الحدث فكر ونقد
صدر أخيرًا كتاب "الصوت الآخر: مقدّمة إلى ظواهريّة التحوّل"، لحسين البرغوثي، عن "الدار الأهليّة - عمّان"، وهي أطروحته الدكتوراة المُنْجَزَة في "جامعة واشنظن" في سياتل عام 1992. وقد حوّلها إلى العربيّة وأعدّها للنشر في كتاب، الشاعر والناقد عبد الرحيم الشيخ. غلاف الكتاب من تصميم الشاعر زهير أبو شايب، ولوحته للفنّان أمير صادق طهراني.
تنشر صحيفة الحدث وفُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة، بالتزامن، مقدّمة الكتاب بقلم الشيخ، على ثلاثة أجزاء خلال تشرين الثاني (نوفمبر) الحاليّ. هنا الجزء الأوّل منها، وعنوانه "لعبة المتاهة".
المقدمة
لم يشعر حسين البرغوثي، مرّة، بالذنب لصعوبة كتاباته، ولم يعتذر، بل ظلّ مصرًّا على أنّه "إنسان يُساء فهمه" (البرغوثي، 2001)، فضلًا على أنّ اللغة "سحر أسود" لا تكفّ عن ممارسة موهبتها في التسبّب في "إساءة الفهم". لكنّ البرغوثي كان يحرِّض على نوع آخر من "إساءة الفهم" في القراءة، ستُبيّنه، جزئيًّا، وصيّته حول كيفيّة قراءة نصوصه. ولذا؛ لا ينبغي الإحساس بالذنب، ولا الاعتذار، خلال تقديمه الّذي سيظلّ إشكاليًّا مهما مارس المرء من تحرُّز. آمن البرغوثي بمقولة لوكوربوزييه إنّ "الخطّة" هي الضمانة ضدّ "النزوة" (البرغوثي، 1999)، لكنّه قلّما التزم بذلك خلال الكتابة. وعلى ذاك؛ سألزم نفسي بخطّة في تقديم "الصوت الآخر" تكون ضمانة ضدّ نزوة الاستطراد، مكتفيًا بالإضاءة على موقعيّته وتحويله وفحواه، عبر ثلاثة تمارين ذهنيّة عُليا قضى البرغوثي حياته في ممارستها: لعبة المتاهة، واستئلاف الموحش، وتقطير الوجود.
في "لعبة المتاهة"، لا أشرح "الصوت الآخر" عبر نتاج البرغوثي، بل أبيّن موقعيّته فحسب، وأمنح بعض المفاتيح. وفي "استئلاف الموحش"، أبثّ بعض الإضاءات الّتي أحاطت بإعادة "الصوت الآخر" من الإنجليزيّة إلى العربيّة، لا "ترجمةً"، ولا "نقلًا"، ولا "استزراعًا"، بل "تحويلًا" يبدو فيه كأنّه صيغَ بالعربيّة بيد البرغوثي نفسه، وبحسّ الفكاهة ذاته، بعد قرابة ثلاثة عقود على كتابته، وعقدين على وفاة كاتبه. وفي "تقطير الوجود"، أُوجز النصّ النظريّ العسير الّذي كان البرغوثي خلال كتابته يفكّر كفيلسوف، ويكتب كشاعر، ويعيش كإنسان. ولكي أُقدّمه للقارئ، اليوم، كان عليّ تعديل تلك السيرورة: بالتفكير كشاعر، والكتابة كفيلسوف، وتأجيل العيش، خارج الكتابة، إلى حين الانتهاء منها.
كثيرًا ما يتذمّر قرّاء الأعمال "المحوَّلة"، أو "المستزرَعة"، أو "المنقولة"، أو "المترجمة"، من فحوى المقدّمات وطولها. وللقارئ الكفء، بالتأكيد، الحرّيّة التامّة في الذهاب مباشرة إلى نصّ "الصوت الآخر"، وخوض غماره. لكنّ ثمّة الكثير ممّا ينبغي قوله عن وعورة النصّ الّذي يبدو موحشًا كمتاهة قُطِّر فيها الوجود دفعةً واحدة، ودون استئلاف ... يبدو "الصوت الآخر" كذلك؛ لأنّه كذلك، وهذه ثلاثة مفاتيح ممكنة للقراءة، وإن لم تكن القراءة ممكنة يتوجّب الإصغاء.
