خلال السنوات الخمس الماضية، عشنا في فلسطين ارتفاعا متواصلا في أسعار الفوائد، ناتجا عن تسييل بعض الأسهم الرئيسة بالبورصة وضخها في السوق المالي، نمت على أثرها الودائع وزادت التسهيلات الفردية وتسهيلات المنشآت الصغيرة والمتوسطة SMEs. وبالنظر إلى الأرقام نلاحظ ارتفاعا في الودائع -كملاذ آمن للأموال المسيلة- مدفوعا بارتفاع كبير في أسعار الفوائد لدى البنوك والتي تجاهلها المنظم تحت بند "السوق المفتوح والمنافسة". فقد دفعت وضعية الثور بالمعنى المالي “Bullish” المصارف إلى المنافسة العمياء -المغذاة بأهداف صعبة المنال لطواقم مبيعاتهم – وبالتالي إلى رفع أسعار فوائد الودائع المربوطة بالدولار الأمريكي إلى 4.75% سنويا والشيقل إلى 5.75% ، علاوة عن تكلفتين إضافيتين متمثلتين بالاحتياطي الإجباري وضمان الودائع، مما زاد من التكلفة الحقيقية للودائع بوجه عام.
بالطبع مقابل ذلك ارتفعت أسعار الإقراض للأفراد لحوالي 8.00% "متناقص" للدولار و11% للشيقل وأيضا هنا لم يتدخل المنظم على اعتبار أن كل مصرف يحتسب تكلفة أمواله وعليها يسعر منتجاته. أما تسهيلات الشركات والمنشآت العائلية القوية –والتي تشكل حصة الأسد- فقد أدت قوتهم بالمساومة النابعة من انخفاض نسبة المخاطر والتعثر لديهم، إلى اقتراضهم بنفس الأسعار المعهودة المنخفضة والتي لم تستطع المصارف رفعها لأكثر من 4.50 - 5.50% على أعلى تقدير. وبالتالي تآكلت هوامش بعض المصارف المتسرعة وشاهدنا ذلك في ميزانياتهم المدققة والمنتشرة على صفحاتهم الإلكترونية.
هذا ما حصل ولكن ليس هو الأهم والأخطر من ناحية تداعيات هذا النهج على المدى المتوسط، فقد أدى سباق الفوائد إلى احتفاظ البعض الآخر من المصارف "الفريق الثاني" بودائعها. تلك المصارف التي اختارت التروي واحتساب التكلفة الحقيقية وإبقاء أسعار الفوائد كما هي وحسب الأسعار العالمية. فقد نضب المال المتوفر للإقراض وخزن في مصارف متحفظة عن الإقراض لأسباب طبيعية، والذي لم تعيره لجان الأصول والخصوم" ALCO" في المصارف الأخرى "الفريق الثاني" الأهمية المطلوبة من حيث استمرارية التوسع بالمنافسة على الكعكة بدل المنافسة لتكبيرها وبعد ذلك مشاركتها. فقد أخذ هذا الفريق من المصارف وضعية الحذر المتحفظ أو بمعنى آخر وضعية الدب بالمعنى المالي "Bearish"، بودائعه وإن انخفضت نسبيا ولكن مالا غير مقرض وغير مستثمر توفر لديهم، وبالتالي الاحتفاظ به سيزيد من التكلفة وبالأخص في ظروف صعبة انخفضت فيها شهية الإقراض وهنا فرصة ذهبية للاستثمار.
وبتحليل ما ذكر أعلاه، نلاحظ قوى العرض والطلب في سوق المال وبينهم منظم انحصر عمله بالرقابة ولكنه لا يعمل بالفراغ وله رديف / شريك في السوق، متين وله تشريعات تحكم عمله وتحمي المتعاملين معه، إنه سوق رأس المال. فكيف يمكن تكامل السوقين في توفير الاستقرار النقدي والمالي في فلسطين وفتح قنوات الاستثمار في ظل تباطؤ الإقراض وتخفيض أسعار الفوائد لمستويات تنعش الاقتصاد وتضخ أموالا منخفضة التكلفة لمستحقيها بدون استعمال مفردات مثل صندوق استدامة والقلق من الفوائد التعاقدية وغيرها من المفردات غير المفهومة للمواطن الذي يطلب فقط استشعار نتائجها والاستفادة منها في جو من الشفافية والمساءلة.
لدينا اليوم ما لا يقل عن مليار دولار من القروض السكنية الممنوحة حسب التعليمات ولفترات تتجاوز 10 سنوات بالحد الأدنى ومضمونة "غالبيتها" برهونات عقارية وبوالص تأمين على حياة المقترضين وبنسبة تعثر لا تذكر "0.7% تقديري". هذه ثروة غير مستغلة ممكن لسوق رأس المال أن يعيد ضخ جزء منها وإنعاش السوق الثانوي في البورصة وتحريك المال الراكد لدى المصارف ومنحهم فرصة للاستثمار الآمن وبعائد معقول. الأهم هو كسر حكر المنافسة على استقطاب الودائع بأي ثمن وتوفير نافذة أموال داعمة للمصارف، متوسطة الأجل "5 سنوات" وبتكلفة أقل تعزز من هوامش فوائدهم في الإقراض لقطاعات متعطشة مشغلة للأيدي العاملة ورافدة للاقتصاد. نتحدث عن إصدار سندات مدعومة بالرهونات العقارية المحلية وإعادة تمويل "توريق" القروض العقارية المضمونة وضخ مئات ملايين الدولارات بالسوق من خلال هذه السندات وبأسعار فوائد معقولة لجميع الأطراف.
ليس حلا سحريا، بل إنه حل نابع من تكامل في رؤى المنظمين التوأم سلطة النقد وهيئة سوق رأس المال لتحفيز الاقتصاد وتعزيز الاستقرار المالي والنقدي من خلال تخفيض أسعار الفوائد وخلق سعر فائدة السوق للدولار في فلسطين USD Market Rate وتنوع مصادر الأموال والاستثمار وكسر التنافسية بالفوائد وإظهار قوة المنافسة بالخدمات وفتح شهية الإقراض للقطاعات المحتاجة بأسعار معقولة. النتيجة واضحة، تحفيز الاستثمار لفوائض أموال بعض البنوك بدون هامش مخاطر أعلى، استقطاب استثمارات القطاع الخاص مثل شركات التأمين وتحفيز السوق المالي / البورصة من خلال السوق الثانوي.
عندها سينتهي السباق لمصلحة الوطن المواطن.