كانت المرة الأولى التي أشاهد فيها مسؤولاً عربيا رفيعا يتحدث أمام جمهور أمريكي. كنت في ذلك العام 2008 أدرس في جامعة بنسلفانيا في مدينة فيلادلفيا الأمريكية، عندما استضاف مسرح المدينة السفير بندر بن سلطان. إن لم تخني الذاكرة، كان الرجل وقت ذاك سفير المملكة في واشنطن.
كان هناك حفل استقبال باذخ تجمع فيه السعوديون من طلبة وسياح ورجال أعمال، إضافة إلى بعض الفضوليين العرب من أمثالي. أما من الجانب الأمريكي فكان هناك ساسة متقاعدون وموظفون من وزارة الخارجية، وضباط جيش ورجال أعمال معروفين، وأساتذة من الجامعات المختلفة بما فيها جامعات بنسلفانيا وبرنستون وهارفارد.
تحدثت عريفة الحفل معددة مناقب الرجل الكثيرة، منددة في الوقت نفسه بالعرب والسعوديين لأنهم منبع الإرهاب والتخلف والاستبداد واضطهاد المرأة وانتهاك حقوق الإنسان. بالغت تلك المرأة الشقراء حتى أنني لم أستطع كبح ضحكاتي بصوت مرتفع على نحو ينتهك قواعد الآداب والسلوك في مثل هذه المناسبات.
استفسر مني بعض الإخوة السعوديين عن سبب موجة الضحك التي اجتاحتني. كانوا لا يعرفون الإنجليزية، وعلى الرغم من أن "الاستقبال" مكرس من أجل "زعيم" سعودي إلا أن كل شيء تم باللغة الإنجليزية. لكن ما حز في نفس عجوز سعودي طيب هو أنهم لم يحسبوا حساب الترجمة إلى العربية على الرغم من إمكانياتهم الهائلة ووجود الكثير من المترجمين المتمرسين الذين طوروا مهنتهم بفضل العمل في خدمة المخابرات الأمريكية في العراق. ليس من أهمية لعشرات السعوديين والعرب الذين كانوا يحتلون مساحة تناهز نصف عدد المقاعد في حفل استقبال الغني عن الذكر وصاحب الخدمات الجليلة للولايات المتحدة في بلاط فهد وعبد الله وغيرهما. ومن لا يعرف الإنجليزية لم يكن من الضروري بمكان أن يأتي إلى هذا المكان، خصوصاً أن الأمير بندر تحدث بإنجليزية فصيحة تشوبها لكنة أمريكية جميلة، ولم يكن ينقصه إلا القليل جداً لكي يبدو مواطناً أمريكياً ملوناً.
تلقى الأمير بندر الإهانات -أو ما توهمت أنا أنه إهانات- من كل حدب وصوب، سمع بصبر وأجاب بدبلوماسية متروية على السخرية الصريحة من تخلف السعوديين والإسلام ومكة والحرملك العربي.. الخ، وأقسم الأيمان المغلظة على براءته وبراءة مليكه من دماء الأبرياء في مجزرة ناين إلفن الإرهابية الحقيرة- حادثة البرجين الشهيرة-؛ لكن هيهات هيهات. قيل له بوضوح تام إن الموقف السعودي المعادي لحزب الله ليس معادياً بما يكفي، وإن العلاقات مع ديمقراطية الشرق الأوسط اليتيمة إسرائيل لا بد أن ترتقي لمصلحة السعودية أولا وأخيرا. كان بندر بادي الصبر، ولكنه واصل تقديم الوعود طالباً من الجمهور الأمريكي تفهم حاجة السعودية إلى الوقت من أجل الوصول إلى تلبية مطالب العالم الحر كلها ودون استثناء. قال الرجل بدون تلعثم إنه يعرف أن إيران هي الخطر الأساس في المنطقة وإنه لا بد من إبعادها عن سوريا عن طريق استمالة الأخيرة بالمال وغيره. قال أشياء كثيرة عن دور المملكة في دفع الموقف الفلسطيني ناحية الاعتدال، وعندما جاء دوري لأسأله عن ملامح التطرف في موقف السلطة الفلسطينية، قال إنه يتوقع منها المزيد من التفهم لاحتياجات الأمن الإسرائيلية وغيرها.