لعبة المتاهة
على الرغم من أنّه قال مرّة: "لا أكتب المتاهات، بل "حكمة المتاهات". وكتابي نفسي. مثلما قلتُ في "ما قالته الغجريّة": "مَن علّمك الرقص؟ قالت: متاهة"" (البرغوثي، 2000)، إلّا أنّ "المتاهة" مفهوم عصيّ على التحديد في كتابات البرغوثي؛ لأنّها هي المتاهة. ذلك أنّ "الأنا"، الّتي يصفها بأنّها "مركز السراب"، تبدو خريطة ذاتِها الوحيدة الّتي يصطاد فيها الجسدُ الروحَ، فيتنافسان على أدوار الفاعليّة والمفعوليّة بين "الأنا" و"سواها" بتوسُّط لغويّ في النتاجات الشعريّة، والسرديّة، والنقديّة. ومن هنا تأتي أهمّيّة التدرُّب على اجتياز "المتاهة" الّتي تتحوّل، تدريجيًّا، من "حالة ذهنيّة مَرَضيّة" إلى "لعبة كتابيّة إبداعيّة" لا بدّ من سبرها: بداية، ونهاية، ومسارب.
متاهة البداية تنشأ نتيجة الغموض المفرط أو الوضوح المفرط. أمّا الغموض فمثاله خوارزميّات الرياضيّات المقدّسة، الّتي حاول البرغوثي سبرها لفهم بنى الشعر الكلاسيكيِّ في "بلاد العميان"، استنادًا إلى دراسة خرائط الفلك وطقوس الوثنيّة عند عرب ما قبل الدعوة (البرغوثي، 2003). وقد تسبّب الخوض المنطقيّ في قصص خياليّة متعدّدة الروايات، منها التاريخيّ ومنها فوق التاريخيِّ، بالوقوع في متاهة سرمديّة صنعها هو نفسه، وهي لا تكاد تنتهي إن لم يمتلك السائر شغفَ بحثٍ (روح طفل)، وإرادةَ مواجهةٍ (روح أسد)، وطاقةَ احتمالٍ (روح جمل)، تبعًا لخطاطة نيتشه الشهيرة (البرغوثي، 1998-ب). وأمّا الوضوح فيسبِّبه سوء تفاهم استيهاميّ بين "الأنا" ومحيطها، سواء في إنتاج نصّ يشبه المتاهة، كالخطّ المستقيم الّذي تُخطَّط استنادًا إليه مدينة متعدّدة الميادين، أو في إعطاء تفسير له بغية إنتاج معنًى يصير متاهة جديدة، تكوِّنها المقاصد الشعريّة والمقاصد المنطقيّة (البرغوثي، 1992). فالمتاهة، إذن، "حالة ذهنيّة" ناشئة عن ظروف تحيط بواقع "الأنا الواعية" الّذي تعيشه، وتحول دون بلوغ اليقين. وبهذا المعنى، فـ"الصوت الآخر" متاهة بدايةٍ بالغة الغموض، خلاصتُها: "لا وجود للأنا، بل لصورها"؛ ومتاهة بدايةٍ بالغة الوضوح، خلاصتُها: "خَطِّيّة الصور تحجب الأنا".
