في العام 2014، انطلق البرنامج الكوميدي الإسرائيلي "اليهود قادمون"، الذي يخرجه كوبي حبايه، والذي يحرص الكثيرون على متابعته بشغف لما يقدِّمه من نقد لاذع للأسطوريات التاريخية منذ اليهودية وحتى الصهيونية. وقد أثار مقطع "مردخاي وإستير" في إحدى حلقاته سجالاً حاداً في الأوساط الصهيونية لأنه قدَّم هاتين الشخصيتين المركزيتين في "سفر إستير" التناخي كقوَّاد وعاهرة لدى الملك الفارسي سيء السمعة والصيت أحشويروش.
وعلى الرغم مما يكتنف "العهد القديم" عموماً، و"سفر إستير" الكتاباتي، على وجه التحديد، من انعدام للدقة التاريخية، إلا أنه لا يزال صالحاً كاستعارة سياسية. فعلى ما جرت عليه "العادة" التاريخية، تلعب المرأة واليهود دوراً بارزاً في زعزعة السلطة، إذ تقول الأسطورة إن أكثر مشكلتين استعصاءً على أحشويروش كانتا: نشوز زوجته، وإفساد اليهود (من سبي نبوخذ نصر البابلي) للبلاد.
وبما أن عقل السلطة تشكِّله ألسنة الحاشية، فقد استأنس الملك برأي الخصيان من حرَّاس الحريم في حلِّ المشكلة الأولى، واستشار الوزير هامان لحل المشكلة الأخرى. قال الخصيان إن تلقين الملكة درساً لن تنساه لن يتم إلا باختيار عذراء من بين جميلات الإمبراطورية بعد تدريبها وتهيئتها، جسداً وطبعاً، للملك؛ فيما أشار هامان بضرورة "إبادة" اليهود. وللمفارقة السعيدة، تناهى خبر مِحنة الملك ومَحنته إلى أذني مردخاي الذي رأى في ابنة أخيه إستير عذراء نموذجية لأداء هذا البغاء التأديبي، وأداة فعَّالة لإجهاض مخططات هامان الفاشية.
يقع الملك الأهوج في غواية إستير، وخلال زمن قصير تتمكن إستير، التي صارت ملكة على بلاد فارس، من قلب السحر على الساحر: فبدلاً من إبادة اليهود المفسدين في الأرض وتعليقهم على المشانق، يتحوَّل الموعد المضروب للتنفيذ إلى يوم فرح لأبناء الله المختارين بالقرعة، إلى لحظة إفشال للمؤامرة يُمحق فيها هامان وأتباعه... ويصير ذكره عيداً للمساخر-"بوريم".
في الشرق، تبدأ فصول الأسطورة بالبغاء الفعلي وتنتهي بعيد المساخر في منتصف آذار؛ أما في الغرب، فبغاء سياسي وعيد مساخر مفتوح تحتضنه ردهات البيت الأبيض الأمريكي وحديقته. فبعد أقل من عام على تنصيبه وتلاشي وطأة "نشوز" زوجته وضغط قضايا التحرُّش والفساد، استنفر الرئيس الأمريكي المعتوه وزراءه، ومستشاريه، وخصيانه، وقوَّاديه، من العرب والعجم والروم... جاعلاً أربع سنوات متتالية عيداً مفتوحاً للمساخر:
ففي 6 كانون الأول 2017، وقَّع مرسوماً يعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل وينقل بموجبه سفارة بلاده إليها؛ وفي 25 آذار 2019 وقَّع مرسوماً آخر يعترف بموجبه بسيادة إسرائيل على الجولان السوري المحتل؛ وفي 25 حزيران 2019 عقد صهره المدلل "ورشة السلام من أجل الازدهار" في منامة البحرين بحضور السعودية ومصر والأردن والإمارات والمغرب وقطر؛ وفي 28 كانون الثاني 2020 أعلن "صفقة القرن" بحضور الخصوم الإسرائيليين وسفراء الإمارات والبحرين وعُمان؛ وفي 15 أيلول 2020 وقَّع الاتفاقين الإماراتي الإسرائيلي والبحريني الإسرائيلي في جلسة واحدة عنوانها "اتفاق أبراهام"، وكان قد أعلن عنها تباعاً في 13 آب 2020 و 11 أيلول 2020؛ وأخيراً، أعلن في 23 تشرين الأول 2020 عن رفع اسم السودان من قائمة الإرهاب العالمي، وموافقتها على تطبيع العلاقات مع إسرائيل.
وفيما تنطبق الاستعارة التوراتية حول الملك الفارسي على الرئيس الأمريكي المعتوه، تتبادل القيادة الإسرائيلية والقيادات العربية أدوار القوادة والعهر في الاتفاقيات الإبراهيمية والأدوار غير الإبراهيمية. أما القيادة الفلسطينية، فلا ينطبق عليها شيء لأنها لا تكاد تكون صالحة حتى كطرف تاريخي في استعارة غير تاريخية... ربما ينطبق عليها تشبيه أطلقه فيلسوف، يقال له جيجيك، على القيادات السياسية العربية المنهارة في حقبة "ثورات الربيع العربي": تبدو القيادة كالقط "توم" في ذروة مطاردة مع الفأر "جيري"، حيث ينقاد القط عاثر الحظ إلى موته، ولا ينتبه أنه على وشك السقوط إلا بعد تجاوز الحافة، ليبدأ الركض المحموم في الهواء قبل السقوط في الهاوية!
لا شيء كان في انتظار القيادة الفلسطينية إلا الهواء بعد فشل رهانها على الحصان الأمريكي، والبغل الإسرائيلي، والحمار العربي.... لا شيء غير الهاوية بعد معاداتها لخيار المقاومة، وسلاح المقاطعة، ومحاربة التطبيع... لا شيء. ولا شيء تبقَّى عندها، اللهم مقترح أحد "فلاسفتها" بجعل "اليأس" طريقاً للخلاص. هذا هو زمن العبيد من العرب والفلسطينيين، الذين اختاروا الوهم على الحقيقة، والذي لا يحتاج إلى مزيد من الهجاء بكل تأكيد، ولا إلى مزيد التشخيص، اللهم لمحاسبة من أساء الرهان وهو يعلم أن الحرية ليست موضوعاً للمراهنة، وأن القوادة لا يمكن أن تكون طريقاً للتحرير.
أما زمن الحرية، فيبدأ من السجن الأصغر حيث يكتب ماهر الأخرس وصيته، وحيث كريم يونس ووليد دقَّة... ومعهم ستة آلاف من الأسرى والأسيرات الفلسطينيين، والمحاصرون في السجن الأكبر، واللاجئون في الشتات: أن القضية الفلسطينية لا تحتاج إلى "رؤية" أحد، إذ الخلاف ليس خلافاً في الرؤى بين "الأطراف"، بل هو صراع بقاء فعلي بين حركة التحرر الوطني الفلسطينية ومناصريها وحركة الاستعمار الاستيطاني الصهيونية وداعميها؛ وأن كل من لا يعيد الصراع إلى أوَّله بين هاتين الحركتين سيساهم في إدامة عيد المساخر، وتواصل زمن العبيد، الذين "أطاعوا رومهم، وباعوا روحهم، وضاعوا..." وأضاعوا شعوبهم بين "مباركة مردخاي" و"لعنة هامان" في حفلات البيت الأبيض، ولم يظفر أحد منهم حتى بحلوى عيد المساخر... قليلاً من "آذان هامان" الذي من الواضح أنه لم يكن أبكم، لكنَّه كان غاية في الصمم والعمى.