الجمعة  22 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

معجم كارل بوبر (الحلقة 13)

ترجمة: سعيد بوخليط

2020-10-18 08:47:13 AM
معجم كارل بوبر (الحلقة 13)
كارل بوبر

  تقديم:

عندما صادفت، منذ عقدين، كتاب الأستاذة الفرنسية روني بوفريس، الصادر حديثا آنذاك. توخيت بداية، إنجاز مقاربة تلخيصية تعريفية للعمل باعتباره عنوانا جديدا على  رفوف المكتبات. لكن بين طيات ذلك، تبين لي أن كتاب: العقلانية النقدية عند كارل بوبر ثم السيرة العلمية لصاحبته، ينطويان على قيمة معرفية كبيرة. لذلك، من الأمانة العلمية والتاريخية إن صح هذا التأكيد إعادة كتابته باللغة العربية.

*اشتغلت روني بوفريس؛ من بين أشياء أخرى، على نظريات كارل بوبر. وترجمت له أعمالا من الإنجليزية إلى الفرنسية؛ لا سيما سيرته الذاتية. كما أن بوبر نفـسه؛ أوكل لها مراجعة الترجمة الفرنسية لعمله الذائع الصيت بؤس التاريخانية.

*اعتبرت روني بوفريس عملها هذا، تقديما عاما لمعجم بوبر المفهومي. ساعية بذلك، إلى جرد ألفبائي للمصطلحات والمفاهيم التي وظفها بوبر، قصد صياغة مشروعه. لقد رصدت وفق تعريفات سريعة لكنها دقيقة وعميقة؛ أهم المفاهيم سواء تلك التي نحتها بوبر، أو توخى في إطارها، على العكس من ذلك، مناقشة أصحابها وإبداء رأيه حولها: العقلانية النقدية/ التحقق/ المعرفة الموضوعية /المحتوى/ النظريات العلمية / تحديد /الديمقراطية / المجتمع المنفتح/ مقولة الأساس/ قابلية التكذيب/ قابلية التزييف والتفنيد/ الرائزية /التاريخانية / العقل و اللغة / اللاوعي/ الاستقراء / الوسائلية /الليبرالية / الماركسية/ الميتافيزيقا / العوالم الثلاث / المجتمع المنغلق /الوضعية/ القابلية / النسبية / الكليانية والطوباوية / التوتاليتارية…

خطاطة مفهومية، تعكس البرنامج النظري والمنهجي الذي خطه بوبر لنفسه. وقد توزع بين: منهجية العلوم؛ فلسفة المعرفة العامة؛ البيولوجيا؛ علم النفس؛ العلوم الاجتماعية؛ تأويلات الفيزياء الحديثة؛ تاريخ الفلسفة؛ فلسفة الأخلاق والسياسة؛ نظرية العلوم الاجتماعية.

أرضية فكرية وعريضة، يتجادل ضمنها مع: أفلاطون وسقراط وهيغل وماركس وفتجنشتاين وهيوم وكانط… إلخ. منحازا أو مختلفا، لكن بمعنى يتجاوز حدي منطق الميتافيزيقا الغربية الثنائي القيمة: صادق أو كاذب، ولا يوجد احتمال ثالث. لأن بوبر يؤكد نصيب الحقيقة من الخطأ. السمة الفكرية التي تهمه؛ أكثر من اليقين والاعتقاد المطلقين.

هكذا ظل بوبر رافضا باستمرار، لكل أنواع الطوباويات والإطارات الشمولية المنغلقة؛ بل والأفكار الرومانسية المنتهية حتما إلى العقيدة الجامدة والدوغماطيقية؛ لأنها تستند بدءا وانتهاء على المرجعية الأحادية.