تصير "الأنا"، في المنفى (الخارجيِّ أو الجوّانيِّ)، كالمقيم في بلاد مبنيّة على ظهر حوت، وفجأة يتحرّك الحوت نحو الأعماق، حيث يغرق كلّ شيء، وأوّل ما يغرق "الفكرة عن الثبات"
أمّا متاهة المسارب فتتعدّد، تبعًا للنقطة الّتي يفقد فيها السائر "نقطة الثبات"، كمرجعيّة الوطن والذاكرة الأليفة، حيث يتحوّل الحنين إليهما إلى متاهة (البرغوثي، 2001). هنا، تصير "الأنا"، في المنفى (الخارجيِّ أو الجوّانيِّ)، كالمقيم في بلاد مبنيّة على ظهر حوت، وفجأة يتحرّك الحوت نحو الأعماق، حيث يغرق كلّ شيء، وأوّل ما يغرق "الفكرة عن الثبات". وفي هذه الحالة، على "الأنا" أن تكون متمرِّسة على العيش في عالم الهامش الّذي لا روح فيه، وسلاحها الوحيد هو "عشق المسافة" لتمكين الروح من الاهتجار والرقص في عوالمها بتقنيّة خاصّة: أن يكتم المرء أقصاه عمّن يحيطون به، مثل مركز الدائرة "محيطها يلامس الهواء خارجها، ولكنّه مقفل". ولا يتحقّق ذلك إلّا عبر قناع "العاديّة". لم يرتدِ البرغوثي قناعًا واحدًا بل سبعة، وقد تعلّم "نشيد الأقنعة" من نيتشه، واحدًا لكلّ يوم في الأسبوع، يبعد الناس عن "مركز روحه" ليرقص وحده بعيدًا عن مجتمع "المؤمنين" الّذي قلّ فيه "العارفون". ولضمان الوصول، ينبغي أن تكون "الأنا" قادرة على ممارسة هذا "الرقص الروحيِّ"، الّذي لا يَدخل من يتعلّمه "المتاهة" إلّا ليَخرج منها إن "انتفع بما تعلّمه"، و"لم يوقظ القوى النائمة" فيه، واكتسب "القدرة على التمييز" الضامن لـ"معرفة الميول" الّتي تؤمّن "معرفة القَدَر"، الّتي تفضي إلى "معرفة الحاجات"، الّتي توضح للأنا مسارها إلى خارج المتاهة ... (البرغوثي، 1999). وبهذا المعنى، فـ"الصوت الآخر" متاهة مسارب، ونشيد أقنعة متعدّدة الأقانيم (إذا مقصودة بالمعنى فصواب)، لا يكاد يبني "فكرة عن الثبات" حتّى يُغرقها في الأعماق، ويصعد من جديد.
يكون المخرَج من المتاهة، بعودة الإدراك للأنا المتعرِّفة على "خريطتها الميلاديّة"، والإحداثيّات المتفرِّعة عنها. مسارب هذه المتاهة، لأنا واعية تبحث عن "ياء ملكيّتها" لأشياء الوعي الّتي فقدتْها بين ذاكرتين
وأمّا متاهة النهاية فحالة من "فقدان الإدراك" ينجم عنها تيهٌ بين الجهات، وإحساس بالضياع، وفقدان للعلامة الّتي تدلّ على المخرَج. وهي حالة مَرَضيّة تكرّرت معاناة البرغوثي منها، لكنّه استنتج، بالدُّربة، أنّ الجهات وهْم ذهنيّ، وأنّ "الأنا" هي نقطة الثبات والمركز الّذي ينبغي العودة إليه (البرغوثي، 1996-ب). فبين الإدراك (Cognition) وإعادة إدراكه (Re-cognition)، لا يحدث فقط الـ(ديجا فو Déjà vu) كأنّه "ما حدث للتوّ"، بل يجري استئلاف ما كان غريبًا ليصير الـمُستألَف (Uncanny) فرقًا متاهيًّا بين ذاكرتين للسائر نفسه: واحدة لها غاية وخريطة مرجعيّة، وأخرى دونهما، تقود صاحبها إلى تخوم "اللامُسمّى"، وراء حدود الوعي وأشيائه. تسعى الأنا، في رحلة دائبة بين هاتين الذاكرتين، حاملة حنين عَودها الأبديّ من ذاكرة إلى أخرى، ويستمرّ هذا "الانخلاع من الإطار" إلى أن تظفر الذات بـ"علامة" تُعيدها إلى المكان الأصليِّ، الّذي يبقى "غايةً في الميلاديّة" في انتظارها ... هنا، يكون المخرَج من المتاهة، بعودة الإدراك للأنا المتعرِّفة على "خريطتها الميلاديّة"، والإحداثيّات المتفرِّعة عنها. مسارب هذه المتاهة، لأنا واعية تبحث عن "ياء ملكيّتها" لأشياء الوعي الّتي فقدتْها بين ذاكرتين، تشبه ممثّلًا يذهب لرؤية فيلم سينمائيٍّ هو بطله الرئيس؛ أو هنديًّا أحمر يعتقد بوجوده في "حلمٍ يحلمه"، ليس الهنديّ فاعل الحلم بل نائب فاعله المتفرِّج فحسب، "شيء" من "أشياء وعيه" فحسب. وبهذا المعنى، فـ"الصوت الآخر" متاهة نهايةٍ، تضع كلّ "إدراك" بين قوسين، ثمّ تضع "إعادة إدراكه" بين قوسين، ثمّ تستوحش المُدرَك والمستعاد إدراكه، أو تستألفهما، في "صالة مرايا" ذهنيّة لا سقف لها، ولا مسطبة، ولا جدران.