في ذلك الوقت المبكر، قبل اثني عشر عاماً بالتمام والكمال كانت بذور الموقف السعودي واضحة جلية في مواقف بندر بالذات. وعلى الرغم من أن بندر ليس شاباً الآن إلا أنه يعد من جيل الشبان في السياسة السعودية بالنظر إلى تتلمذه على يد المخابرات الأمريكية وإتقانه المذهل للغة الإنجليزية. ومن أهم مزايا الجيل الشاب في السياسة السعودية إدراكه العميق أن زمن أولاد عبد العزيز الأربعين قد شارف على الانتهاء، وأن مرحلة تأسيس أسرة حاكمة تستند إلى ذرية واحد من الأشقاء قد أزف بالفعل. ويعلم الجيل الحالي أن موارد السعودية المالية في طريقها إلى الانحدار، كما يعلمون أن الاستقرار ينبع من درء عوامل التغيير في المنطقة وعلى رأسها إيران وأتباعها في لبنان والعراق واليمن والبحرين وفوق ذلك كله مناطق شرق السعودية ذاتها. بالطبع لا بد من دفع الثمن غاليا من أجل تسهيل عملية الانتقال التي وقعت بالفعل بمجرد تولي الملك سلمان السلطة. وقد تلقى رئيس أمريكا/التاجر ترامب مئات المليارات ثمناً لدعم انتقال الحكم من سلمان إلى ولده محمد الذي أثبت بسرعة أنه لا يقل جنوناً وارتجالاً عن صديقه ترامب، بل إن كثيرا من المحللين وخبراء السياسة المقارنة يعتقدون أن ترامب ومحمد قد تفوقا على هتلر في حس الارتجال والمغامرة في الأحداث المحلية والدولية على السواء.
في هذا الظرف القيادي المغامر وجدت السعودية نفسها في مواجهة صريحة ومعلنة ضد إيران واليمن وسوريا وقطر وتركيا، وكانت تتوق بالطبع إلى توظيف القضية الفلسطينية في مصلحتها من باب الإبقاء على ورقة للمزاودة العربية والإسلامية. كان صانع السياسة السعودية مقتنعاً بأن تركيا وإيران تلعبان الورقة الفلسطينية لا أكثر وأنهما في حقيقة الأمر لا تكترثان لفلسطين في شيء. تهيأت الفرصة للسعودية بالفعل، فقد كان الموقف الفلسطيني منقسماً على نحو واضح منذ "الربيع" العربي. كانت حماس في معسكر الإخوان المسلمين بقيادة تركيا ووصافة قطر، وكان هناك فصائل صغيرة تتلقى مساندة إيران، بينما كان التيار الرسمي الفلسطيني أي السلطة وحزبها مع السعودية وصولاً إلى تبني مواقف مؤلمة شعبياً من قبيل الاصطفاف مع التحالف العربي السعودي في اليمن ضد أنصار الله وتبني مواقف علنية تندد بالمقاومة اللبنانية… الخ.
إذن كان الفلسطينيون في مستوى السلطة إلى جانب السعودية في مستوى الصراعات العربية /الإقليمية، فما الذي دفع السعودية إلى الانقلاب عليهم وصولاً إلى خروج بندر "حكيم" السياسة السعودية عن طوره ليتحدث بلغة لم يعتدها متهما الفلسطينيين بأسوأ ما يمكن؟
ببساطة واختصار: إن سرعة التغير السياسي قد تجاوزت كل ما فعله الفلسطينيون والسعوديون على السواء. لم يعد هناك من مفر في عصر ترامب/نتانياهو من تسليم مفاتيح كل شيء لأمريكا وإسرائيل. تم نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وبدأ الموقف العلني الأمريكي يميل إلى فكرة أن الضفة الغربية جزء لا يتجزأ من إسرائيل، وماتت وعود أوسلو وأوهامه كلها، وأصبح مطلوباً من العرب الخليجيين أن يصلوا إلى صداقة إسرائيل العلنية مقابل أن تحميهم من إيران وتركيا وأخطار كثيرة أخرى من بينها إمكانية حراك شعوبهم بالذات كما في حالة البحرين والسعودية.
لم يعد هناك سياسياً من خيار سوى التضحية بفلسطين كلها، وتبني المشاريع الأمريكية التي تتطابق مع وجهة النظر الإسرائيلية. لكن هذا على ما يبدو ما لم يكن في حسبان أكثر قيادات السلطة تشاؤماً؛ لم يكونوا في رام الله يتخيلون أن أوسلو ستقود في النهاية إلى ضياع كامل التراب الفلسطيني، وهكذا فإنهم لم يتمكنوا من الموافقة على شروط هذا الزمن الجديد الصريح والشجاع.
في ظل حاجة الخليج المعلنة إلى الحماية الأمريكية والإسرائيلية كان لا بد من الانصياع لما يريده صانع السياسة الأمريكية والإسرائيلية، وهذا ما لم يسمح لهم بالتزام الصمت تجاه "التمنع" الفلسطيني. كان لا بد من "تطبيع" العلاقات ونقلها إلى حيز العلن والتخلي التام عن مساندة الموقف الفلسطيني مما استلزم "توضيحا" سياسياً من جانب بندر يبين فيه "المسوغات" والأسباب التي ستدفع السعودية إلى الانضمام العاجل إلى حلف أصدقاء إسرائيل العلني لتلتحق بركب الإمارات والبحرين والسودان ومصر ...الخ.
لم تكن السعودية في تقديرنا ترغب في "الغدر" بالسلطة الفلسطينية، ولكن سرعة القطار السياسي تجاوزت "الاعتدال" السعودي والفلسطيني على السواء مما يتطلب "تطوير" المواقف لتنسجم مع الفهم الأمريكي/الإسرائيلي الجديد للاعتدال، وهو ما فعلته السعودية وعجزت عنه السلطة التي اكتشفت أنه لا يبقي في فلسطين شيئاً ولا يذر.