 لم يكن من باب الصدفة إذن، أن يخرج بوبر آخر أعماله تحت عنوان مثير: "أسطورة الإطار، في دفاع عن العلم والعقلانية". يقول بوبر في تأويل لما أشرت إليه: ((وعلى الرغم من أنني معجب بالتقاليد وعلى وعي بأهميتها. فإنني في الوقت ذاته أكاد أكون مناصرا أصوليا للا-أصولية: إنني أستمسك بأن الأصولية هي الأجل المحتوم للمعرفة، مادام نمو المعرفة يعتمد بالكلية على وجود الاختلاف. وكما نسلم جميعا، الاختلاف في الرأي قد يؤدي إلى النزاع، بل وإلى العنف. وأرى هذا أمرا بالغ السوء حقا، لأنني أستفظع العنف، غير أن الاختلاف في الرأي قد يؤدي أيضا إلى النقاش، وإلى الحجة وإلى النقد المتبادل. وإني أرى هذه الأمور ذات أهمية قصوى، وأزعم أن أوسع خطوة نحو عالم أفضل وأكثر أمنا وسلاما، قد قطعت حين وجدت حروب السيف والرمح لأول مرة من يضطلع بها، وفيما بعد حين حلت محلها في بعض الأحيان حرب الكلمات)) (أسطورة الإطار: في دفاع عن العلم والعقلانية. ترجمة يمنى طريف الخولي. سلسلة عالم المعرفة. أبريل- مايو 2003).

ولكي يتم تسليط الضوء بقوة، على الأفق المتطور لهذا الفكر الإنساني في جوهره، أسرعت بوفريس غير ممتثلة لترتيبها الألفبائي؛ نحو الصفة التي عشق بوبر، أن يسم بها اجتهاداته الفكرية والمنهجية. أقصد تصنيف: العقلانية النقدية.

فما هي إذن أبرز ملامح وتجليات هذه الفلسفة؟ ثم  كيف عملت  بوفريس على توظيف ذلك حين مقاربتها مشروع بوبر؟ لا شك، أن الإجابة عن بعض هذه الأسئلة تخول من جهة أخرى؛ إثارة انتباه القارئ نحو أهم أطروحات هذا العمل، والتي سنقف على مضامينها عبر سلسلة هذه الحلقات.  

 

الوضعية

تتمثل إحدى أكثر التفسيرات الخاطئة التي قد نضفيها على فكر بوبر، في النظر إليه باعتباره وضعيا بينما يعتبر عقلانيا. ففي حين اتجه، جانب من اهتمام الوضعيين إلى استبعاد ادعاءات الميتافيزيقا المعرفية، وقيمها الأخرى، كيفما جاءت، ثم استساغة بعض الفلاسفة انطلاقا من كونها نتيجة غير قابلة للتجاوز، مسألة فشل الميتافيزيقا كمعرفة عقلانية، والتي شكلت رهان الوضعيين، تطلع قسم من مشروع بوبر، صوب رد الاعتبار للميتافيزيقا وكذا رؤيتها المعرفية. إذا صنفنا الوضعية، من جهة ثانية، ضمن إطار كل مقاربة تفضل العلم، وخاصة العلم الطبيعي، لتدقيق نتائجها، ومقابلته مع كل نموذج خطابي آخر، سندرك بأن بوبر يتموقع على النقيض مع كل وضعية. صحيح يهتم بالعلوم، لكن هذا يتأتى من أن الأخيرة تعكس أفضل تطبيق للمنهجية العقلانية.

 ليس بوبر فيلسوفا لخصوصية الخطاب العلمي؛ فدراسة العلم لا تثير اهتمامه سوى ضمن نطاق إظهاره السعي النقدي، كمسار يقع عليه إجماع عام. بهذا المعنى، يمكننا أن نرى فيه فيلسوف وحدة النشاط الإنساني.

النزوع الطبيعي:

تؤكد الكوسمولوجيا البوبرية بأن كل شيء "نزوع طبيعي"، ومختلف خاصيات الفضاء الفيزيائي مهيأة. تجسد مختلف الوقائع في الآن ذاته تحققا لنزوع، ثم إبداعا أو تغيرا في النزوعات الطبيعية بالنسبة للمستقبل. هكذا، فالحالة الفعلية، لنظام فيزيائي خلال كل لحظة، بمثابة حصيلة لنزوعاته. يرتكز العالَم الفيزيائي على: "تغيير متغيرات النزوعات الطبيعية". الأساسي، أنه مفهوم، لا يستبعد الحتمية تماما، لكنه بالأحرى، قيمة تقريبية، انطلاقا من "مبدأ التطابق".