تحوُّلات المتاهة
لكنّ المتاهة بأنواعها الثلاثة ليست لعنة مطلقة، بل يمكن تحويلها من "حالة ذهنيّة مَرَضيّة" إلى "لعبة كتابيّة إبداعيّة" بخطوتين:
واحدة نظريّة، إذ في لحظة الخلق الإبداعيِّ يسهم النقد، عبر فعل "التحويل"، في الخروج من المتاهة، حيث ينقل "المعرفة الميّتة" إلى "ضوء الحياة" (البرغوثي، 2004-ب). وكمثال على كشف النقد خريطةَ المتاهة، يبيّن البرغوثي موقعيّة "الأنا" بين الذاتيّة والموضوعيّة في نصَّيِ "المتاهات" (بورخيس، 1962) و"موللوي" (بيكيت، 1955)، موضحًا أنّه "بينما يسعى بورخيس إلى تصميم متاهة تحكمها قوانين إنسانيّة لتحلّ محلّ الكون الحقيقيِّ، يسعى بيكيت إلى تقليص الأنا أو الفرد حتّى تختفي قدرتها أو قدرته على فعل أيِّ شيء ... بدل الأنا الّتي يختفي العالم أمامها عند بورخيس، عندنا الأنا الّتي تختفي أمام العالم عند بيكيت" (البرغوثي، 1983-ب). يقف البرغوثي بين المتاهتين، ويختم أطروحة "الصوت الآخر"، بسؤال مفتوح تتمارى فيه الذات في موضوعها، والموضوع في ذاته الخالقة، وهكذا دواليك. إنّه جدل التاريخ بين سادة وعبيد ... لا بدء، ولا انتهاء.
والأخرى إبداعيّة، توضّح ماهيّة العلاقة بين الأنا ووعيها لذاتها، بعمل فنّيٍّ للرسّام الإيطاليِّ لوشيو فونتانا، الّذي رسم لوحة تُرى خلفيّتها للواقف أمامها كما يُرى سطحها الظاهر، بعد أن خرقها ليوصل العين إلى السطح الخلفيّ. ففقدان الإدراك، لدى البرغوثي، هو حالة أنطولوجيّة، لكنّه أيضًا محاولة تشبه خرقًا من هذا النوع للوحة الوجود، ذلك أنّ "فقدان الإدراك افتراع لبكارة الإدراك، مكان ذهنيّ جديد، لوحة نراها من الجهتين". أمّا الخوف من فعل ذلك، فهو المتاهة بعينها، يتسبّب فيها الخوف ذاته من رؤية الجانب الآخر، والعبور إلى الضفّة الأخرى، وهذا ما عبّر البرغوثي عنه، لاحقًا، بـ"الفراغ الّذي رأى التفاصيل" (البرغوثي، 1996-أ). هنا، تتحوّل "حالة فقدان الإدراك" من متاهة مَرَضيّة إلى لعبة إبداعيّة، حين تُستدعى بوعي وإرادة، بحيث تصير ماكينة تخييليّة توقِف "الإدراك المألوف للمألوف" ... وهذا ما ينقل المتاهة من ذات الكاتب إلى ذات المتلقّي. وعلى ذلك، تلزم معرفة عُليا بالعلامات لتجاوز المتاهة في كتابة البرغوثي، إذ هي كتابة: ترحاليّة، سُلاليّة، تخريبيّة، لاهثة.
