الأحد  24 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

جناحان في السماء/ بقلم: د. سامر العاصي

2020-10-29 12:11:48 PM
جناحان في السماء/ بقلم: د. سامر العاصي
د. سامر العاصي

 

يروي الصديق سعيد كنعان "أبو مصباح"، ما جرى في نابلس صباح يوم الاثنين، 2 حزيران 1980 ويقول:-

   بعد سهرة امتدت حتى الحادية عشرة ليلا من مساء يوم الأحد، وبعد أن غادرنا وزوجتي منزل عمها المرحوم بسام الشكعة رئيس بلدية نابلس آنذاك، حتى التقينا عند بوابة بيته، القريب من مستشفى رفيديا، بدورية إسرائيلية عسكرية، سرعان ما خرج رأس قائدها من شباك بابها اليمين وهو يقول بصوت متعجرف:-

- شو بتعمل هون يا سيد "كنعان"؟ ياللا روخ بيت!... ويكمل أبو مصباح حديثه ويقول، عندها قلت لزوجتي:- أكيد رح يصير إشي! الله يستر!

وعند الساعة الثامنة من ذاك الصباح، هز انفجار عظيم المنطقة الغربية من نابلس. وسرعان ما انتشرت الشائعة بأن "قصفا جويا" قد دمر منزل أبو نضال!، ثم ليتأكد بعدها سمع خبرا، بأن لغما وضع في سيارة الشكعة قد أودى بحياته، (وهو ما أعلن عن مسؤوليته تنظيم صهيوني إرهابي بعد ذلك). وفي تلك الدقائق الحاسمة، حمل "نضال" والده، الذي كان ينزف بشدة، بعد أن بترت قدماه، ومعه رجل (لا يدري نضال حتى اللحظة كيف ومن أين وصل هذا الرجل!).

وقبل أن يغيب "بسام" عن وعيه لساعات، كانت كلماته لزوجته التي ظلت منهارة في البكاء-:-

- عنايه!... خليكي قوية، أنا فداء شعبي.

ووضِع "أبو نضال" في سيارة، التي ما إن وصلت مستشفى رفيديا، حتى تم إدخاله إلى غرفة العمليات. وانتشر الخبر في المدينة كالنار في الهشيم. وخرج الشباب النابلسيون عن بكرة أبيهم ليحيطوا بالمستشفى بعد أن وردت الشائعات بأن الحاكم العسكري ينوي زيارة ضحيته. وما هي إلا دقائق حتى وصلت جموع القرى والمخيمات الغاضبة إلى المستشفى وهي تردد من أعماق حناجرها-

- بره... بره ... المحتل يطلع بره!

ومع أن الحشد الجماهيري استقبل نبأ "بتر الساقين" بألم وحزن شديدين، إلا أن التأكيد ببقاء أبو نضال على قيد الحياة قد ساهم في رفع معنويات المواطن النابلسي الذي كان يرى في الرجل رمزا لعنفوان وكبرياء مدينته "جبل النار"، وعنوانا وبوابة للتحدي ومقارعة الاحتلال.

ولم يكن "النوابلسة" وحدهم يقفون عند أبواب غرفة العمليات، بل كان هناك العشرات من الصحافيين الذين أرادوا الدخول إلى غرفة الإنعاش لتسجيل ما سيقوله الرجل بعد هذا الحادث الذي قد يسبب تغييرا في حياته، أو  وعلى الأقل، في أسلوب نضاله.

وبعد أن سُمِحَ لعائلة أبو نضال بالدخول للاطمئنان عليه، علم الرجل أن الصحافيين الأجانب وبأمر من الأطباء سيتم صرفهم ومنعهم من الوصول إليه، بعد أن وصفت حالته الصحية بأنها لا تزال "حرجة للغاية". عندها أصر أبو نضال على السماح لجميع الصحافيين بالدخول ليتحدث إليهم وأنه يتحمل المسؤولية الطبية عما قد يحدث. وكان السؤال الأول والعفوي لمندوب ال CNN لأبو نضال:-

- مستر شكعة، ألا تلاحظ بأنك تبتسم رغم ما حل بك!.

وجاء الرد الفوري الذي أصبح شعارا وطنيا تتناقله من بعد ذلك الأجيال:-

  - لقد تجذرت الآن في الأرض الفلسطينية أكثر، حين زرعوا فيها أقدامي، وأصبحت إليها أقرب! وهم، ومهما فعلوا بي، فلن يستطيعوا وقف نضالي.

واحتلت حادثة وكلمات الرجل عناوين نشرات الأخبار والصحف في العالم العربي وفي العالم كله. وازداد احترام الشعوب وقادة العالم لرئيس بلدية نابلس، الذي رفض رفضا مطلقا نقله (بطائرة هليوكبتر عسكرية) للعلاج في المستشفيات الإسرائيلية، لا بل إن الرجل تمنى الموت على أن يعالج في إسرائيل.

هكذا هي نابلس عندما تجود برجالاتها.

وهكذا، استبدل القدر "أرجل" أبا نضال، بجناحين جعلا اسمه يحلق عاليا في تاريخ المقاومة الفلسطينية وتاريخ الشهداء.

وفهم مئات الملايين في العالم أن الفلسطينيين بحاجة إلى الحماية من إرهاب المحتل. وتوقف التنظيم السري للمحتل الإرهابي عن تقطيع أرجل المدنيين الفلسطينيين العُزّل، بعد أن جاءته التنديدات من جميع أنحاء العالم.

ترى، هل بقي جناحا "أبو نضال" يرفرفان فوق أرض المقاومة والنضال، أم أنهما طارا معه بعيدا إلى السماء؟