 يعتقد بوبر في إمكانية تحقق تنبؤات، بناء على الحس المشترك، أكثر من قاعدة وضعية معطاة. لكن قيمتها تختلف، أولا تبعا للوقائع، ثم حسب ابتعاد اللحظات التي تقوم عليها: فقط بالنسبة إليه، تصبح حتمية بيير لابلاس ملائمة أكثر فأكثر، حين اقترابنا من اللحظة التي نتنبأ بها، وليس لأن المعلومة تضاعفت. أيضا نتيجة خاصيات "النزوعات الطبيعية"، تكون كل واحدة بمثابة وظيفة للنزوع  الذي تتسم به لحظة سابقة.

 تسمح هذه النظرية على الإقرار بـ العالم غير قابل للتحديد، دون أن تحوله إلى سديم، وإعطاء تأويل ارتيابي لبرنامج أينشتاين الحتمي، وكذا إعادة تأويل موضوعي وواقعي للنظرية الكوانطية. النتيجة، رؤية للعالم وقد تضمن موقعا لظواهر بيولوجية وكذا العقل الإنساني.

العقلانية النقدية:

تسمية وظفها كارل بوبر، من أجل تصنيف مجموع فلسفته (فلسفة العلوم والفلسفة السياسية)، كما أشرنا سابقا ضمن سياق مقدمة هذا المعجم الصغير، والمختصر جدا ما دام لا يتيح سوى مقاربة أولية لفكر بوبر. تستند نقطة انطلاقه على ملاحظته لجهلنا وكذا قابلية وقوعنا في براثن الخطأ، بهذا المعنى يعود بوبر إلى سقراط، وقد أعجب به  أيما إعجاب.

 ومثلما كتب آلان بوير وأوضحناه، فكل معرفة لدى بوبر: "تضاعف عدد أسئلتنا، لكن  ليس من الضروري تبني معيار أو منهجية لكي نتطور، إذا لم نكن مستعدين للاستفادة من أخطائنا، وإخضاع أفكارنا لنقد الآخرين. لا ينصب السؤال المركزي للابستمولوجية، على الجوهري، لكنه يتعلق بشروط إمكانية نمو المعارف. كان هيوم صائبا، حينما أكد بأن الاستقراء غير مبرر منطقيا، ولا حتى ضروريا: "العلم تطور لصياغة وانتقاء الفرضيات، وليس انتقالا استقرائيا من الملاحَظ إلى غير الملاحَظ". ليست العقلانية النقدية بمرادف ل"صفحة بيضاء".

على المستوى السياسي، يعكس الإصلاح الواعي، بمقاومة المادة الاجتماعية لمساعينا بخصوص تغيير المجتمع، الموقف الأكثر عقلانية. التاريخ غير محدد بكيفية حتمية، لذلك بدل البحث عن تحقيق السعادة للجميع، التطلع الرائع الذي اقترفت من أجل تبريره جرائم وتمت التضحية بأجيال كاملة، يجدر بالأحرى توجيه السعي نحو تقليص المآسي. العقلانية النقدية حصيلة لـ"المجتمع المنفتح". يتوخى العقل النقدي الحلول محل العنف: يتعلق الأمر، بأن نتعلم قتل الأفكار عبر نقاش عام عقلاني عوض التضحية بحاملي هذه الأفكار.

 يدرك العقلاني النقدي، حسب بوبر، أن اختيار العقل، يقوم على فعل إيماني  طوعي وغير عقلاني. وشكل بداية اختياره العقلانية النقدية، موضوع قرار لم يكن مبررا عقلانيا، سوى بكراهية العنف.

 

*المصدر:

Renée Bouveresse :le rationalisme critique de karl popper ;ellipses ;2000.