كتابة البرغوثي ترحاليّة، يتغاير فيها التزمين (Temporal) والتمكين (Spatial) لاستضافة ثلاثة عقود من الإبداع - منذ أوّل قصيدة معروفة له في نهاية مرحلته الثانويّة (1972) حتّى آخر سطر في رائعته النقديّة "الناقة كفنّ معماريّ" (2002) - وتروي خمسة عقود من العيش (1954-2002) بين آسيا، وأوروبّا، وأمريكا. ولذا؛ ينبغي أن نتصوّر ثلاثة أبعاد لكلّ صيغة من كتابات البرغوثي: عيش التجربة (فعليًّا)؛ والكتابة عنها (سرديًّا)؛ وتلقّيها (ارتجاعيًّا). وللتمثيل على ذلك، فقد بدأ اهتمام البرغوثي بفاعليّة الذهن المبدع، كثيمةٍ أمٍّ في "الصوت الآخر"، خلال دراسته في بودابست (1973-1977)، إذ وردت أولى الإشارات إلى ذلك في "الضفّة الثالثة لنهر الأردنّ" (البرغوثي، 1983-أ)، الّتي استكمل كتابتها في رام الله؛ وأخذت الفكرة بالتبلور خلال دراسته للماجستير في سياتل (1985-1987) متأثّرًا بأفكار "بَرِي"، البطل النقيض في "الضوء الأزرق" (البرغوثي، 2001)، الّذي "قرّر كتابة بحث عن القوانين الّتي تحكم الكون والذهن"، حيث ازداد اهتمام البرغوثي بسؤال: "كيف يمكن الذهن أن يُعيد تصميم نفسه؟" عبر "الهندسة العُليا" الّتي صاغ بعض أسئلتها في رام الله، لاحقًا، في "الفراغ الّذي رأى التفاصيل" (البرغوثي، 1996-أ)، و"ما قالته الغجريّة" (البرغوثي، 1998-أ) ... وتستمرّ هذه النسابيّة الفكريّة في السنوات الأولى من انتفاضة الحجارة (1987-1989)، إذ ينشغل البرغوثي بـ"الفنّ العسكريِّ للروح، وبنية العقل المبدع" (البرغوثي، 1997)، نواةً لأطروحته للدكتوراة "الصوت الآخر: مقدّمة إلى ظواهريّة التحوُّل"، الّتي انتهى من صياغتها بالإنجليزيّة في سياتل في عام 1992؛ ودرّس بعض فصولها (الّتي لا تزال موجودة على شكل شذرات بالعربيّة والإنجليزيّة بخطّ يده)، دون الإشارة إلى الأطروحة على وجه التحديد، لطلبته في "جامعة بير زيت" (1992-1996)، ولتتجلّى أفكارها في كلّ أعماله، وحواريّاته مع محمود درويش وغيره (1995-2002)، دون أن يأتي على ذكرها إلّا لِمامًا ... وها هي تُقرأ الآن، في عام (2020)، بالعربيّة، بعد قرابة ثلاثة عقود على ولادتها.
