنه أحد في حياته!. ولما توفاه الله عز وجل، في العام 1995، فإنني لا أجد نفاقا الآن، من ذكر هذه القصة التي يرويها الصديق الدكتور عنان المصري الذي رافق المرحوم الحاج معزوز المصري (رئيس بلدية نابلس الأسبق) لسنوات قبل وفاته.
فمع اشتداد فعاليات الانتفاضة الأولى، واستخدام شتى أساليب القمع لإجهاضها من قبل الجيش الإسرائيلي الذي بدأ بسياسة خلع أقفال المحلات التجارية المغلقة المشاركة في الإضرابات وتركها مفتوحة، من أجل إجبار أصحابها، على عدم تنفيذ قرارات القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة، ثم إلى سياسة "تكسير العظام" التي قادها وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك الجنرال "إسحق رابين"، ثم إلى سياسة منع سفر من هم أقل من "36" عاما إلى الخارج، اللهم بتعهد مشروط لغياب كان يجب أن يستمر 9 أشهر متتالية، ثم إلى سياسة إخراج شباب الحارات والأحياء ليلا، لتنظيف المتاريس... ثم إلى سياسة إجبار كل من استطاع حمل "سطل طراشة" ليلا لمحو الكتابات والشعارات التي كانت تكتب على الجدران نهارا... إلى سياسة فرض نظام منع التجول الذي ابتكره "لأول مرة في التاريخ" "عبيد الله بن زياد بن أبية" قائد جيوش "يزيد بن معاوية بن أبي سفيان"، (قاتل الحسين بن علي بن أبي طالب، حفيد رسول الله في كربلاء قبل 1400 عام).
ثم جاء قرار الجيش الإسرائيلي قبيل عيد فطر، بفرض نظام منع التجول على مدينة جبل النار، ليستمر هذا المنع لأكثر من عشرة أيام. ولزيادة عذاب المواطن النابلسي، قامت قوات الاحتلال بقطع الاتصالات الهاتفية عن المدينة. ولم تكن الأجهزة الخليوية، الموبايلات، والإنترنت، في سنوات تلك الانتفاضة في متناول اليد بعد، بل كانت وسيلة الاتصال الوحيدة هي الهاتف الأرضي فقط.
وجاء صباح يوم العيد، وما زالت المدينة تئن تحت نظام منع التجول، بعد تقطيع أوصالها. ولما كانت العادة في السابق، أن يقوم كبار رجالات الجيش الإسرائيلي، بالاتصال برئيس البلدية، لتهنئته بالأعياد، بل وزيارته إلى بيته أو ديوانه الذي كان يعتبر أحد الدواوين الوطنية الذي تُرسم وتُحل فيه مشاكل المدينة.
وفي صباح يوم العيد، وصل إلى ديوان الحًجي (بالنابلسية)، كبار الضباط الإسرائيليين وعلى رأسهم الجنرال "ابراهام سنيه"، ضابط الإدارة المدنية في الضفة الغربية آنذاك، الذي بادر مهنئا ومبتسما عند مدخل صالون الحاج معزوز المصري قائلا:-
- كل عام وانتم بخير يا حَجي!
وجلس الجنرال ومن معه من قيادات عسكرية في مقاعد أمام "الحجي" مباشرة، قبل أن يدعوهم هو بالجلوس مما دعا الجنرال "افرام سنيه" بالسؤال وبشكل تلقائي :-
- شو في؟ مالك يا حجي؟ خير إن شاء الله؟
عندها أدار "الحاج معزوز" ظهره إلى وفد القيادة العسكرية وبعفويته ونابلسيته المعروفة قائلا وباللهجة النابلسية (القُح) وبصوت عال:-
- أنهو خير هادهِ؟ كيف بِدي أكون بخير وأني مش عارف أزور عيلتي؟ ولا حَدِه من عيلتي أو من البلد عارف يحكي معي ويعًيد عًلي أو ييجي يزورني!... منع تجول وعملتوه!.. وتقطيع تلفونات الناس كمان؟ أي، الله أكبر عليكم!.. أي... قوموا قوموا.. قولوا يا الله! (في إشارة إلى الطرد من ديوانه).
وخرجت قيادة الجيش الإسرائيلي التي كانت تستطيع بذراعها الطويل إحضار رئيس دولة من قصره لتُسمِعهُ أي كلام كان قد يخطر في بال جندي إسرائيلي!
وبعد أقل من ساعة رُفِعَ نظام منع التجول عن مدينة نابلس، وأٌعيد شبك خطوط هواتفها مرة أخرى! وتنفس الناس قليلا الصعداء!
ترى! هل ستأتي اللحظة التي سيقول فيها مفاوضنا الفلسطيني للمفاوض الإسرائيلي:
- "أي قوموا... قوموا!... قولوا يا اللـه!
أم أن حياتنا ستبقى… مفاوضات؟