وهي كتابة سُلاليّة، تتصادى فيها الأصوات وتتناسخ فيها الأرواح، ولا تنتهي بالتخطيط والكتابة والنشر، بل "تتناتج"، دائريًّا، في حيوات أخرى لفواعل آخرين. هذا هو جوهر "الصوت الآخر"، الّذي يبقى، على الدوام، صوتًا آخر تجسِّده سيرة البرغوثي نفسه. فعلى امتداد أوديسّته الإبداعيّة، أنتج البرغوثي كتابة تعدّديّة تتبدّى فيها، حرفيًّا، هندسة "الجينات" لا "الجينيالوجيّات"، وتحكمها ذاكرة ثلاثيّة الأبعاد: هو، ومن قبله (والداه)، ومن بعده (ولده). ثلاثة أجيال، يشبه تناسخها "مدّ الزيتون في الزيت"، إذ ثمّة شجرة الزيتون (والدان وأسطوريّات رعويّة)، وثمر الزيتونة (حسين نفسه)، والزيت (ابنه آثر)، حيث يُنشئ السرد أوديسّة موحِّدة تتمارى فيها أشكال التحوُّل التاريخيِّ والأسطوريِّ لسكّان "الدير الجوّاني" ومرتاديه، ويصير "الدير" هو الراوي، والرواية، والمرويّ عنه. لا يكفّ البرغوثي، تلميحًا وتصريحًا، عن إيمانه بتناسخ الأرواح بين الأجداد والآباء والأبناء والأحفاد، ويحيل إلى "خُرِّيفيّة" المتسوِّلة الفلسطينيّة النبيلة، في رام الله خلال انتفاضة الحجارة 1987، الّتي دعت له، بالقول: (يْخَلِّيكْ الله حجرْ رخامْ، لا يِنْزاحْ ولا يِنْقَامْ، لا برغبةْ الـحُسَّادْ ولا بْنِيِّةْ الـحُكّامْ. يْخَلِّيكْ الله حَجَرْ البيتْ، ويمدّ سنينْ طويلةْ في عمركْ، مدّ الزيتونْ في الزيتْ) (البرغوثي، 2003). كان البرغوثي في طفولته "قصبة شاغرة"، وأحالته التجربة إلى "قصبة شاعرة"، وحين أنجب آثر، تنافذت القصبتان، حدّ أنّ ابنه اقترح عليه تبادل الأدوار (حسين يصير آثر، وآثر يصير حسين)! وفي مرويّة أخرى، يذهب الشيخ الدرزيّ، من الجولان السوريّ المحتلّ، للحسم بأنّ حسين ينطق على لسان آثر، فتنطق "الروح الكبرى" لـ"الجبل الّذي فيه" (وقد تصالح مؤقّتًا مع "البحر الّذي فيه"): ذاكرةً، وتاريخًا، وأسطورة عن المولودَين "خارج الزمن" الدائريِّ، الّذي خسرته الآلهة القمريّة في لعبة دومينو. فبعد ولادة طفل "السادن" (البرغوثي، 2003) في "قصص عن زمن وثنيّ" (البرغوثي، 2002-ب)، نطقت من معدته "قوًى عُليا"، وصار شريكًا في بطولة النصّ - الحياة، ومُعيدًا لها، حرفيًّا، في لحظات استعادة جديدة على "دروب الغجر" في هوامش آسيا، وأوروبّا، وأمريكا.
وهي كتابة تخريبيّة؛ لأنّها إبداع من نوع خاصّ: "نفيٌ يتقدّم" أيديولوجيًّا وأنطولوجيًّا، لزعزعة النظام وزلزلة القارّ، في الرحلة الدائريّة لـ"العَوْد الأبديِّ إلى أوّله" بين "النسق الشرقيِّ" و"النسق الغربيِّ" (البرغوثي، 2004-ب). فالبرغوثي، المهووس بموسيقى الشعر العربيّ في مدرسته الثانويّة، يبدأ قراءة الثقافة - الحياة وإنتاجها بمنظور ماركسيّ، وما علق به من رؤًى كُتبت بالألمانيّة ونُفِّذت بالروسيّة، فيحلِّل القرية والأدب والفنّ والتاريخ كتمثُّلات لحياة رأس المال، ومقاومته. ثمّ ينتقل إلى قراءة الثقافة - الحياة وإنتاجها بمنظور الرباعيّ الخطِر من "الفوضويّين الشباب" - فوكو، ودريدا، ودولوز، وليوتار، وما علق به من رؤًى كُتبت بالفرنسيّة ونُفِّذت بالإنجليزيّة، فيكسر المركزة (؟؟؟) الغربيّة لـ"المقارنة" الأنجلو - سكسونيّة في الأدب المقارن، ويجعل من "التفكيك" مدرسة في الكتابة، ومن "التشتيت" مدرسة في القراءة، ومن اجتماعهما مدرسة في التجاوز. ثمّ ينتهي إلى قراءة الثقافة - الحياة وإنتاجها بمنظور كونيّ يستلهم "الحكمة المشرقيّة"، وما علق به من رؤًى كُتبت بالصينيّة ونُفِّذت باللغات الشرقيّة، ساميّة وغير ساميّة، ليتّخذ من الاحتجاب طريقًا في الكشف، ومن "الرقص الروحيّ" الّذي لا تنتهي دورته طريقًا في الوصول. لكنّ هذه الأوديسّة (الخروج - من كوبر وفلسطين؛ والرحلة - إلى لبنان والمجر وأمريكا؛ والعودة - إلى كوبر في ريف فلسطين) تزامنيّة تستعصي على التعاقب، رغم سيادة نمط ما من التحليل والنظر أكثر من غيره في فترة ما. والكتابة، وهذا مسار التحوُّلات لكاتبها، كتابة تجاوزيّة بين الأنواع، تجعل الشعر ميدانًا للسرد، وتجعل السرد وجهة نظر في الشعر، وتجعل النقد توقًا دائمًا إلى كشف "الرياضيّات العُليا" في كليهما. وعلى ذاك؛ فأعمال البرغوثي تقول مسار "أناه الواعية"، مراوِحةً بين التخييل (Fiction)، والسيرة (Autobiography)، وما فوقها (Metabiography)، في الشعر والسرد والنقد ... وهذا كلّه يظهر في مصادر "الصوت الآخر"، وأدواته، وخلاصاته.
وهي كتابة لاهثة، لأنّها كتابة فلسطينيّة: واضحة البداية، مشتَّتة الرحلة، مبتورة النهاية. وعلى الرغم من عدم بروز "الفلسطنة" في نتاجات البرغوثي بصورة فرجويّة، إلّا أنّ أعماله كلّها، والنقديّة منها على وجه التحديد، أظهرت فهمًا عميقًا لطبيعة المأساة الفلسطينيّة، في صراعها مع أبشع تجلّيات الرأسماليّة والإمبرياليّة العالميّة في هيئة الاستعمار الصهيونيّ. لم ينعكس ذلك على التحليل السياسيّ والاقتصاديّ فحسب، بل امتدّ لبلورة موقف جماليّ وأخلاقيّ من الذاكرة الدخيلة - "ذاكرة النيون" في زمانها ومكانها المغلقَين على الذاكرة الأصلانيّة - "ذاكرة القمر" في زمانها ومكانها المفتوحَين. لقد فتح المرض روزنة ذهنيّة على طفولة البرغوثي الّتي صادرها الإسرائيليّون، فاستدعى مرويّات "الذاكرة القمريّة" العميقة الّتي تختزن التاريخ الاجتماعيّ، المتناسخ عبر الأجيال، لقرية كوبر، قبالة "ذاكرة النيون" الضحلة لمستوطنة "حلا - ميش" وفضاءاتها الاستعماريّة، الّتي لا يُعرِّفها إلّا السلك الشائك والبوّابات الممغنطة وأنظمة الحراسة ... لتبدو مَرْكبة غازيّة تحاول احتلال قمّة التلّة، لكنّها تظلّ "معلّقة في الفضاء، [لا] تلمس الأرض، ولا التاريخ" (البرغوثي، 2004-أ). ومع أنّ كتابات البرغوثي، دون استثناء، تبدو مبتورة النهاية؛ لأنّه مهجوس بالأسئلة، المتوالدة بـ"الرشاقة الذهنيّة"، أكثر من الإجابات، كما هو واضح في "الصوت الآخر" الّذي تُرك بلا خاتمة ... إلّا أنّ كتاباته تحت وطأة المرض، في نصف العقد الأخير من حياته، اتّسمت بمسحة ميلانكوليّة حادّة تمنح تفسيرًا آخر لتلك الظاهرة. فثمّة لهاث فيزيائيّ، ولغويّ، وروحيّ، في نصوص هذه الحقبة الّتي اشتملت أقسامها الأخيرة على هوامش داخليّة، وملاحظات يبدو أنّ البرغوثي لم يمتلك الوقت لإدماجها في النصّ. كان المرض يفتك بدمه ورئتيه، ولم يتمكّن "فيزيائيًّا" من مواصلة الكتابة. لم يكن "الصوت الآخر" استثناء من هذه السمة، فالفلسطينيّ اللاهث، في زمنه الدائريِّ، يدوّن الأسئلة، وقد لا يرى الإجابات إلّا بعيون رفاقه الأوفر عمرًا ... كان وارد البرغوثي وفيرًا، ووقته قصيرًا، فكانت "الكتابة على قدر الوقت، لا على قدر الوارد".